“في نهاية أيلول/سبتمبر، أو مطلع تشرين الأول/أكتوبر، سينتهي مسار تعيين كبار المسؤولين في الطاقم الدبلوماسي لدى تركيا، وسيهبط سفير تركي جديد في إسرائيل. وبحسب المعلومات، تتنافس على المنصب ثلاث شخصيات، والقرار الأساسي هو تعيين موظف كبير في وزارة الخارجية التركية. وبحسب أقوال مسؤول كبير في وزارة الخارجية لصحيفة “هآرتس”، سيكون “سفيراً يعرف المنطقة جيداً، ويعرف تفاصيل العلاقات المركبة ما بين إسرائيل وتركيا”، مضيفاً أن “الهدف سيكون إضافة معنى جدي للتطبيع المتجدد الذي انهار قبل أعوام”.
في كانون الأول/ديسمبر، تم تسريب اسم أحد المرشحين لمنصب السفير، أولوتش أوفيك، الذي كان مدير معهد الأبحاث SETA، ودرس في الجامعة العبرية. كان من المفترض أن يصل إلى إسرائيل في آذار/مارس 2021، لكن تعيينه أُلغيَ بعد معارضة إسرائيل بسبب تصريحاته السابقة المعارِضة لها. كذلك، فإن الانتخابات في إسرائيل أدت إلى بعض التأجيل في تسريع التطبيع، وبالأساس معارضة يائير لابيد الذي كان وزيراً للخارجية، حينها.
غيّر لابيد موقفه. اللقاء الذي جمعه بنظيره مولود جاويش أوغلو في أنطاليا خلال شهر حزيران/يونيو، والتعاون الاستخباراتي مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في أعقاب محاولات إيران تنفيذ عملية ضد إسرائيليين، وقبل ذلك التقاء المصالح ما بين إسرائيل وتركيا في الحرب في كراباخ – التي قدمت فيها الدولتان المساعدة لأذربيجان في حربها ضد أرمينيا في أواخر سنة 2020 – كلها أمور ساعدت في إعادة النظر في السياسة الإسرائيلية تجاه تركيا.
تجديد العلاقات مع إسرائيل لم يغلق بعد دائرة المصالحات التي تجريها تركيا في المنطقة. فمصر لا تزال تسير ببطء، ولا تستعجل لمصافحة أردوغان، على الرغم من أن البعثات الدبلوماسية والمهنية، بمستويات عالية، قد وضعت البنية لتجديد العلاقات؛ وفي الأشهر الأخيرة تحولت تركيا إلى أكبر مستوردة للغاز من مصر، وهي تأمل بأن يؤثر تجديد العلاقات مع إسرائيل في العلاقات مع مصر قريباً، وكذلك تحقيق طموح أردوغان إلى تحويل تركيا إلى مركز تسويق الغاز الدولي من الشرق الأوسط إلى أوروبا.
بعد أن غيّرت واشنطن موقفها بخصوص خط الغاز الذي سيربط إسرائيل بقبرص واليونان وأوروبا، فإن الإمكانية الأكثر واقعية هي بناء خط غاز يربط إسرائيل بتركيا وربطه بالغاز المصري – وبذلك تتحول إلى محطة الغاز الأهم التي يمكنها أن تشكل بديلاً من الغاز الروسي.
من أجل تطبيع العلاقات مع إسرائيل، دفعت تركيا بالعملة السياسية المؤلمة عندما قررت ترحيل مسؤولين في “حماس” من أراضيها، وأوضحت لقيادة الحركة أنها لن تسمح بالقيام بنشاط سياسي على أراضيها بعد الآن، والمؤكد أعمال عسكرية للحركة. وفي الوقت ذاته، تقترح تركيا خدماتها من أجل إعادة إعمار قطاع غزة، ويمكن أن تنضم إلى مجموعة دول متبرعة تحاول إسرائيل تجنيدها بهدف الدفع قدماً بمشاريع تطوير اقتصادية في القطاع. وبحسب مسؤول سياسي إسرائيلي، فإن “تركيا يمكن أن تقنع قطر بتأسيس علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وتبرير ذلك بالحاجة إلى مساعدة الفلسطينيين في القطاع – وليس هم فقط”.
بعد أن غيرت واشنطن موقفها بخصوص خط الغاز الذي سيربط إسرائيل بقبرص واليونان وأوروبا، فإن الإمكانية الأكثر واقعية هي بناء خط غاز يربط إسرائيل بتركيا وربطه بالغاز المصري – وبذلك تتحول إلى محطة الغاز الأهم التي يمكنها أن تشكل بديلاً من الغاز الروسي
تبنّت تركيا من جديد سياسة الـ”صفر مشاكل مع الجيران”، والتي تم طرحها للمرة الأولى في سنة 2002، بعد أن فاز حزب “العدالة والتنمية” بالانتخابات بنتيجة كاسحة. مَن صاغ هذه الرؤية كان البروفيسور أحمد داود أوغلو الذي قال لـ”هآرتس”، حينها، إنه وعلى عكس الماضي، حين كانت تركيا تعاني جراء المناوشات والصراعات مع الدول المجاورة، كسوريا وإيران، تنوي الآن أن تكون جسراً ما بين الشرق والغرب. ولتحقيق هذا، عليها أولاً تحسين علاقاتها مع الجيران. بعدها، تم تعيين داود أوغلو في منصب رئيس الحكومة التركية، لكنه استقال في سنة 2016، بعد خلافات بينه وبين أردوغان، ومعارضته لما اتضح لاحقاً أنه حُكم الرجل الواحد.
