الصين في طريقها إلى “القمة”.. الهيمنة على أوروبا!

"عندما تكتب يا صديقي عن الصين لا تنسى حقيقة أن أنفك طويل. بمعنى آخر لا تحاول الإلمام بكل شيء عن أي شيء، فلم يخلق بعد أجنبي، وأقصد إنسانا صاحب أنف طويل، أي إنسان أجنبي مثلك، استطاع الإلمام بكل شيء عن أي شيء حدث أو يحدث أمامه في الصين".

هذه نصيحة تلقيتها من مواطن صيني قابلته في هونج كونج في أول رحلة عمل لي في الصين، أي قبل عقود عديدة. لم تكن نصيحة مثبطة للهمة بل على العكس كانت، وبخاصة بعد أن ثبت لي صدقها، دافعاً وراء تخصيص وقت ثمين للتعرف على الصين من خارجها بعد العام الذي قضيته فيها في رحلتي الأولى.

***

قضيت معظم أيام الأسبوع الماضي أتابع ما أتيح لنا أن نتابع، أي لغير المشاركين في أعماله وغير الذين اشتغلوا شهورا في التحضير له؛ من هؤلاء المكلفين بمهمة تصفيته من أعضاء في الحزب غير مرضي عنهم، وغير العدد المحدود الذي اشترك في إعداد خطاب الأمين العام للحزب. أما الوظيفة الثانية للأمين العام هي رئيس اللجنة المركزية للحزب والثالثة رئيس اللجنة العسكرية والرابعة رئيس المكتب السياسي، أي رئيس المجموعة الصغيرة جداً المكلفة رمزياً ومؤسسياً قيادة الحزب بشكل جماعي، والخامسة رئيس اللجنة الدائمة ومعظم أعضائها يطلق عليهم الخالدون، وهو التعبير الذي لا يستحق شرف الانتماء إليه إلا من قضى في قيادات الحزب والدولة أغلب سنوات عمره ونجح في أن يحظى برضاء الزعيم فاستمر عضواً بالمكتب السياسي حتى كاد يبلغ التسعين، والسادسة رئيس الدولة وهو الدور الشرفي لشخص الزعيم. منظرهم وهم السبعة أعضاء اللجنة الدائمة مجتمعين في صف واحد على المسرح المطل على القاعة الكبرى للاحتفالات في ميدان تيان آن من أي ميدان السلام الأبدي، منظر يؤكد حقيقة “عبادة” الصينيين لأسلافهم.

قد تستمر الصين في صعودها المريح نسبيا وبتكلفة غير باهظة نحو نصيب لها في القمة حتى إنها يمكن أن تكون مهيمنة (وهي كلمة مذمومة في قاموس الصين السياسي) في قارة آسيا على اتساعها، ولكنها لن تحقق المكانة المرجوة على القمة ما لم “تهيمن” على أوروبا

من الخالدين مثلاً الرئيس السابق “هو جينتاو” الذي وصل إلى هذا العمر، وكاد يقع، أو لعله وقع بالفعل، في خطأ لا يغتفر. قيل لي إنه حاول من مكانه الملاصق لمقعد الرئيس الإيحاء بشكل من الأشكال لألفين وثلاثمائة نائب في المؤتمر أنه يريد أن يعترض أو يحتج فهو الرئيس السابق الذي شارك في التأسيس لقاعدة ألا يحتفظ رئيس الدولة لنفسه بمنصبه لولاية بعد الولاية الثانية. فكان أن تولى مسئول في التنظيم إخراجه أمام مئات الكاميرات الصينية والأجنبية التي احتشدت لتصور اليوم النهائي للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني.

المثير في المشهد أن الرجل ولاعتبار مكانته كرئيس سابق للدولة وأمين عام سابق للحزب ومحل ثقة الجميع جاء مكانه إلى جانب مقعد الرئيس شي. كثيرون فيما أتصور سوف ينالهم عقاباً بدرجة أو أخرى. على كل حال يجب التصريح لمن لا يعرفون أسلوب التحضير لمثل هذه المناسبات أن الأمين العام للحزب يشرف بنفسه ويختار ويقرر من يجلس بجانبه ومن يشترك معه في المكتب السياسي وعددهم الكلي 25 عضوا. خطأ أظن لن تتجاهله سرديات الحزب في المستقبل لما عرف عن شي جين بينج من فراسة في معرفة الرجال وتقييمهم.

