هل يُمكن بناء الدولة في لبنان.. وكيف؟

يُجمع اللبنانيون على أمرين متناقضين: القول بإنتظام عمل مؤسسات الدولة؛ العمل ضد هذه المؤسسات. هم بهذا ينقسمون إلى فئتين: الأولى؛ غالبية عامة تتذمر من التفلت القائم، دستورياً وقانونياً، في المؤسسات كافة، وتطالب بعودة المؤسسات للانتظام، لكنها تستمرئ خرق هذه المؤسسات عبر اللجوء إلى واسطة الزعيم/الزعماء لإنجاز خدماتها من جهة ومبايعة هذه الزعامة، أياً كان موقفها، ومن ضمنها خرق الدستور والقانون من جهة ثانية.

الفئة الثانية؛ القوى السياسية الفاعلة والحاكمة والمعارضة، وتندرج مطالبتها بالدولة بين حدين: حد بناء الدولة بسلطة واحدة ضمن سيادة مطلقة لها على كامل أراضيها وحد بناء الدولة المقاومة المنخرطة في الصراع ضد إسرائيل والامبريالية وقوى الإستكبارالعالمي. ويندرج بين هذين الحدين القائلون بالدولة تبعاً لمنطوق اتفاق الطائف، وهي بكافة قواها تخرق الدولة من عدة نواح: استمراء اللجوء إلى خرق قوانين الدولة باللجوء إلى التوزيع الطائفي بما يتجاوز نصوص الدستور/الطائف من جهة، واستمراء خرق سيادة الدولة بممارسة سياسات تتجاوز التصدي للإعتداءات الاسرائيلية برفع شعارات بديلة لمنطق الدولة وتشريع “التهرب الضريبي” وخوض حروب خارجها من جهة ثانية، واستمراء قوى معارضة يسارية العيش في حلم “الدولة المدنية” والنظام اللاطائفي، من جهة ثالثة.

وفي ظل هذين الاجماعين بين اللبنانيين، من أين تأتي الدولة وكيف تُبنى أو كيف يُستعاد ما بُنى من مؤسسات للدولة في مراحل سابقة؟

يُمكن القول إنّ الإجماعين الآنفي الذكر لا يُتيحان بناء دولة، وبخاصة أن الخرقين المؤثرين (الإستباحة الطائفية والاستباحة السيادية) عميقا الحضور، وتكرّسا منذ حرب العام 1975 حتى اليوم من جهة، وثقافة الدولة ضعفت بين الناس من جهة ثانية، والأحزاب اليسارية، بالمعنى الواسع لليسار، لم تعطِ للدولة اهتماماً في عزّ نشاطها وهي مرتبكة في الالتحاق بأي من الإتجاهين أيام ضعفها وتشظيها، من جهة ثالثة. أما ما بقي من مؤسسات بنيت في العهد الشهابي فمن يشغلونها باتوا على مشارف التقاعد.. والمثقفون الواعون لأهمية الدولة غير فاعلين من جهة رابعة. وثمة مؤسسات إقتصادية يُفترض أن تكون قاعدة بناء الدولة، فقد تحوّلت إلى فروع أو شركات خدمات لشركات عالمية من جهة خامسة.

ويُعزّز هذه الإعاقة عاملان أساسيان:

الأول؛ عدم اكتمال بناء مؤسسات الدولة في مراحل ما قبل الحرب حين كان تعميم هذه الإكتمال متناغماً مع منطق الدولة الحديثة في الدول الرأسمالية، وذلك بفعل النص على التوزيع الطائفي من جهة وموقع لبنان وحجمه الصغير الذي جعله عرضة للتدخل الخارجي من جهة ثانية، ولم يُتح للحظات “الهدوء” و”التناغم الخارجي” أن تكون مديدة تؤسّس لإرساء الدولة (التجربة الشهابية مثلاً)، ووجود إسرائيل الكيان العنصري العدواني على حدوده من جهة ثالثة.

