في الأيّام الأخيرة من سنةٍ سورياليّةِ الصعوبة، يحقّ للمواطن اللبناني أن يختلي بنفسه. وأن يُسائلها. ويا ليته يُحاسبها، أيضاً. لا يمكن لأيّ كائنٍ بشري في كلّ المعمورة، أن ينافس الكائن اللبناني في “طول” لائحة الأسئلة التي يمكن تسطيرها. والأهمّ، أنّ التفوّق اللبناني في تلك الأسئلة ليس كميّاً بقدر ما هو نوعي. فأسئلة اللبناني أساسيّة. مصيريّة. بل وجوديّة. وهذه عيّنة منها: لا بدّ أن يسأل المواطن اللبناني نفسه، يا ترى أين أخطأتُ (السنة الفائتة) وأين أصبتُ؟ ماذا فعلتُ وماذا لم أفعل وماذا كان بإمكاني أن أفعل وماذا كان يجب عليّ أن أفعل؟ وهل كان بالإمكان أكثر ما كان؟ لماذا تركتُ الأيّام تمضي عبثاً، بينما أنا أترنّح تحت تأثير التخدير؟ وكيف رضيتُ بإعلاء صوت الذلّ والهوان في داخلي وقمعتُ به صوت العنفوان وعزّة النفس؟
قد تساعده الأجوبة على مثل هذه الأسئلة، هو المُبحِر في سنته الجديدة، على فهم الكثير من الأمور ربّما. والتنبّه إلى الكثير من الأخطاء التي ارتكبها. وإدراك حقائق جمّة تغاضى عنها. وحان الوقت لإعادة الاعتبار إليها. وبات لزاماً على مَن تأقلم مع الأوجاع واختار الطريق السهل، أن يفطن إلى ما اقترفت يداه. وأن يراجع مواقفه وسلوكيّاته. ولكن، إذا كان الشيء الذي يُعطي معنى لتصرّفاتنا هو شيءٌ نجهله تماماً، كما يقول الكاتب التشيكي ميلان كونديرا، فهذا لا ينطبق على المواطن اللبناني الذي يعرف قاتله “حِلّةً ونَسَباً”! وهو يركن، بالرغم من ذلك، لهذا القاتل منتظراً حتفه في كلّ لحظة. بل إنّه يملّ الانتظار، أحياناً، فيمشي باتّجاه الموت عاري الصدر. وعليه، لا حاجة له لتنبّؤات العرّافين لكي يعرف أنّ التهميش والقلّة اللذيْن صارا عنوان حياته، إنّما هما من صُنعه. ولا يحتاج، كذلك، إلى البصّارين لكي يدرك أنّ المعاناة التي استوطنت في جسده وأجهدت عقله، سبَّبها خنوعه وصمته المطبق عن أفعال المجرمين. بل والرضا بالـ”مقسوم”.
تتّفق جميع الأديان، إذاً، على فكرة المخلِّص الآتي في آخر الزمان. ليملأ الأرض عدلاً، بعد أن مُلِئت جَوْراً. ومع أنّهم يختلفون في صِفَته واسمه (كريشنا، مايتريا، المسيا، يسوع، المهدي، الحاكم بأمر الله، شرفدين..)، غير أنّهم يتّفقون على شخصنة المخلِّص. فيقولون، كلّهم، إنّه فردٌ ذكرٌ واحدٌ مشهودٌ له بعلوّ منزلته الأخلاقيّة والمعرفيّة. وبتمتّعه بكاريزما استثنائيّة
هذا اللبناني ليس مضطرّاً للّجوء إلى المُعبِّرين لكي يفكّوا له طلاسم المستقبل. فهو، ولكي يتحاشى العذاب، يلجأ في أكثر الأحيان إلى هذا المستقبل. إلى “أحدٍ ما” سيظهر فيه. أو إلى “شيءٍ ما” سيحصل معه ويقلب الأمور رأساً على عقب. فعندها، كما يعتقد، سيتوارى عذابه إلى الأبد. لأنّ هذا “الآتي” سيُنقذه ممّا هو فيه. سينتشله من القعر. إذْ إنّ ثمّة “فاصلاً ما” سيدخل، بلا ريب، إلى حلبة الزمن كي يضع الحدود القاطعة. بين الخير والشرّ. بين الجيّد والسيّء. بين القوي والضعيف. بين الظالم والمظلوم. إنّها أسطورة المخلِّص. فأكثر ما يؤثّر بالكائنات البشريّة ويهزّ وجدانها، هو ما يظهر أمامها بشكلٍ مُلفِت وجليّ. ويأخذ شكل أشياء وظواهر عجائبيّة. لا تعوز كلاماً يوضحها. أو تعابير تجمّلها.
