ماذا يحدث في بنوك مصر؟

للمرة الثانية في غضون شهرين، يتخذ البنك المركزي في مصر قراراً بخفض سقف السحوبات النقدية عبر البطاقات المصرفية. لم يقتصر الأمر على المقيمين في البلاد بل طال المصريين في الخارج، ما تسبب بإرباك الأفراد والشركات المضطرين إلى استخدام البطاقات لسداد مستحقاتهم بالدولار.

هذا الإرباك يعيد إلى الأذهان سيناريو الأزمة اللبنانية التي بدأت عام 2019 مع انخفاض احتياطي النقد الأجنبي إلى مستويات حرجة، اضطرت معها المصارف اللبنانية ـ بعد إقفال غير مفهوم ـ إلى “تقطير” السحوبات النقدية بالدولار قبل ان تلجأ إلى احتجاز الودائع. فهل تكون قرارات التقييد في مصر جرس إنذار لأزمة نقدية ـ مالية وشيكة؟

ضوابط على سحب الدولار

يستقبل المصريون العام 2023 بتشاؤم ناجم عن الإجراءات غير المسبوقة للقطاع المصرفي بضوء أخضر من البنك المركزي. إذ خفّض بعض المصارف المصرية حدود السحب النقدي من البطاقات من 500 دولار إلى 100 دولار شهرياً، فيما خفض البعض الآخر سقف السحوبات إلى 250 دولارا بدلا من 750 دولارا، وإلى 500 دولار بدلاً من 1500، حسب نوع البطاقة وحجم الوديعة، ما رأى فيه المراقبون إشارة جديدة إلى نقص الدولار في المصارف المحلية والأجنبية العاملة في البلاد التي اتخذت خطوة مشابهة في تشرين الأول/أكتوبر المنصرم حين خفّضت حدود السحب المباشر أو من البطاقات بما يصل إلى 90% من دون أي توضيح للأسباب أو أي إشارة إلى المدّة الزمنية لتطبيق هذه الإجراءات.

ويأتي ذلك بالتزامن مع رفع سعر الفائدة الأساسي من قبل البنك المركزي المصري 300 نقطة أساس أي 3% دفعة واحدة، في أكبر زيادة من نوعها هذا العام والأعلى في المنطقة العربية. وبذلك تكون أسعار الفائدة قد ارتفعت منذ مطلع هذا العام 800 نقطة أساس أي 8% حتى وصلت الفائدة على الإيداع إلى 16.25% وعلى الإقراض إلى 17.25%.

هذه النسب المرتفعة تعني إصرار البنك المركزي على تقليل عمليات الإقراض وبالتالي الحد من قدرة الأفراد والأسر والشركات على الإنفاق، في مقابل جذب الودائع من خلال تقديم فائدة مرتفعة هي “الطّعم” الذي به تصطاد المصارف زبائنها وتمتص السيولة التي في السوق بما يضمن الحد من الطلب المحلي على الاستهلاك ويسهم في الحد من التضخم.

هذا السيناريو مألوف وكلاسيكي، تلجأ إليه البنوك المركزية عادةً لمحاربة التضخم في الأسواق ولتعزيز احتياطي النقد الأجنبي. لكنّ البيانات الأخيرة الصادرة عن البنك المركزي المصري ركّزت على أسباب أخرى إضافية.

فإلى جانب تأكيده على محاربة التضخم، أفاد البنك المركزي المصري بأنه “رصد مجموعة من الممارسات غير المشروعة التي تستهدف زعزعة الاستقرار النقدي والمالي”، وكشف عن وجود زيادة مطردة في استخدام بطاقات الائتمان وبطاقات الخصم المباشر خارج البلاد برغم وجود العملاء داخل البلاد، وقد أدى ذلك إلى إخراج 55 مليون دولار في يوم واحد من البنوك المصرية إلى الخارج.

