في الخامس عشر من أيلول/سبتمبر 1964 كتبت صحيفة “الحياة” اللبنانية أن الرئيس فؤاد شهاب وقبل أسبوع من انتهاء ولايته الرئاسية، استقبل وفدا قياديا من حزب “الهيئة الوطنية” ممثلا بأمين العريسي وعدنان حيدر وشفيق الوزان وأنيس روضة وحسين سجعان، وبعدما “أعربوا له عن إكبارهم لسياسته” صارحهم شهاب بـ”مشروع” ما بعد خروجه من الرئاسة الأولى “سأعيش بعيداً عن كل شيء، لقد جاء دوري للوقوف على الشرفة كي أتفرج بعد أن طال عملي السياسي وأصبحت صحتي تحتاج إلى الراحة”.
ونقل مندوب “الحياة” الخاص (23 ـ 9 ـ1964) تفاصيل لقاء “اليوم الأخير” الذي سبق مغادرة شهاب مقاليد الدولة والسلطة، حيث التقى رئيس الحكومة المستقيلة حسين العويني وفريقه الوزاري في المقر الرئاسي في بلدة عجلتون، فاستهل العويني اللقاء بالقول “عاشت البلاد في وحدة وطنية كاملة تحت لوائك، وستعود إليك البلاد دائما في الملمّات، وردّ شهاب على العويني شاكراً، وقال إنه ذاهب أخيراً إلى بيته وإنه أوصى على عدة زراعة لكي يتسلى في الحديقة كما أوصى على عدة نجارة، وأضاف “أود أن أراكم دائماً وأن تبحثوا معي في مختلف الأمور العامة ما عدا السياسة”.
لو جرى التدقيق في “اللامنطوق” الذي أفصح عنه شهاب في اللقائين الآنفي الذكر لتبين أن اللامنطوق أشد بلاغة من قوة المنطوق، فشهاب لم يتحدث عن استكمال مشروعه السياسي بعد انتهاء ولايته، مع أن بناء أعمدة الدولة اللبنانية يعود إليه، كما أنه كان شفافاً بقوله “صحتي تحتاج إلى الراحة”، علماً انه من مواليد عام 1902، أي أنه كان في الثانية والستين من عمره حين بلغ عهده الرئاسي ختامه، وبما يعني ان أبواب الزمن والسياسة كانت ما فتئت مشرعة أمامه ومع ذلك آثر الإعتزال والتفرغ لـ”أعماله الخاصة” في حديقة منزله!
في “جمهورية فؤاد شهاب” للزميل نقولا ناصيف أن شهاب “كان يُودع صخب الحكم إلى سكينة دافئة، مذ ترك المنصب في 23 أيلول/سبتمبر 1964، لزم عزلة طويلة في منزله الصغير والبسيط، راح يردد على مسامع مرافقيه ما كان درج إلى إقرانه بميله إلى الإنطواء والإبتعاد عن الضجيج والناس والحياة الإجتماعية، لم يكن يغادر بيته إلا قليلاً للتنزه مع زوجته، او زيارات قصيرة لأصدقاء حميمين كان يعتبرها ضرورية”.
ويتحدث الأب يعقوب سقيم في كتابه “بين راهب وأمير” عن تواضع فؤاد شهاب بالكلمات الآتية:
“يوم الأحد 26 آذار/مارس 1967 دخل الجنرال شهاب باب الكنيسة الساعة التاسعة ليشترك في الذبيحة الإلهية، وجلس كعادته على البنك قبل الأخير في الكنيسة، وكنتُ قد هيئتُ له كنبة أمام المذبح، فرفض الجلوس عليه قائلا: مثلي مثل الحاضرين”.
لعل فؤاد شهاب في ذلك المشهد الإنساني، وعلى قلة درايته باللغة العربية والشعر العربي، أبى إلا أن يقرن بالفعل قول الشاعر إيليا أبو ماضي:
فاخفض جناحك للأنام تفز بهم/إن التواضع شيمة الحكماء.
قبل أقل من أسبوع من مغادرة الرئيس فؤاد شهاب القصر الرئاسي أصدر مرسوما بخفض أحكام الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة بحق قياديين من “الحزب السوري القومي الإجتماعي” كانوا دبروا محاولة انقلابية فاشلة في أواخر كانون الأول/ديسمبر 1961، وفي تغطيتها لهذا الحدث نقلت صحيفة “فلسطين” عن مراسلها في بيروت (22 ـ 9 ـ 1964) قوله “وقد أذيع أمس هذا المرسوم الذي وقعه الرئيس شهاب يوم السبت الماضي، والثمانية الذين شملهم المرسوم هم كل من النقيبين السابقين فؤاد عوض وشوقي خيرالله والملازم السابق علي الحاج حسن والدكتور عبد الله سعادة رئيس الحزب القومي السوري المنحل ومحمد بعلبكي رئيس المجلس الأعلى للحزب وبشير عبيد عميد الدفاع ومحمد عباس نزهة وجبران الأطرش من أعضاء الحزب المنحل”.
شهاب لم يتحدث عن استكمال مشروعه السياسي بعد انتهاء ولايته، مع أن بناء أعمدة الدولة اللبنانية يعود إليه، كما أنه كان شفافاً بقوله “صحتي تحتاج إلى الراحة”، علماً انه من مواليد عام 1902، أي أنه كان في الثانية والستين من عمره حين بلغ عهده الرئاسي ختامه، وبما يعني ان أبواب الزمن والسياسة كانت ما فتئت مشرعة أمامه ومع ذلك آثر الإعتزال والتفرغ لـ”أعماله الخاصة” في حديقة منزله!
وفي هذا المرسوم الذي قضى بإبعاد المقاصل والمشانق عن المشهد اللبناني العام، يكون فؤاد شهاب قد أبعد روح الإنتقام والحقد عن سلوكه السياسي وتجرًد من سياسة حفر القبور إيماناً منه بما قاله الشاعر العربي القديم عنترة العبسي:
لا يعرف الحقد مَن تعلو به الرُتَبُ/وَلا يَنالُ العُلا مَن طَبعُهُ الغضبُ.
أو في قول شاعر آخر هو المقنع الكندي:
ولا أحمل الحقد القديم عليهم/وليس كبيرالقوم من يحمل الحقدا.
بعد انتخاب شارل حلو رئيساً للجمهورية، كتب الأستاذ ميشال ابو جودة في “النهار” اللبنانية (18 ـ 8 ـ 1964) عن فؤاد شهاب معلقا “نكاد نعد على اصابع اليد الواحدة الدول التي لا يخلف فيها الحاكم نفسه، الا ان البلد الصغير استطاع ان يحقق اعجوبتين: ان يخلف الحاكم حاكم آخر، وأن يكون خلف الحاكم العسكري حاكما مدنيا، وأعجوبة ثالثة أن يتم ذلك بمساعدة الحاكم العسكري المنشأ، فؤاد شهاب ليس فقط لم يدع نفسه يجدد، بل لم يترك الحكم للعسكريين حرصاً عليهم، وهذا درس للعسكريين والمدنيين معاً”.
كأن ميشال أبو جودة في تعليقه ذاك ابتغى قولاً بأن فؤاد شهاب استبق مبكراً الوقوف على نقيض قصيدة لنزار قباني (الديك) ولم تكن من مولوداته الشعرية بعد، وفي مضمون تعليقه يقلب مضمون القصيدة النزارية رأساً على عقب، ويصوغ مشهدية خاصة تتآلف مع شخصية فؤاد شهاب، وبصورة تصبح فيها القصيدة على الوجه التالي:
لم يخطب يوما كالحجاج
لم يمش زهوا كالمأمون
لم يصرخ يا سبحاني يا سبحاني
فأنا الدولة والقانون!.
لم يُعرف عن فؤاد شهاب حين غادر مهامه الرئاسية أن نعت او وصف خصومه بغير”أكلة الجبنة”، وهم كُثر على أي حال كانوا وما زالوا، لكن الرجل لم ينزلق إلى الدرك الأسفل من النعوت والمفردات والتوصيفات، ظل محافظاً على مقام الكلمة لأن “في البدء كان الكلمة” على ما كان يؤمن ويعتقد، وحين كان يأتيه “بالأخبار من لم يزود” وتلك الأخبار تطعن به وتشنِع، كان يجيب: على المرء ألا يُصاب بإغواءات الذم والقذف.
وإذ لم ينجب فؤاد شهاب بنينا ولا بناتا، فإنه لم يشكل حزباً ولا تياراً يرث “نهجه” ويستنير بـ”مشعله”، ولذلك حين وقع خياره الرئاسي على شارل حلو فلأنه “ليس عنده حزب ولا أنصار ولا عائلة يمكن أن تسيء إلى الحُكم وتستغله”، كما يؤكد كبير ضباط جهاز “المكتب الثاني” ووزير الداخلية اللبنانية الراحل سامي الخطيب في حوار “والي بيروت يفتح دفاتره” أجراه معه الزميل سركيس نعوم في صحيفة “الحياة” في كانون الأول/ديسمبر 1994، فيما يقول وزير الخارجية الأسبق فؤاد بطرس في كتابه “المذكرات” إنه اجتمع مع شهاب عشية الإنتخابات الرئاسية عام 1964 “واستعرضنا أسماء المرشحين فإستبعد تلقائيا اسم النائب عبد العزيز شهاب لا لسبب إلا لأنه من آل شهاب”.
في عددها الصادر في الثالث والعشرين من أيلول/سبتمبر 1964، خصّصت صحيفة “الحياة” صفحتها الثالثة لـ”حصيلة المنجزات التي حققتها الشهابية طوال ست سنوات” ومما جاء فيها:
ـ المياه: “مئات القرى وصلتها مياه الشرب الجارية وخلال ثلاث سنوات سوف تنتشر في جميع منازل المحافظات حنفيات الماء”، وهذا ما تحقق بالفعل في عهد الرئيس شارل حلو خليفة شهاب.
ـ الري: “سد القرعون يكفي لري أربعمئة ألف دونم، وقد أنشئت بحيرات اصطناعية ويجري إنشاء بحيرات أخرى، وسوف تروي بحيرة كواشر ثلاثة آلاف دونم في مرتفعات عكار”.
ـ الطاقة: “ليست المياه مصدر الحياة فحسب، بل هي كذلك مصدر الطاقة المتجمعة في سبعمئة مليون متر مكعب من نهر الليطاني، ومع مصانع مركبة سوف تبلغ طاقة المصنع الحراري ضعفا ونصف الضعف بالنسبة لطاقة مصنع ذوق مكايل الذي تبلغ طاقته 130 ألف كيلو واط، وسوف تزيد طاقة مصنع الجية الذي سينشأ قرب صيدا ثلاثة أضعاف مصنع ذوق مكايل”، وهذا تحقق على أرض الواقع.
ـ في الطاقة أيضا: “في عام 1961 لم تكن تضيء سوى 300 قرية، أما اليوم (1964) فتبلغ ألف قرية، ولن تظل هذا العام أية قرية في عكار محرومة من التيار الكهربائي، وفي نهاية العام القادم سوف ينار لبنان كله بالكهرباء”، وهذا التقدير لم يخالف الحال إلا قليلاً.
ـ المساكن الشعبية: “شُيدت في صيدا وطرابلس مئات المساكن الشعبية وسُلمت إلى عائلات متواضعة ولم يكن ذلك إلا مرحلة أولى، ذلك أنه سوف يُبنى 40 ألف مسكن تستوعب 200 ألف مواطن”.
ـ الطبابة: “يتم إعداد أربع مستشفيات حكومية، أولها في بعبدا ويضم 260 سريرا، والثاني في بعلبك ويضم 150 سريرا، والمستشفيان الآخران في البقاع الغربي والشحار الغربي، وفي العام الماضي (1963) أنجز مستشفى يضم 60 سريرا في مدينة صور وأعيد تجهيز مستشفى آخر في بلدة تبنين، وتجب الإشارة إلى مشروع جريء يقضي بإنشاء مركز طبي في بيروت يضاهي مركز نيوجرسي في الولايات المتحدة وستبلغ تكاليفه مليون ونصف مليون ليرة”.