فالناس، يا أصدقاء، “يفتنها” انتصارٌ كبير. معجزةٌ كبيرة. جريمةٌ كبيرة. أملٌ كبير. بطلٌ عظيم الشأن. يأتيهم من حيث لا يدرون. يشقّ الأنواء والصخور. ويزلزل الأرض تحت أقدام الطغاة. يهلّ عليهم كالشمس في يومٍ كالح الظلمة. وكلّما اشتدّت الأزمات والنكبات، كلّما ألحّت الحاجة إلى هذا البطل. وكلّما نما حسّ التوقّع بمجيئه. وكلّما تهيّأ المنتظرون لاستقباله والانضواء تحت رايته. لقد عبّرت الإنسانيّة، في تراثها ونتاجها الأدبي والثقافي، عن هذا الحلم الموعود. وعن ذلك الأمل المنشود بقدوم “البطل المخلِّص”. ورفعت السِيَرُ الشعبيّة حياتَه ومآثرَه إلى مستوى الملاحم. لكن يبقى الجانب الأبرز والأكثر تأثيراً وإثارةً، في هذا السياق. أعني به، عقيدة “المخلِّص الآتي” ووجوب انتظاره، في المرويّات الدينيّة. متى بدأت جلجلة الانتظار؟
“المخلِّص المنتظَر”، هو المفهوم الذي عمّمته الزرادشتيّة على أكثر الأديان. والزرادشتيّة، لمن يهمّه الأمر، تُعَدّ واحدةً من أهمّ ديانات الشرق القديمة. وأكثرها شيوعاً وانتشاراً في الأزمان الغابرة (ولا تزال تجد مَن يعتنقها إلى الآن). أسّسها زرادشت في بلاد فارس قبل 3500 سنة. في رحلة بحثه عن ماهيّة الحياة والموت والخير والشرّ. وزرادشت، هو مَن ابتكر مفهوم النبوّة والرؤيا التنبّؤيّة والعصر الألفي لدى الديانات التوحيديّة. أي، العصر الذي سيملك فيه المسيح على الأرض، كما يُقال. وباعتقاد معظم الباحثين في تاريخ الأديان والأديان المقارنة، فإنّ زرادشت يُعتبَر المخلِّص الأوّل. وهناك مَن سيعقبه على رأس كلّ ألف عام. وعنه أخذت اليهوديّة، يرجّح المفكّر الأميركي هارولد بلوم، مفهوم المخلِّص. ومن بعدها المسيحيّة. ومن ثمّ الإسلام (ولا سيّما بوجهه الشيعي الإمامي).
تتّفق جميع الأديان، إذاً، على فكرة المخلِّص الآتي في آخر الزمان. ليملأ الأرض عدلاً، بعد أن مُلِئت جَوْراً. ومع أنّهم يختلفون في صِفَته واسمه (كريشنا، مايتريا، المسيا، يسوع، المهدي، الحاكم بأمر الله، شرفدين..)، غير أنّهم يتّفقون على شخصنة المخلِّص. فيقولون، كلّهم، إنّه فردٌ ذكرٌ واحدٌ مشهودٌ له بعلوّ منزلته الأخلاقيّة والمعرفيّة. وبتمتّعه بكاريزما استثنائيّة. وبحنكةٍ مهولة يحسم بها، وبعنف، المعركة لتحقيق الخلاص والنصر الإلهي. وإذّاك، تنقسم الأرض (أثناء المعركة) إلى فسطاطيْن لا ثالث لهما؛ فإمّا أن تكون مع المخلِّص أو أن تكون ضدّه. كيف لا، وهو مَن سيُنجز، بحسب العقائد الدينيّة، ما عجزت عنه الجماعة الناجية طوال تاريخها. وللمفارقة، يعتقد أتباع كلّ دين أنّهم، هم دون سواهم، الفرقة الناجية التي سينضمّ إليها المخلِّص. ماذا بعد؟
ما يهمّنا في هذه المقالة، في الحقيقة، ليس مقاربة فكرة المخلِّص من منطلقٍ ديني ولاهوتي. بل ما يلفت جداً هو ذاك التماهي الكبير بين المخلِّص المنتظَر نزوله من السماء، يوم القيامة. وبين المخلِّص الذي تنتظر الناس أن يطلع من مكانٍ ما، هنا على الأرض، أمس قبل اليوم. ففكرة المخلِّص، تشكّل عزاءً للجماعة. بخاصّة في لحظات الاضطهاد والمحنة والقهر. فلا عجب، إذاً، أن تنتشر هذه العقيدة وتستفحل (في تناسبٍ طردي) مع تزايد المعاناة عند أهل الأرض. فتجارب التاريخ تُظهِر لنا، أنّ اشتداد البلاء يخلق نوعاً من الحاجة إلى الاعتقاد بفكرة المخلِّص والخلاص. هي حاجةٌ نفسيّة للكائن البشري، غالباً ما عجزت الحجج العقليّة والمعطيات التجريبيّة أمامها. وهكذا، نجد أنّ صورة القائد البطل حاضرة بإلحاح في تاريخ البشريّة. ليس في الدين فحسب. بل في السياسة والعسكر والسينما والرياضة و.. شتّى المجالات. فالخلاص يتمّ تجسيده، دوماً، في صورة زعامةٍ فرديّة (بطل التحرير، سيّد المقاومة، رجل الاستقلال، باني الدولة الحديثة، رمز الأمّة، صانع الألعاب، ..إلخ).
لقد عبّرت الإنسانيّة عن الأمل المنشود بقدوم “البطل المخلِّص”. ورفعت السِيَرُ الشعبيّة حياتَه ومآثرَه إلى مستوى الملاحم. لكن يبقى الجانب الأبرز والأكثر تأثيراً وإثارةً، في هذا السياق. أعني به، عقيدة “المخلِّص الآتي” ووجوب انتظاره، في المرويّات الدينيّة. متى بدأت جلجلة الانتظار؟
كلمة أخيرة. بدأتُ هذه السطور مع عتبٍ على يسوع الناصري لأنّه لم يهتمّ لمناجاتي له. مناجاة، ظلّت صوتاً في البريّة. وأختمُ مع ترنيمة هذا الصوت الصادح في البراري، لعلّ وعسى يسمع ويهتمّ: “مبارك مبارك مبارك الآتي باسم الرّب/ أعِدّوا طريق الربّ، واجعلوا سُبُله قويمة/ كلّ وادٍ يُردَم.. وكلّ جبلٍ وتلٍّ يُخفَض.. والطرق المنعرجة تقوَّم والوعرة تسهَّل/ كلّ بشرٍ يرى الخلاص الآتي من لدن الله/ توبوا وآمنوا بالبشارة ألا اثمروا ثمراً جديراً بالتوبة/ مَن كان لديه ثوبان فليقسمهما بينه وبين مَن لا ثوب له.. ومَن كان لديه طعام فليعمل كذلك”. أبتسمُ في سرّي عندما أرى المقصودين بهذا النداء. وأبدأ، عن غير قصد، باستعراض صور أركان المافيا الحاكمة في لبنان. وتحديداً الذين ينتمون بينهم إلى الديانة المسيحيّة. فأتخيّل مثلاً الرئيس أو الوزير أو النائب الفلاني، وهو يعطي دامعَ العينيْن ثوباً من أثوابه لمَن لا ثوب له. أو رئيس الحزب والميليشياوي والزعيم المصرفي العلاّني، وهو يعطي بحماسةٍ منقطعة النظير جزءًا من طعامه (المتقشّف؟) للجائعين. يا إلههههههههي! إقتضت القهقهة من الآن إلى لحظة ظهور المخلِّص.