بإمكان أهل ماغي محمود أن يرتاحوا. فبفضل معموديّة الدمّ التي قدّمتها ابنتهم، سيحظون بالخلاص. وسيلتحمون مع هذه الأرض إلى أبد الآبدين. هل من بهجةٍ تضاهي بهجتهم؟! ماغي، يا أيّها الأصدقاء، كانت صبيّة بعمر زهر الغاردينيا. قضت صباح أمس، بعدما هوى عليها مدماكٌ من سقف غرفة صفّها في إحدى مدارس جبل محسن في طرابلس. بالتأكيد، لا داعي لشرح ملابسات حادثٍ كذاك الذي حصل في أوقاتٍ طبيعيّة لمبنى من المباني. فلا هزّة أرضيّة، مثلاً. ولا سيول جارفة أو فيضانات. ولا انفجاراً بالنيترات أو بغيره. ولا صاروخاً ذكيّاً موجَّهاً. أو آخر غبيّاً مقصوداً. ولا قصفاً بريّاً أو جويّاً أو بحريّاً شنّه عدوٌّ لن يطول به الزمن، كما يبدو، ليُدرَج على قائمة الأصدقاء!
لطالما توجّستُ من موتٍ يدهمني، في أوقات السلم، كموت ماغي. إذْ كنتُ غالباً ما أسترق النظر إلى السقف “المُعتَّق” في جامعتنا اللبنانيّة في كليّة الإعلام (المبنى القديم في منطقة الفنار)، أثناء تقديمي المحاضرات لطلاّبي. كنتُ أخاف على نفسي وعليهم. كيف لا، والأرض كانت تتشقّق تحت أقدامنا. وقِطَع الباطون تهوي، أحياناً، باتجاه رؤوسنا. أعتقد أنّ مباني أخرى في الجامعة لا تزال تعاني اليوم ممّا كنّا نعانيه بالأمس. حالها كحال بعض المدارس الرسميّة، أيضاً. مدرسة ماغي محمود من بين هذه المدارس المتهالكة. والتي لا تجد دولتنا العَليّة متّسعاً من الوقت للكشف عليها. وترميمها. فهي منهمكة بحلّ النزاع بين روسيا وأوكرانيا. وبإنهاء أزمة الطاقة العالميّة. وبخفض منسوب التوتّر بين الولايات المتّحدة والصين (بخصوص تايوان). وبالتسوّل والبكاء على أطلال القمم العربيّة. والشرح للأشقّاء العرب “بأنّنا خيرُ مَن تسعى إليه قَدَمُ”!
عندما أنّت ماغي وجعاً من ثقل الحجارة التي سقطت كالسيف القاطع على جسدها النحيل الغضّ، سمعت أمّها صوت أنينها صراخاً. كانت في البيت تُعِدّ لها الطبق الذي تحبّه للغداء. فالأمّ، غالباً ما تسأل أولادها قبل انطلاقهم إلى المدرسة: “شو بطبخلكن اليوم؟”. شعرت أمّ ماغي، وكأنّ أحد الأحجار قد سقط في قلبها الذي سرعان ما تحوّل إلى قطعة برتقال يابس. فـ”الحبل السرّي” لا ينقطع بين الأمّ وأولادها. وعندما يكونون أطفالاً، تبرد إذا بردوا. وينقطع عن رئتيْها الأوكسجين، إذا شعر أحدهم بضيقٍ في التنفّس. نعم. أحسّت أمّ ماغي بسقطة الحجر على ابنتها. فجأة، رنّ هاتفها. وسمعت الصوت يأتيها من بعييييييد: “آلو.. حضرتك أمّ ماغي محمود؟ نريد إخبارك أنّ ماغي…”. يا الللللللللللله..! لا يوجد رعبٌ يتجاوز في فظاعته رنينَ صوت هاتف مدرسة أولادنا عندما يلعلع في عزّ النهارات! يا إلهي كيف كان يجتاحني ذاك الرعب! كنتُ أفتح الخطّ بيدٍ ترقص فزعاً.. وأبادر المتّصل بصوتٍ جَزِع: “دخيلك شو صار لتمارا..؟”.
طبعاً، لا داعي للشرح، بخاصّة للأمّهات، ما يعنيه موت الولد. ولم يجد اللغويّون والنُحَاة نعوتاً وتوصيفات لما يحلّ بالأمّ والأبّ، عندما يتملّك جسدهما الصقيع في عزّ الحَرّ. ويحفر كوّةً في جدار الروح. فقدان الولد يشبه أكثر عمليّة بتر الروح من حفر كوّةٍ فيها! يصبح موته كإرثٍ مدفون في الظلام. لا يمكن العثور عليه مرّةً أخرى. فالولد كالدرع الذي يحمي أعضاءنا ممّا يتهدّدها. هو مثل خوذةٍ سحريّة تُبعِد عن رأسنا الأفكار السوداء القاتلة. وبسبب خوفنا على ابنٍ أو ابنة، نشعر بأنفسنا مكبّلين. مستسلمين للغرق إلى الأعماق السحيقة. إلى أعماقٍ تشبه بئراً بلا قاع. والأسوأ، أن لا شيء يُميتنا. أو يخلّصنا. ليس باليد حيلة. نحبّهم ثمّ يموتون. وعبثاً نحاول استبقاءهم. لكنّهم ينزلقون من بين أصابعنا ويمضون إلى البعيد. وأكثر ما يؤلم في رحيل مَن نحبّ، وتحديداً الأبناء، هو هذا الإحساس المحتوم بالذنب الذي يرتبط برحيلهم.