ونبّه البنك المركزي المصري إلى اتساع الفجوة بين سعر الصرف في السوق النظامية وغير النظامية إلى 30%، داعياً البنوكَ المحلية إلى مراجعة استخدامات البطاقات ولا سيما خارج البلاد للتحقق من وجود العميل فعلياً في الخارج فضلاً عن الكشف عن حصيلة العمليات التصديرية الخاصة بالذهب خلال مدة أقصاها 7 أيام عمل من تاريخ الشحن.

التضخم وتراجع قيمة الجنيه

انخفضت قيمة الجنيه المصري منذ بداية العام 2022 بنسبة 57% وسجل متوسط سعر الصرف 24.6 جنيه مقابل الدولار، بفعل قرار البنك المركزي تحرير سعر الصرف وجعله مرناً إستناداً إلى قاعدة العرض والطلب في الأسواق. قرارٌ يتماشى مع مطالب المؤسسات الدولية ولا سيما صندوق النقد الدولي الذي أكد مراراً ان مرونة سعر الصرف يجب ان تكون دائمة لتعزيز قدرة البلاد على مواجهة الصدمات الخارجية وإعادة بناء الاحتياطيات الوقائية. بمعنى آخر، لا يريد صندوق النقد أن يتحمل البنك المركزي والحكومة في مصر أي تبعات لتغير الأسعار العالمية للسلع الأساسية من خلال دعم تثبيت سعر الصرف أو دعم عمليات الاستيراد في ظل توقعات تفيد بأن مصر ستعاني من فجوة تمويل خارجي قيمتها 16 مليار دولار خلال الأشهر الـ 46 المقبلة.

إذا نظرنا إلى مديونية مصر لصندوق النقد الدولي تحديداً، يتبين أنها ثاني أكبر مستدين من الصندوق بعد الأرجنتين وتستمر مديونيتها له حتى العام 2042، بقيمة إجمالية تفوق 22.5 مليار دولار. وبرغم ذلك خاضت مصر مفاوضات شاقة مع الصندوق حصلت بموجبها في العام 2022 على قرض جديد بقيمة 3 مليارات دولار

غير ان تراجُعَ قيمة الجنيه تسبب في تسريع وتيرة ارتفاع تضخم أسعار المستهلكين الذي يُتوقع أن يصل إلى 25% في النصف الأول من العام 2023 ما يدفع البنك المركزي المصري إلى استكمال دورة التشديد النقدي حتى نهاية العام 2023. ويحاول المصرف المركزي الوصول بمعدل التضخم إلى 7% نهاية العام 2024 غير أن بعض الخبراء الإقتصاديين يستبعدون تحقيق هذا الهدف في ظل استمرار التأثيرات الخارجية على الأسعار ولا سيما تلك المتعلقة بتبعات الحرب على أوكرانيا فضلاً عن الضعف الهيكلي في الاقتصاد المصري وبطء التدابير الحكومية في القضاء على السوق الموازية والمضاربة.

إقرأ على موقع 180  أرمينيا: أزمة سياسية بنكهة «إنقلابية»

وترافق ذلك مع إقرار الحكومة المصرية زيادة الحد الأدنى للأجور للقطاع الخاص من 2400 إلى 2700 جنيه (109 دولارات أميركية) اعتباراً من بداية العام 2023 ما أثار المخاوف من أن تبادر الشركات إلى تسريح العمال او إعادة هيكلة الوظائف من أجل تحمل الزيادة المطلوبة، علماً أن ستة آلاف شركة تقدمت العام الماضي بطلبات للإعفاء من زيادة الحد الأدنى للأجور والرقم مرشح للارتفاع في العام 2023.

دوّامة الاستدانة

يبلغ معدل المديونية الحكومية أكثر من 80% من الناتج المحلي الإجمالي لمصر. وإذا نظرنا إلى مديونية مصر لصندوق النقد الدولي تحديداً، يتبين أنها ثاني أكبر مستدين من الصندوق بعد الأرجنتين وتستمر مديونيتها له حتى العام 2042، بقيمة إجمالية تفوق 22.5 مليار دولار. وبرغم ذلك خاضت مصر مفاوضات شاقة مع الصندوق حصلت بموجبها في العام 2022 على قرض جديد بقيمة 3 مليارات دولار سيُصرف على 8 دفعات طوال 4 سنوات.

ويتوجب على الحكومة المصرية سداد 17.5 مليار دولار للصندوق أي 6 أضعاف قيمة القرض الذي حصلت عليه مؤخراً. وتتوزع الدفعات كالتالي: 3.7 مليار دولار عام 2023، يتبعها 6.2 مليار دولار عام 2024، ثم 5.1 مليار دولار عام 2025، و2.5 مليار دولار عام 2026. وكانت الحكومة قد سدّدت نهاية الأسبوع الماضي 318 مليون دولار لصندوق النقد الدولي، هي قيمة أحد أقساط قرض حصلت عليه عام 2016، بينما تنتظر وصول 347 مليون دولار هي أولى دفعات القرض الجديد وبذلك تكون قد استفادت فعليًا بـ 29 مليون دولار فقط هي الفارق بين ما سدّدته وما ستحصل عليه من الصندوق.

الجدير ذكره أن عجز الميزانية العامة وصل إلى 30.18 مليار دولار ما يمثل 6.1% من الناتج المحلي الإجمالي وقد ورد هذا الرقم في مشروع الموازنة للعام المالي 2022 – 2023 الذي تعرض لانتقادات شديدة من الاقتصاديين كونه يعتمد على الاستدانة لسداد قروض سابقة وفوائدها، وسد عجز الموازنة، وتعظيم الموارد من خلال فرض مزيد من الضرائب بدلاً من جذب الاستثمارات وتعزيز الإنتاج.

وفيما توقعت وزارة التعاون الدولي حصول مصر على تمويلات خارجية، بينها حزمة من البنك الدولي بقيمة نصف مليار دولار، تنتظر مصر وصول الأموال الخليجية الموعودة وتصل قيمتها إلى نحو 20 مليار دولار كانت دول الخليج (ولا سيما السعودية) قد تعهدت تقديمها في شكل ودائع واستثمارات منذ أيلول/سبتمبر الماضي علماً أن هذه الدول تجري محادثات بعيدة عن الأضواء لشراء أصول مملوكة للدولة المصرية، وهذه مسألةٌ شائكةٌ أخرى.

أزمات.. وفرصة

والملاحظ أنه مع المصالحة الخليجية والمصرية مع قطر، تراجعت حماسة دول الخليج لدعم الإقتصاد المصري، زدْ على ذلك أن توقيع إتفاقات أبراهام التطبيعية بين “إسرائيل” والعديد من الدول العربية (الإمارات، البحرين، السودان والمغرب)، أدى إلى تراجع المكانة التي لطالما حظيت بها مصر، أميركياً ودولياً، منذ توقيع إتفاقية كمب ديفيد في العام 1979. كما أن مصر محاصرة بالأزمات في السنوات الأخيرة، من أزمة سد النهضة مع أثيوبيا والنار المشتعلة في خاصرتها الغربية في ليبيا والخطر المتأتي من جبهة سيناء وما يرتب الملف الفلسطيني من أعباء وتحديات، وكلها قضايا تمس الأمن القومي المصري.

وزاد الطين بلة إندلاع الأزمة الأوكرانية التي فاقمت التحديات المصرية في بلد يتجاوز عدد سكانه الـ 110 مليون نسمة، ويعتمد بشكل أساسي على واردات القمح الروسي والأوكراني (80%)، وتحاول مصر الإستفادة من فرصة أزمة الغاز في أوروبا بزيادة صادراتها من 600 مليون دولار (تشرين الأول/أكتوبر 2022) شهرياً إلى نحو مليار دولار شهرياً في غضون العام 2023، حسب توقعات وزير المالية المصري محمد معيط.

Print Friendly, PDF & Email
اليسار كرم

صحافية لبنانية متخصصة في الاقتصاد

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الحريري يُطل بخطاب ضبابي لا يُسعد جمهوره ولا السعودية