الثاني؛ المرحلة الراهنة في تطور الرأسمالية العالمية حيث سيطرة الشركات العابرة للدول التي تعمل ضمن منطق السوق، وقد تعمقت عالميتها، واستفادت من التطور التكنولوجي، ومنه في مجال الإعلام، لتحد من سيادة الدولة، أياً كانت، وبخاصة في الأطراف، ومنها بلادنا العربية والمثل الصارخ: العراق، اليمن، سوريا، ليبيا، السودان والحبل على الجرار.

فهل يعني هذا استحالة بناء الدولة في لبنان؟ الجواب نعم ولا.

الجواب “نعم”؛ إذا كان المقصود نموذج الدولة الحديثة في الغرب الذي عرفته الرأسمالية في مرحلتي التصنيع الوطني والامبريالية، وعبّر عنه العالم السوسيولوجي ماكس فيبر. هذا النموذج الذي حاولت الدول المستعمرة والمنتدبة بناءه في لبنان وباقي الدول العربية والمستعمرات، وقد كانت جادة في ذلك لتعميم نموذجها السائد من جهة ولتسهيل توسع استثمارات شركاتها الذي أعاقته البنى التقليدية من جهة ثانية، إلا أن هذه المحاولة تعثرت بفعل ضعف القوى الداخلية النازعة لبناء دولة، إقتصادياً وسياسياً وإجتماعياً أولاً، ومقاومة البنى التقليدية ثانياً، والتدخل السياسي والعسكري للدولة المنتدبة لقمع مقاوميها وحماية وجودها في ظل التنافس الدولي، من جهة ثالثة. وقد أدى ذلك إلى تشوه بناء الدولة من موقعين: موقع تراكب النموذج الغربي مع البنى التقليدية وموقع تراكبه مع الخارج.

قد يكون التعثر في مؤسسات الدولة والحاجة للأمن والخوف التاريخي من حرب إسرائيلية ضد لبنان.. وكذلك من مشاريع اقليمية تآمرية، مدعاة للتعامل بواقعية وعقلانية لإنتاج قوة تعيد التوازن الداخلي وتتيح الانتظام والأمن والاستقرار إلى البلد. كما قد يكون ذلك نموذجاً يُبنى عليه في الدول المتعثرة

وكذا كان في لبنان، فالتركيب المصطنع له وموقعه الصغير والمميز في الخريطة الإقليمية وحداثة التصنيع فيه وطابعها الخدماتي وسيادة البنى التقليدية في تكوينه الاجتماعي حالت، كلها، دون هذا البناء فتراكب ما أُقيم من هيئات وإدارات حديثة مع البنى التقليدية ومثله الأبرز النص على التوزيع الطائفي في دستور 1926، كما تراكبت سيادة الدولة مع وصاية الدولة المنتدبة، ولم يحل الاستقلال دون الإبقاء على التوزيع الطائفي واستمرار حضور الخارج، وقد كثرت دوله في الحرب الباردة، وهو موغل في هذين الخرقين، بعد الحرب في العام 1975 التي ما زالت مستمرة، لا بل تمادت في ظل مرحلة إرساء حضور الشركات المتعددة الجنسيات وتناغمها، عفواً أو عمداً، مع القوى الطائفية والإثنية والدينية.