خلاصة الأمر هي أن خطأ واحداً دفع لاكتشاف حقيقة مرة للغاية وهي أن للرئيس شي جين بينج معارضون في الحزب بل وفي أعلى مراتبه، وأنه لا يوجد إجماع في الحزب على تأييد السياسات المقررة. أغلب الظن أن أحداً في الحزب سوف يعلن خلال الأيام القليلة القادمة أن الرئيس السابق هو جينتاو مريضٌ ولم يكن قادراً على استكمال أعمال الجلسة النهائية للمؤتمر فجرى إخراجه من القاعة وبقي مقعده خالياً. وإن تخيلت أن المقعد لن يترك شاغراً طوال الجلسة وربما استطاعوا نزعه من موقعه إن كان مثبتا فيه بحيث لا يظل غياب صاحبه مثيراً للتساؤل والفضول بينما الكاميرات مسلطة بقصد على الرئيس وهو يلقي بخطاب طال انتظاره والمسلطة بغير قصد على المقعد الخالي لغير سبب معلن.

انتهى المؤتمر قبل دقائق من ابتداء كتابة مقالي هذا، لذلك لم يكن أمامي من بد إلا أن أغامر فأكتب تعليقات سريعة تبقى قابلة للنقاش والتعديل إذا ما ظهر لي وللقارئ ما يستحق المناقشة والتصحيح. كان بين شواغلي العديدة خلال انعقاد المؤتمر التفكير في الآثار التي خلفتها الحرب الدائرة بين روسيا ودول الغرب ومنها أوكرانيا على أفكار وخطط قادة الحزب الشيوعي الصيني وعلى سلوكهم السياسي. يتصدر في الأهمية من التعليقات حول هذه الآثار ما يلي بإيجاز أتمنى ألا يكون مخلاً.

***

كشفت الحرب لقادة الصين عن مزايا يتمتع بها الغرب طالما توارت في التحليلات الرسمية للقادة ضمن دوائرهم الداخلية لأسباب كثيرة. كانت الحرب فرصة نادرة لتتأكد الصين مما تدبره لها أمريكا. صحيح أن نوايا العداء الأمريكي الصارخ للصين أعلنت عن نفسها في عهد الرئيس دونالد ترامب قبل أن تستأنف أمريكا عداءها العنيف لروسيا في عهد جوزيف بايدن. وقتها، أي في عهد ترامب تصورت الصين أنها الهدف الأول لحملة عداء وربما حرب من نوع أو آخر تنوي أمريكا إشعالها لوقف صعود الصين نحو القمة. تغيرت أولوية الأهداف الأمريكية حين راحت واشنطن تلقي بعنفوان حلف الناتو ضد روسيا. أما السبب فربما يكون في أن أوكرانيا صارت جاهزة بالسلاح والتدريب لتلعب دور كبش الفداء في صراع فوق القمة يجري التخطيط له منذ وقت غير قصير ولا يتحمل التأجيل لأن روسيا لن تنتظر وهو الأمر الذي خططت ومهدت له واشنطن.

إقرأ على موقع 180  لعبة الأمم في أوكرانيا.. أردوغان يربح أم يخسر؟

***

من بين ما كشفت عنه حرب روسيا وأوكرانيا حاجة الصين العاجلة والضرورية إلى نوعيات جديدة من السلاح والتدريب. صار مؤكداً للقيادة الصينية أن أداء الغرب عموماً وأمريكا بخاصة في الحرب الدائرة ضد روسيا في أوكرانيا كان متميزاً، حتى وإن كان في معظم الأحيان أداءً غير مباشر. لذلك لم أتفاجأ وأنا أستمع إلى تسريبات عن نية القيادة العسكرية الصينية تجنيد ضباط غربيين متقاعدين لتدريب ضباط وجنود جيش التحرير الصيني.