ـ التعليم: “في عام 1953 لم يكن في لبنان سوى مدرسة واحدة لتخريج المعلمين مقرها بيروت، أما اليوم ففي لبنان خمس مدارس للمعلمين منتشرة في المحافظات الخمس، وما بين 1957 و1964 ارتفعت نسبة الطلاب اللبنانيين 65 في المائة، وفي عام 1957 كانت موازنة تشييد المدارس مليون وثمانمئة ألف ليرة، وفي عام 1963 تجاوزت 5 ملايين ليرة، وارتفعت موازنة وزارة التربية من 20 مليون ليرة عام 1957 إلى 57 مليون ليرة عام 1964، ويتجلى هذا الجهد في التعليم العالي، وقد زادت موازنة الجامعة اللبنانية عشرة اضعاف فارتفعت من 476 ألف ليرة إلى 4 ملايين و310 آلاف ليرة”.
ـ المرافىء: “في موازنة مجلس تنفيذ المشاريع الكبرى مبلغ ستين مليون ليرة لتجهيز المرافىء اللبنانية، وسيقام حوض ثالث في مرفأ بيروت بدأ العمل به في آب/أغسطس 1962 وسيستسع لمائة ألف طن من القمح وسيكلف إنشاء الحوض 40 مليون ليرة صُرفت منها 12 مليون ليرة”.
ـ المطار: “يُقدّر عدد المسافرين عام 1964 ـ عبر مطار بيروت ـ نحو مليونين، وتدل الإحصاءات أن 85 في المائة هم من الأجانب، وهذا يدل بوضوح إلى أهمية لبنان، ومنذ عام 1960 أصبح بإمكان المطار أن يستقبل الطائرات النفاثة، وتجري حاليا في المطار أعمال هامة تتعلق بالتجهيزات الحديثة الهادفة إلى تأمين السلامة الجوية واستقبال الطائرات خارقة الصوت، وستبلغ مساحة المدارج 900 ألف مترمربع، أي ضعف المساحات التي كانت في عام 1954”.
ـ الإصلاح: عنوانه “إبعاد السياسة عن الإدارة، وأول أداة له مجلس الخدمة المدنية الذي يحمي الموظف ويغذي الدولة بالعناصر الطيبة المختارة، إنه مكلف بإعداد وتجهيز وتجميع الموظفين دون أخذ أي اعتبار إلا احترام القانون والمصلحة العامة ـ وأما ـ الجهاز الثاني للإصلاح الإداري هو هيئة التفتيش المركزي”.
ـ التحديث: “الإدارة الجديدة المنظمة ليست كافية لخلق لبنان الجديد، فالموازنة التي لم تكن تتعدى 200 مليون ليرة ارتفعت ـ عام 1964 ـ إلى 520 مليون ليرة وهذا ما جعل الدولة توسع مدى نشاطاتها، ووجدت نفسها مضطرة لإيجاد إدارات حديثة لتلبية الحاجات الجديدة، فأنشأت المصرف المركزي ومجلس الإنماء الإجتماعي ومجلس تنفيذ المشاريع الكبرى والمجلس الوطني الأعلى للسياحة”.
ـ وزارة التصميم: “تلعب دور الموجه في سياسة الإنماء، ولهذا أوجدت في وزارة التصميم مديرية مركزية للإحصاء، ومديرية للدراسات والتصميم، وإدارات أخرى للمراقبة والتوجيه، ومجموع هذه الإدارات يُشكل المحرك الذي يبعث النشاط في مختلف قطاعات التنمية”.
قبل الختام سؤال: من يحاجج “النهج الشهابي” بمتعارضات يورد فيها أن فؤاد شهاب قال ولم يفعل ووعد ولم يُنجز؟
في الختام بيت من الشعر أشبه بالقول المأثور:
فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم؛
إن التشبه بالكرام فلاح.
(*) صور فؤاد شهاب عن موقع الجيش اللبناني