والجواب “لا”، لعوامل عدة، أهمها:

  1. انبناء مؤسسات وهيئات وإدارات حديثة إلى حد كبير خلال مئة عام، لم تلغِ الأعمال العسكرية في الحرب ولا الاحتلال الإسرائيلي والحضور السوري من وجودها وإنْ أضعفتها.
  2. وجود مشتركات في الثقافة والإقتصاد والاجتماع بين اللبنانيين ما زالت فاعلة، وإن لم تبلغ مستوى الهوية الوطنية الجامعة والسوق الإقتصادية المتناغمة والإحتكام إلى القانون الواحد، بالكامل.
  3. تزايد القلق ومن ثم النقاش داخل القوى الإجتماعية والسياسية، بما فيها القوى الطائفية والأحزاب السياسية، وهو قلق على الوجود والاستمرار والفعالية والحاضر.. والمستقبل.
إقرأ على موقع 180  أما آن للبركان اللبناني أن ينفجر..؟

قلقٌ بين الناس كأفراد يهمهم الأمن والسلامة والعمل والاحتكام إلى قواعد تنظم اجتماعهم، وقد أصبح هؤلاء مُهدّدين، بين تطلبهم أو البقاء على حريتهم المتفلتة، وهذا القلق، تاريخياً، هو الذي دفع البشر، طوعاً أو كرهاً، إلى التنازل عن حريتهم لمصلحة بناء الاجتماع السياسي، وهو الذي دفع روسو وهوبس ولوك لافتراض هذا التنازل لمصلحة بناء الدولة.

قلقٌ بين الطوائف، كطوائف، على وجودها، وهو قلقٌ واضحٌ عند الطوائف الصغرى المهجوسة بالحفاظ على نفسها، بين العزلة التي لا تحمي وجودها ولا خصوصيتها، مع صراع الطوائف الكبرى وصراع الدول، وبين حضور الدولة كحامِ لوجودها واستمرارها، وهو قلقٌ مضمرٌ عند الطوائف الكبرى، بين استمرار الهيمنة السابقة، عند إحداها، أو الجنوح نحو شكل من أشكال الانفصال أو بين الجنوح نحو مشروع دولة اقليمية، عند أخرى، أو القبول بدولة مهيضة الجناح، وهذا القلق عند الإثنتين مدمر للطائفة نفسها، إقتصادياً واجتماعياً، لا بل وجودياً، فدون كل منهما أكلاف باهظة الثمن.

قلقٌ بين الأحزاب القومية واليسارية بين حنين إلى قول وحدوي وتقدمي في الوحدة السورية أو العربية أو انهاء الامبريالية، وهو حنين لم يتحول طوال أكثر من نصف قرنِ إلى مشاريع وبالتالي لم يتحقق وبين تطلب الممكن في إقامة دولة تُوفّر الأمن والاستقرار والعمل.

ويقود هذا القول بالتناقض بين استحالة بناء الدولة وامكانيته إلى النقاش في امكانية التجاوز، وبخاصة أنّ منطق الاجتماع الإنساني يستحيل استمراره بدون ضابط له، وحيثيات الإستحالة، الخارجية والداخلية أشد تأثيراً من حيثيات امكانيته، وقد تكون امكانية التجاوز، بتقديري، بعيدة عن الندب على وضع سبق، عالمياً ومحلياً، ولن يعود.. وبعيدة عن حلمٍ لن يتحقق في المدى المنظور، وقريبة من الشروط الموضوعية، وتقوم على:

  1. العمل على إنتاج أطر للإدارة المحلية، من الحي والقرية إلى المنطقة، وهذه الأطر تتوافق مع القانون في البلديات والأقضية والمحافظات، وتتوافق مع السياسة العالمية التي تجهد لاعتماد الحوكمة، وتختلف عنها باحتكامها للنص القانوني، وتتوافق أيضاً مع الضرورات التي تفرضها الظروف الطارئة، وتكون بدعم البلديات القائمة وترميم المستقيلة ومساعدة القائممقام أو المحافظ في إدارة البلدة وذلك على قاعدة الالتزام بالقانون.
  2. العمل على إنتاج أطر قروية ومناطقية هدفها مراقبة إدارات الدولة ومدى التزامها بالقانون والضغط لتطبيقه بكل الوسائل المشروعة.
  3. العمل على إنتاج أطر قطاعية هدفها الالتزام بالقانون.
  4. العمل على إنتاج إطار وطني ضاغط هدفه تطبيق الدستور والقانون، وما يحلو لكثر قوله: تطبيق اتفاق الطائف، فقد أدخلت بنوده في نص الدستور.