لم يتبقّ من رؤيته الكثير. ففي سنة 2010، تم قطع العلاقات ما بين إسرائيل وتركيا بصورة تامة تقريباً، في أعقاب قضية “أسطول الحرية” إلى غزة. بعد ذلك بعام، قطعت تركيا علاقاتها مع سوريا بسبب المجازر التي ارتكبها النظام منذ سنة 2011، وبعدها بعام ونصف، تم قطع العلاقات بين أنقرة والقاهرة، بعد أن أقال الرئيس عبد الفتاح السيسي الرئيس المنتخب محمد مرسي، المنتمي إلى الإخوان المسلمين، واعتقله، ثم واجه الكثير من الانتقادات من طرف أردوغان – الذي رفض الاعتراف بشرعية رئاسة السيسي. السعودية والإمارات والبحرين رأوا في تركيا “تهديداً خطِراً” أكثر من التهديد الإيراني، بحسب أقوال السفير الإماراتي في واشنطن. ومن بين جميع الدول في الخليج، قطر هي الوحيدة التي استمرت في تطوير العلاقات مع تركيا.
وفي الوقت ذاته، تراجعت العلاقات ما بين تركيا والاتحاد الأوروبي. في البداية، بسبب الانتهاكات المستمرة بمجال حقوق الإنسان، وقمع حرية التعبير، والصراع العنيف ضد الأقلية الكردية داخل تركيا، وبعدها بسبب الخلاف على التنقيب عن الغاز الذي قامت به تركيا في البحر المتوسط، في منطقة يدّعي كل من قبرص واليونان أنها تحت سيادتها. اتفاق اللاجئين الذي تم توقيعه ما بين تركيا والاتحاد الأوروبي في سنة 2016، وبحسبه، ستكبح تركيا نزوح اللاجئين السوريين إلى الاتحاد الأوروبي، عبر أراضيها، مقابل 6 مليارات يورو، ستحصل عليها من الاتحاد، إلى جانب اتفاقيات الإعفاء من التأشيرة لمواطنيها، لم يبدد التوتر بين الطرفين. الإعفاء من التأشيرة لم يحدث، ولا تزال تركيا تتهم الدول الأوروبية بـ”تشجيع الإرهاب الكردي”، وتهدد بفضّ اتفاق اللاجئين كأداة ضغط. وعن عدم الود بين الرئيس الأميركي جو بايدن وأردوغان كُتب كل شيء تقريباً، ومرّت كما نذكر أشهر طويلة على انتخاب الرئيس الأميركي قبل أن يتواصل مع نظيره التركي.
قرر أردوغان كسر هذه العزلة، بعد الأزمة الاقتصادية العميقة في مطلع سنة 2018. كان عليه الانتظار حتى كانون الثاني/يناير 2021 – حينها، قررت دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، رفع الحصار المفروض على قطر، والذي استمر ثلاثة أعوام – بعدها فُتحت الطريق للدول الخليجية. التعاون الوطيد ما بين تركيا وقطر في العلاقات الثنائية، وأيضاً في الحرب في ليبيا، أدى إلى تموضع تركيا إلى جانب “أعداء الدول الخليجية”. الإمارات كانت الأولى التي قررت استئناف العلاقات مع تركيا، على الرغم من أن أردوغان هاجم توقيع اتفاق التطبيع مع إسرائيل بحدة، حتى أنه هدد بإعادة السفير التركي. بعدها، بدأ بعملية جس للنبض في إسرائيل ومصر، ونجاحه الأكبر كان في تجديد العلاقات ما بين تركيا والسعودية في نيسان/أبريل من العام الحالي، في مقابل إغلاق ملف التحقيق في جريمة قتل الصحافي جمال الخاشقجي ونقل المحاكمة إلى السعودية. وحصل أردوغان من الدولتين الخليجيتين على تعهدات باستثمار مليارات الدولارات – وهو ما سيساعد على تحسين الوضع الاقتصادي التركي، الذي تستصعب تركيا ترميمه.
بعد عام، ستجري الانتخابات الرئاسية في تركيا، وإلى حينها، سيكون على أردوغان طرح إنجازاته الاقتصادية في أعقاب الاحتجاجات والغضب في تركيا. منظومة علاقات سياسية ـ اقتصادية ـ داعمة مع دول المنطقة هي الورقة الأقوى التي سيحاول أردوغان أن يضمن من خلالها استمرار حكمه المستمر منذ 20 عاماً”. (المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية).