“تحولت درجات تخصيب اليورانيوم وموعد وصول إيران إلى صنع القنبلة النووية الأولى منذ سنة 2019، إلى خريطة طريق تفسّر نيات إيران. ينطبق هذا أيضاً على إعلانها الأخير بشأن نيتها تخصيب يورانيوم على درجة 60%، التي تتخطى كثيراً القيد الذي فرضه الاتفاق النووي المبرم في سنة 2015، والذي يفرض عدم تخطّي التخصيب 3.67%.
وكما في الخروقات الماضية التي بدأت بعد عام على إعلان الولايات المتحدة انسحابها من الاتفاق النووي، هذا الخرق لم يجرِ بصورة سرية. فقد بلّغت إيران الوكالة الدولية للطاقة النووية بكل خرق مخطَّط له، بالإضافة إلى تصريحها دائماً بأن أي خطوة من هذا النوع يمكن العودة عنها، وأنها مستعدة للعودة إلى إطار الاتفاق النووي وفق الشروط التي وضعتها هي.
مَن يتابع التصريحات الصادرة عن إيران، يجب ألّا يفاجئه الإعلان الأخير. حتى نيسان/أبريل 2021، وبعد الهجوم على منشأة نتانز الذي نُسب إلى إسرائيل، أوضحت إيران أنها تنوي زيادة نوعية التخصيب وإضافة ألف معمل للطرد المركزي إلى المعامل العاملة في المنشأة. في تشرين الأول/ أكتوبر، نقلت وكالة رويترز مضمون التقرير الذي وضعته الوكالة الدولية للطاقة النووية، الذي جاء فيه أن إيران بدأت في آب/أغسطس بتشغيل ثلاثة معامل طرد مركزي متطورة من طراز IR-6 في منشأة نتانز، الأمر الذي سيسرّع في إنتاج اليورانيوم المخصّب إلى 90%. ويأتي هذا بعد إنتاج كميات صغيرة من اليورانيوم المخصّب على درجة 60% في منشأتيْ فوردو ونتانز.
من المحتمل هذه المرة أن إيران تنوي إنتاج كميات أكبر من اليورانيوم المخصّب على درجة 60%. لكن السؤال المهم هو: هل سترفع إيران التخصيب إلى درجة أعلى – بحسب الكلام الذي قاله رئيس الاستخبارات العسكرية اللواء أهرون حليفا، أنها ستلامس التخصيب على درجة 90% – و هي درجة تُعتبر اختراقاً نووياً، على الرغم من أن ذلك لا يضمن الحصول على القدرة على إنتاج قنبلة نووية وإطلاقها.
لكن حتى حليفا لا يقدر على القول إن إيران تنوي صنع قنبلة نووية. “في تقديري أنه في هذه النقطة من الزمن، المرشد الأعلى يعتقد أن الأمر سيُلحق ضرراً بالنظام، لكن الأمر الأكثر ثباتاً هنا هو عدم الاستقرار”. وأضاف: “في هذه الفترة، اختراقة نووية لا تخدم النظام، بل تعرّضه للخطر.”
مثل هذه التقييمات العامة لا يمكن أن تشكل أساساً لسياسة عملية، ولاتخاذ قرارات عملياتية. ويزداد الارتباك عندما يشرح حليفا أنه “غير مقتنع بحدوث مواجهة مباشرة مع إيران، وهذا صحيح في الفترة الزمنية الحالية. لأن هذا يفرض تسريع بناء القوة في الجيش الإسرائيلي والموساد”. وهذا لا يعني فقط أن إيران ليست فقط معنية بقفزة نووية، بل يعني أيضاً أن إسرائيل غير معنية، وليس لديها القدرة، على الأقل حالياً، على الدخول في مواجهة مباشرة معها. وهذا كلام مهم جداً، وهو يقوّض العقيدة القائلة إن على إسرائيل تقديم تهديد عسكري موثوق به في مواجهة إيران، كما يطرح شكوكاً جدية في قدرة إسرائيل على العمل منفردة، إذا اضطرت إلى ذلك، وإذا اعتبرت نفسها غير ملزمة بالاتفاق النووي إذا جرى توقيعه.