***

سلماً أو حرباً لن تحقق الصين حلم الرئيس شي في إقامة نظام عالمي جديد بقواعد جديدة اعتمادا على مجموعة شنجهاي أو أي مجموعات إقليمية أخرى. لا بد من أوروبا حليفاً أو نصيراً ليتحقق الحلم عاجلاً أم آجلاً

القيادة الصينية كغيرها من القيادات الوطنية في العالم النامي كانت تعلم عن اعتراض شعوب العالم النامي على سياسات وتصرفات الدول الغربية. هذه المرة تأكد العالم. تأكد ولكن تأكدت أيضا وفي الوقت نفسه حقيقة أن هذه الشعوب وإن اعترضت أو احتجت على تصرفات الغرب فإنها غير كارهة له أو راغبة في مقاطعته حتى إن دعتها لذلك ظروف العلاقات والصراعات بين دول القمة. أدركت القيادة الصينية هذا الأمر وتأكدت منه مرات ومرات. فليس بين شعوب العالم النامي من يحق له كره الغرب مثلما يحق لشعب الصين، ومع ذلك نجحت البراجماتية التي بثها قادة الانفتاح مغلفة بغلاف أيديولوجي (ماركسي لينيني ماوي) في تهدئة مشاعر الكره والانتقام لدى الشعب الصيني مستبدلة روح الانتقام بغريزة المنافسة، الغريزة الصينية بامتياز. كان واضحاً لي وأنا أقرأ مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني في دورته العشرين أن حرب الغرب ضد روسيا لم تضف إلى مشاعر الاعتراض الصيني على الغرب كرهاً أو عنفاً أشد. ما حدث في رأيي هو وعي أعمق لدى القيادة الصينية بخطورة ما يدبر للصين في واشنطن وعواصم أخرى في الغرب، ودراية أكبر بميل العالم النامي عموما إلى جانب القوى المناهضة لسياسات الغرب في حال نشوب صراعات على مستوى الكون رغم الحاجة الماسة لدى دول هذا العالم لمعونات الغرب وقواته المسلحة لحمايتها من أنشطة التطرف العسكري. فضلاً عن ما سبق لا أظن أن أحداً في الصين ينكر العائد الإيجابي الذي ما تزال تتمتع به معظم دول الغرب نتيجة توافر رصيد لا بأس به من القوى الرخوة التي تفتقر إلى مثلها كل من الصين وروسيا.

***

لا أبالغ وأنا أكرر اعتقادي أن أوروبا ما تزال، على ضعفها المتصاعد، تحتفظ بمركزية دورها في العلاقات الدولية عموما وفي العلاقات بين دول القمة بخاصة. أظن أن القيادة الصينية تنبهت من جديدة لخطورة هذا الدور. بمعنى آخر أثبتت أحداث الحرب الناشبة بين روسيا والغرب ربما للمرة المائة أن لا قيادة للعالم ممكنة بدون أن تعتمد على قاعدة اسمها أوروبا. قد تستمر الصين في صعودها المريح نسبيا وبتكلفة غير باهظة نحو نصيب لها في القمة حتى إنها يمكن أن تكون مهيمنة (وهي كلمة مذمومة في قاموس الصين السياسي) في قارة آسيا على اتساعها، ولكنها لن تحقق المكانة المرجوة على القمة ما لم “تهيمن” على أوروبا. روسيا تحفظ هذا الدرس عن ظهر قلب والولايات المتحدة بطبيعة الحال. هذه المركزية الأوروبية تظل حيوية في السلم كما في الحرب، ولعلها من أهم ما أكدت عليه الحرب بين روسيا والغرب في أوكرانيا.

سلماً أو حرباً لن تحقق الصين حلم الرئيس شي في إقامة نظام عالمي جديد بقواعد جديدة اعتمادا على مجموعة شنجهاي أو أي مجموعات إقليمية أخرى. لا بد من أوروبا حليفاً أو نصيراً ليتحقق الحلم عاجلاً أم آجلاً.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  إنتخابات 2022: لبنان على أبواب حرب أهلية!