 هل هذه الامكانية للتجاوز ممكنة؟ وكيف؟

بتقديري؛ نعم ممكنة بهدفها المتواضع وهو تطبيق القانون، والدستور أرقى أشكاله، فلا يحمل مغالاة الممانعين في الدولة المقاومة ولا مغالاة السياديين في نزع سلاح حزب الله ولا مغالاة اليساريين بالغاء الطائفية والدولة المدنية. أما كيف؟

تتيح العوامل التي اعتبرناها ممكنة ومشجعة لبناء الدولة (المؤسسات القائمة والمشتركات والقلق) فرصة البناء عليها لانتاج قوى ضاغطة تتيح تسوية تعيد الانتظام في الحياة العامة وشرطها الوحيد الالتزام بالهدف والتعامل العقلاني في سبيل إقامة تعاون، أياً كان اطاره، وفي أي تعاون سيستفيد المشاركون فيه تبعاً لقوة كل واحد منهم. ويمكن التفصيل بالقول:

  • إنّ غالبية الناس متضررة، ويُشكّل المستفيدون من التفلت أقلية يمكن للغالبية في أي قرية أو حي تشكيل أطر ضاغطة لإعادة الانتظام القانوني، وهو هدف متواضع يجمع.
  • إنّ القوى الطائفية على نوعين: نوعٌ مستقوٍ ونوعٌ مستضعف، فالمستضعف تشكل العودة إلى تطبيق القانون/الطائف حداً لاستضعافه، وهي تمثل وزناً ديموغرافياً وازناً (السنة، الدروز، الأرثوذكس، الكاثوليك، الأقليات وغيرهم) والمستقوي محرج في خروجه عن القانون، إنٍ بتطلب التوزيع الطائفي بما يتجاوز النص القانوني أو بالخروج على الدستور، وهو مرغم على التسوية إذا انوجدت قوى تفاوضية.
  • إن الأحزاب والمنظمات اليسارية، قومية وتقدمية وديموقراطية، برغم ضعفها وتشظيها، لا يستقيم دورها، لا بل وجودها، دون وجود القانون في الإجتماع السياسي، لا بل أحد أسباب تشظيها غيابه وغياب الوعي بأهميته، وقد يكون حضورها هو الأضعف قياساً بالقوى الطائفية المتضررة لكن قد تصبح الأقوى، إذا تواضعت في استهدافها وتجاوزت تشظيها حوله، فهي الأفعل في التعبئة الجماهيرية وتشكيل اللجان القاعدية حول العودة إلى القانون، على علاته، فهو أفضل من شريعة الغاب.
  • إنّ الدول الخارجية والشركات العابرة للدول العاملة على تهديم الدولة ليست قدراً لا يُرد؛ إذ يمكن لمعارضة ما أنْ تُعدّل، وبخاصة أنّ حجم المصالح في لبنان صغيرٌ.. ولن يؤدي تطبيق اتفاق الطائف إلى الغاء الطائفية وإقفال الحدود وتأميم الشركات.

قد يكون التعثر في مؤسسات الدولة والحاجة للأمن والخوف التاريخي من حرب إسرائيلية ضد لبنان.. وكذلك من مشاريع اقليمية تآمرية، مدعاة للتعامل بواقعية وعقلانية لإنتاج قوة تعيد التوازن الداخلي وتتيح الانتظام والأمن والاستقرار إلى البلد. كما قد يكون ذلك نموذجاً يُبنى عليه في الدول المتعثرة.

Print Friendly, PDF & Email
فارس اشتي

أستاذ جامعي متقاعد، لبنان

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  "جحيم بيروت".. آثاره بيئياً وصحياً وسبل الوقاية