الأم، غالباً ما تسأل أولادها قبل انطلاقهم إلى المدرسة: “شو بطبخلكن اليوم؟”. شعرت أمّ ماغي، وكأنّ أحد الأحجار قد سقط في قلبها الذي سرعان ما تحوّل إلى قطعة برتقال يابس. فـ”الحبل السرّي” لا ينقطع بين الأمّ وأولادها. وعندما يكونون أطفالاً، تبرد إذا بردوا. وينقطع عن رئتيْها الأوكسجين، إذا شعر أحدهم بضيقٍ في التنفّس
يا أمّ ماغي لا أعرفك ولا تعرفينني. لكنّ قلبي وعقلي وكياني كلّه، معكِ. ما أصعب الكتابة إليكِ. ما أصعب الكتابة في بلاد الخوف والخائفين. أعتقد أنّنا وحدنا كأمّهات، سمعنا في الصباح رعد الحجارة في طرابلس. ووحدنا كنّا نصغي، ربّما، لما في الروح من حزنٍ ووجع. ها هي سماؤنا تنكسر على رغيف الخبز. ويتحطّم هواؤنا على رؤوس الناس من عبء الفراغ. ودولتنا ترابط على الأسوار! تُهدي كلّ ولدٍ من أولادنا لعبةً للموت. لا عطايا عندها إلاّ الموت. والموت. والموت. والموت. الموت الذي جعلته يطوّقنا من كلّ النواحي. فصار حدثاً عاديّاً. عابراً. لا يستدعي أكثر من ثلاث كلمات في خبرٍ عاجل. لا يستحقّ أكثر من مقطع صغير في ريبورتاج. فلا مَن يسمع. ولا مَن يشاهد. ولا مَن يهتمّ. وحده الفراغ المدوّي سيّد الخيال والمعاني.
يا الله.. أينكَ؟ ألا ترانا؟ نحن اللبنانيّين ما غيرهم؟ أولاد الحرام؟ نعم، نحن أولاد حرام. ألا ترى كيف بتنا لا نستطيع أن نُسْكِر هذا العصر إلاّ بأباريق الدمّ؟ وكيف لا نعرف أن نرقص إلاّ على جثث الأصدقاء والأحبّاء والأطفال؟ ألا ترانا كيف نتعفّن من دون أن نعلم؟ انظر إلى ماغي وهي ذاهبة إليك بكلّ صباها وجمالها ورونقها ورشاقتها. لو سمحت، إنزع التراب والحجارة من شعرها الأسود الأملس. واسمع ما سترويه لك من فظائع. أخبريه يا ماغي الجميلة كلّ شيء. قصّي عليه ماذا يفعل بنا أولاد القحباء! بالتفصيل المملّ. أخبريه كيف اجترح مَن وُلِّي علينا أسلحة عجيبة غريبة لقتلنا!
قولي للعليّ القدير إنّنا نتسامر يوميّاً مع القَتَلَة. وإنّنا نحاول، بأيّ ثمن، أن نجد مكاناً لنا ضمن شبكات عصاباتهم ومافياتهم. أخبريه، يا صبيّة، أنّنا شعب بلا أخلاق. وبلا إحساس. وبلا كرامة. وبأنّنا “دوّخنا” علماء النفس، فلم يجدوا حالة عجزٍ تشبه عجزنا. المكتَسَب منه والفطري. وكيف دحضنا كلّ النظريّات القائلة بأنّه “لا يخرج قومٌ سالمين من مذلاّت علنيّة توالت عليهم”! فها نحن تأقلمنا (وما زلنا) مع كلّ المذلاّت العلنيّة. بل أصبحنا أكثر تعلّقاً بمَن أذلّنا! وهذا التعلّق النابع من الدونيّة في أنفسنا حيالهم، يولّد لدينا الرغبة في الخضوع والخنوع لهم. فهذه حاجة. وهذا متطلّب نفسي أساسي وضروري. لكي نهرب من العجز النابع من ضعف ذواتنا. فنهرب إلى قوّتهم. ويأتون إلى ضعفنا. نلتصق بهم. بشتّى الأشكال. بالتبعيّة لهم، حيناً. بالتوحّد معهم، أحياناً. وبالاندماج ضمن “منظوماتهم” الإجراميّة، غالباً.
“غداً، عند الفجر، سأرحل، أترين؟ أعلم أنّك في انتظاري/ سأمرّ عبر الغابة وعبر الجبل/ سأمضي أراقب ما في خـيالي/ لن أنظر إلى الخارج، ولن أنصت لأيّ ضجيج/ وحيداً، غريباً، حزيناً، معقوف الظهر، مجموع اليديْن/ ونهاري سيصبح مثل الليل..”.
هذه أبياتٌ ممّا كتبه أديب فرنسا الشهير فيكتور هوغو وهو يخاطب ابنته Léopoldine التي غرقت في حادثٍ مع زوجها في نهر السين. كان هوغو يزور قبرها كلّ يوم خميس ويُردّد قائلاً: “هناك شيء قد انطفأ في قلبي للأبد. شيءٌ لن يعود كما كان، مهما حاولت“. إقتضى التذكير.