من المحتمل أن يكون سلوك إيران يستند أيضاً إلى موقف أميركا التي لم تسحب يديها من المفاوضات، ولم تعلن انسحابها منه من أجل المزيد من الضغط. فإذا كانت هذه نيتها، فإن مغزى ذلك أنها لا تزال ترى في الاتفاق النووي قناة واقعية لإنقاذها من الأزمة الاقتصادية التي سبّبت الاحتجاج وتغذّيه
كلام حليفا مثير للاهتمام، وخصوصاً أنه يدل على الفجوة بين المعلومات الدقيقة التي تستطيع إسرائيل جمعها عن علماء ذرة إيرانيين، وعن أماكن المنشآت النووية، أو القوات الإيرانية في سوريا، وبين قدرتها على معرفة، أو حتى تقدير النيات الإيرانية. بالإضافة إلى ذلك، فإن عناصر الاستخبارات في إسرائيل – وليس فقط في إسرائيل، يجب القول بصدق – ليسوا قادرين على معرفة ما هي نيات إيران فيما يتعلق بالاتفاق النووي. في البداية قالوا إن المقصود هو عملية خداع وتضييع للوقت، وما لبث أن حل محل ذلك الخوف من فرص نجاح المفاوضات، والآن يعود ويترسخ الموقف القائل بعدم وجود فرص للاتفاق.
هؤلاء الأشخاص لم يستطيعوا القول كيف سيتطور مقتل مهسا أميني الذي أشعل الاحتجاجات في الدولة، وهم لا يعرفون كيف سيواصل النظام الرد على التظاهرات المستمرة منذ منتصف أيلول/سبتمبر، وهم اليوم يقترحون الربط بين الاحتجاجات في إيران وبين مواقف طهران حيال الاتفاق النووي، أو نياتها الحقيقية، أو سياساتها، لمهاجمة السعودية، أو المونديال. لقد حذر مسؤولون إيرانيون رفيعو المستوى السعودية من التدخل في شؤون إيران الداخلية، ووجهوا تحذيرات مشابهة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإسرائيل، التي تغذي الاحتجاج، في رأيهم، بهدف تقويض الاستقرار في الدولة. لكن في الوقت عينه، لا تزال إيران متمسكة برغبتها في استئناف العلاقات الدبلوماسية مع السعودية، على الرغم من تجميد جولات النقاش بينهما في نيسان/أبريل الماضي. أيضاً تلميحات إيران إلى ضرب المونديال لتحويل الاهتمام والضغط الدولي عما يحدث في شوارع مدنها، تتطلب دليلاً حقيقياً، وليس فقط كلاماً عرضياً. كسر العلاقات الوطيدة بين إيران وقطر، وتدمير الشراكة في أكبر حقل للغاز في العالم في الخليج الفارسي، وسلسلة اتفاقات تعاوُن اقتصادي وُقِّعت هذه السنة بين الدولتين خلال زيارات متبادلة بين زعماء الدولتين، سيجعل إيران تدفع ثمناً باهظاً جداً إذا قررت المسّ بالمونديال الذي يمثل قمة النجاحات الدولية لقطر.
وفقاً لتصريحات مسؤولين كبار في القيادة الإيرانية ومحللين في وسائل الإعلام في إيران، يبدو أن إيران تفرّق بين المسار النووي وبين احتجاج الشارع والعنف الذي تسبب بمقتل 300 شخص تقريباً. وبرزت في البرلمان الإيراني أصوات تدعو إلى إجراء إصلاحات من دون إعطاء تفاصيل بشأن ماهية الإصلاحات المقصودة. ردة فعل النظام على الاحتجاجات تصور حتى الآن بأنها غير قوية، لأن القوى الأمنية “تفهم” أن المتظاهرين يجري تحريضهم وتضليلهم من جانب “أعداء خارجيين”. لكن هذا الكلام فيه تهديد واضح بحدوث قمع أقوى وأعنف من السابق لاحقاً.
في المقابل، يبدو أن إيران تقوم بخطوات تهدف إلى التوصل إلى إنجاز اتفاق نووي، بينها الإعلان الجديد بشأن تخصيب اليورانيوم. والهدف من هذه الخطوة، بحسبها، “الرد الحاد” على قرار مجلس الحكام في اللجنة الدولية للطاقة النووية، الذي يطالب إيران بالتعاون وتقديم معلومات عن منشآت لم تكشف عنها، وجرى العثور فيها على بقايا يورانيوم مخصّب. وهذا الموضوع يشكل إحدى العقبات الأساسية التي تمنع إبرام اتفاق نووي. من المحتمل أن يكون سلوك إيران يستند أيضاً إلى موقف أميركا التي لم تسحب يديها من المفاوضات، ولم تعلن انسحابها منه من أجل المزيد من الضغط. فإذا كانت هذه نيتها، فإن مغزى ذلك أنها لا تزال ترى في الاتفاق النووي قناة واقعية لإنقاذها من الأزمة الاقتصادية التي سبّبت الاحتجاج وتغذّيه”. (المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية).