أثارت الرسالة الأمريكية لكل من لبنان و”إسرائيل” الكثير من اللغط والنقاشات والمزايدات على المسرح السياسي للطرفين المعنيين. وإذا كانت حماوة المزايدات في الكيان المحتل أقوى وأعلى مما هي في لبنان بسبب الانتخابات التشريعية المرتقبة مطلع الشهر المقبل، فإنها تتبدى لبنانياً كأنها جعجعة ومزايدات من اليمين واليسار من دون أن يكون أي من الأطراف والقوى السياسية المزايدة أو حتى الشخصيات المستقلة قد اطلع على المضمون الرسمي للترسيم المزمع. وبات معظم أبناء الشعب اللبناني خبراء طبوغرافيا وقوانين دولية تتعلق بالبحار والانهار والجُزر، وكل يستخدم هذه “الخبرة” لتبرير وتدعيم وجهة نظره المؤيدة او المعارضة.
وفي قراءة هادئة للرسالة التي لا نعرف عنها الا ما جرى تسريبه في وسائل الاعلام من دون تأكيد او نفي لاي معلومة فيها، لا بد ان يبدأ القارئ من نقطة البداية لعملية الترسيم وهي المفاوضات مع “إسرائيل” التي بدأت منذ قرابة العشر سنوات، وتوالى على الوساطة فيها أكثر من خمسة مبعوثين أمريكيين ورئيسين وخمس حكومات في لبنان. لذلك تحاول هذه المقالة ان تقرأ نتائج هذا الترسيم من خلال استعراض ما له وما عليه.
أولاً؛ بدءا من موازين القوى التي تحكم الاتفاق واي اتفاق في أي مكان في العالم، لا داعي للتذكير ان الوسيط في هذه المفاوضات لا يتمتع بالمواصفات التي تخوله ان يكون وسيطا في عالم مثالي، لان الوسيط في هكذا عالم لا بد ان يكون نزيها وعادلا وغير منحاز، فيما الوسيط الأمريكي في هذه العملية ليس نزيها ولا عادلا، بل هو منحاز، بشكل فاضح ومكشوف للكيان المحتل ولا يخجل من الاعراب عن انحيازه، لا بل انه من كل ما لدى الولايات المتحدة الامريكية من خبراء ودبلوماسيين اختير هذه المرة المبعوث “الإسرائيلي” المنشأ والولادة، لا بل هو ضابط احتياط في جيش العدو بعد ان كان خدم في صفوف هذا الجيش لمدة ثلاث سنوات في تسعينيات القرن الماضي. وبالتالي من نافل القوى ان هكذا وسيط لن يخلع عباءته “الإسرائيلية” من اجل مصالح لبنان.
من النتائج غير المرئية لورقة الترسيم بالإمكان القول ان حزب الله تمكن إدارة ملف التفاوض من خلف الكواليس، مزودا الفريق اللبناني المفاوض بورقة قوة لا يستهان بها، ولكن الأهم من ذلك بعد توقيع الورقة التفاوضية هو ان حزب الله اثبت للإدارة الامريكية انه طرف سياسي جدير بالحوار معه والتفاوض معه وصناعة التسويات معه
ثانياً؛ دولياً، جاءت الحرب الأوكرانية وما رافقها من حرب اقتصادية بين روسيا من جهة والغرب وعلى رأسه أمريكا من جهة ثانية ليضع مسألة الطاقة ومواردها في صلب هذه الحرب بعد ان ردت روسيا على مسلسل العقوبات التي فرضها الغرب عليها بتقنين امدادها لأوروبا بالغاز والنفط مع التهديد بقطع هذه الامدادات كلياً، لا سيما بعد ان استعاضت روسيا عن السوق الأوروبية بالسوق الاسيوية. ما جعل أوروبا تصل الى موسم الشتاء وهي في حالة يرثى لها اقتصاديا عمادها التضخم الهائل في اقتصاديات دولها والنقص الفادح في مخزونها الاحتياطي من الغاز وبالتالي جعلها والولايات المتحدة يحثون الخطى بحثا عن موارد غازية بديلة، وما توفر لها من موارد حتى الآن يشكل عبئا كبيرا على اقتصادياتها نظرا لكلفة النقل الباهظة. وهو ما تبلور على شكل ارتفاع مذهل لأسعار المحروقات في العالم وليس فقط في أوروبا.
ثالثاً؛ لبنانياً، تم التوصل الى الاتفاق في ذروة الازمة الاقتصادية والمالية الخانقة وغير المسبوقة في العالم منذ أكثر من قرن والتي يعاني منها لبنان منذ ثلاث سنوات، وهي ازمة ناجمة عن حصار امريكي وغربي وخليجي خانق للبنان ماليا واقتصاديا وسياسيا، ويتحالف مع هذا الحصار منظومة سياسية حاكمة منذ أكثر من ثلاثين عاما، عاثت في البلاد والإدارة العامة فسادا ونهبا وسرقة وتدميرا لأسس الدولة بدعم وغطاء وتمويل من الولايات المتحدة وحلفائها وصناديق المال الدولية التي تمون عليها، ما أوصل البلاد الى هذه الازمة. وبالتالي جاء الأمريكي اليوم ليستثمر في هذه الازمة ويقول للبنان ان كنت تريد الخروج منها لا بد من التوقيع على الترسيم، ولكن بسبب الحاجة الماسة والسريعة للغاز كان لا بد للامريكي ان يحفظ للمفاوض اللبناني الحد الادنى من ماء الوجه على شكل تحقيق بعض المطالب.
رابعاً؛ في لعبة موازين القوى بين لبنان والكيان المحتل، لا شك ان جيش الكيان يمتلك ترسانة أسلحة ضخمة وهو من اقوى جيوش المنطقة ويتمتع بدعم كبير من الولايات المتحدة الامريكية والكثير من الدول الاوروبية، ولكن تنامي القدرات العسكرية، لا سيما منها الصاروخية والتقنية المستندة الى التكنولوجيا الحديثة في المسيرات الجوية والبحرية ودقة الصواريخ لدى حزب الله وتمكنه من تشكيل معادلة ردع مع العدو عطل الى حد كبير إمكانية ان يفرض هذا العدو شروطه بالكامل في الترسيم المزمع. وقد تمكنت قيادة المقاومة من الاستفادة من ازمة الطاقة في أوروبا واستعجال الولايات المتحدة لإيجاد بدائل للغاز الروسي باي ثمن ومعرفة هذه القيادة ان الولايات المتحدة ليست في وارد السماح باندلاع حرب في الشرق الأوسط، لا سيما في الوقت الذي تشهد فيه أوروبا اعنف حرب على أراضيها منذ الحرب الامريكية الغربية على يوغوسلافيا في تسعينيات القرن الماضي، فجاءت الخطابات النارية المهددة التي كرر فيها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عدم التورع عن الذهاب الى الحرب اذا اقتضى الامر ذلك، ومن المعروف ان نصرالله يتمتع بمصداقية كبيرة فيما يقول عادة عند العدو قبل الصديق، فجاءت خطاباته لتُثبّت معادلة الردع ولتعزز ورقة القوة في يد المفاوض اللبناني.
ومن النتائج غير المرئية لورقة الترسيم بالإمكان القول ان حزب الله تمكن إدارة ملف التفاوض من خلف الكواليس، مزودا الفريق اللبناني المفاوض بورقة قوة لا يستهان بها، ولكن الأهم من ذلك بعد توقيع الورقة التفاوضية هو ان حزب الله اثبت للإدارة الامريكية انه طرف سياسي جدير بالحوار معه والتفاوض معه وصناعة التسويات معه. فعلى الرغم من كل التعبئة التي مارسها حزب الله لجمهوره بمعاداة “الاستكبار العالمي” ها هو يصنع تسوية مع العدو الوجودي لبلدنا برعاية ووساطة من ممثل الاستكبار العالمي وقد اظهر انه يمسك بقوة ناصية هذا الجمهور، ففي ظروف أخرى كان هذا الجمهور ليقيم الدنيا ولا يقعدها لمجرد الكلام عن تفاوض مع العدو، اما اليوم فيكاد هذا الجمهور ينظم الاحتفالات بتوقيع التسوية، وذلك يعني رسالة غير مباشرة للإدارة الامريكية تفيد ان حزب الله قادر على صناعة اي تسوية معها في أمور أخرى تبدأ بتشكيل حكومة ولا تنتهي بانتخاب رئيس للبلاد.
لكل ذلك بالإمكان القول ان ورقة الموافقة على الترسيم تمت وفق معادلة يمكن وصفها بالربح للطرفين أي ما يسمى باللغة الإنكليزية win – win situation وإذا كان طرفا الصراع قد ربحا لا بد من التوقف عند مدى الربح الذي تحقق لكل طرف.
أولاً؛ “إسرائيل”: من المعروف ان اعمال الإستكشاف والتنقيب عن الغاز قد وصلت الى حد القدرة على البدء بالاستخراج من حقل كاريش في اللحظة التي يتم فيها التوقيع النهائي، وقد كشف مسؤولو الكيان ان تجربة الجر العكسية للغاز من البر الى البحر قد جرت خلال الأسبوع الماضي بنجاح ما يعني ان جر الغاز من البحر الى البر ستكون ناجحة في اللحظة التي يعلن فيها البدء بتنفيذ الترسيم. وهكذا فان الربح “الإسرائيلي” والبدء بمراكمة المنافع المادية واضح ولا حاجة لكثير من الدلالات.
إن كان من مأخذ على قيادة المقاومة في هذا المجال فهو قول السيد نصرالله ان المقاومة تقف وراء الدولة وأنها توافق على ما توافق عليه الدولة وترفض ما ترفضه، لان ذلك امرا غير دقيق فالمقاومة لا يجب أن تلتزم بما تلتزم به الدولة عندما يتعلق الامر بالسيادة الوطنية، شأنها في ذلك شأن كل المقاومات في العالم
ثانياً؛ لبنان: تأخرت الدولة اللبنانية كثيراً في البدء بأعمال التنقيب، وهذا أيضا بسبب الحصار الأمريكي الغربي الذي منع أي شركة من البدء بهذه العملية في السنوات الماضية ومنها شركة توتال الفرنسية، وفي أحسن الأحوال، وإذا ما بدأ لبنان التنقيب الآن فانه يحتاج الى ما لا يقل عن أربع إلى خمس سنوات للبدء بضخ الغاز. وهكذا فان الخسارة المادية للبنان المتأخر عن التنقيب بادية ولا حاجة لدلالات.
أما السؤال عما إذا كان توقيع لبنان على الرسالة التي يوافق فيها على الترسيم يعتبر اعترافاً بالكيان “الإسرائيلي” فان الإجابة عليه لا بد ان تلحظ ان عملية الترسيم البحرية تشبه الى حد بعيد عملية ترسيم الخط الأزرق برا، وهو الخط الذي جرى الاتفاق عليه بعيد الانسحاب “الإسرائيلي” في العام 2000، وحينها لم نسمع أي صوت يصف ترسيم الخط الأزرق بانه اعتراف بدولة الكيان الغاصب. ومن المعروف ان وجود الخط الأزرق منذ 22 عاما وتوسيع دور القوات الدولية العاملة في لبنان (اليونيفيل) عام 2006 ليصل عديدها الى قرابة 11 ألف جندي لم يمنع من استمرار الصراع مع هذا العدو ومن استمرار تكديس الأسلحة على طرفي الحدود، وبهذا المعنى فان الترسيم البحري شأنه شأن الترسيم البري هو عملية ربط نزاع مع هذا العدو لا أكثر. وإن كان من مأخذ على قيادة المقاومة في هذا المجال فهو قول السيد نصرالله ان المقاومة تقف وراء الدولة وأنها توافق على ما توافق عليه الدولة وترفض ما ترفضه، لان ذلك امرا غير دقيق فالمقاومة يجب ألا تلتزم بما تلتزم به الدولة عندما يتعلق الامر بالسيادة الوطنية، شأنها في ذلك شأن كل المقاومات في العالم. من فرنسا في زمن الاحتلال النازي الى فيتنام في زمن الاحتلال الأمريكي، وصولا الى انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في العام 1982 في ذروة التحالف الضمني للدولة اللبنانية ممثلة بشخص رئيسها المنتخب بشير الجميل مع العدو الإسرائيلي.