أَهُو الموت أم مجرّد تعب؟

"عندما يصبح المُنكَر معروفاً. وتتمّ الدعوة إليه علناً دون خجل ولا رادع. وعندما نعيش سكرات حبّ الدنيا، وتشيع الغفلة. عندها، لا بدّ من زلزلةٍ رومانسيّة تُعيدنا إلى حجمنا الطبيعي. فالناس بحاجة، بين فترةٍ وأخرى، لهزّةٍ تذكّرهم بضعفهم وخوفهم ومحدوديّتهم. وبقلّة حيلتهم أمام عظمة الله تبارك وتعالى".

عن هذه التعابير، تفتّقت قريحة أحد الشيوخ “القياديّين” في لبنان. لكي يفسّر، لعموم الناس، الأسباب الحقيقيّة الخفيّة التي أدّت إلى وقوع الزلازل الأخيرة في تركيا وسوريا. ولا يوازي قبح تغريدة ذاك “الشيخ”، سوى اليد التي خطّت كاريكاتوراً عن مجزرة فجر الإثنين الفائت. فلقد خرجت مجلة “شارلي إيبدو” الفرنسيّة لتتشفّى، وبعنصريّةٍ موصوفة، من الضحايا. وعلى رسمٍ للدمار الذي سحق أجساد الأتراك، في تلك الليلة، علّقت: “زلزال تركيا.. لا داعي لإرسال الدبابات!”. يا إلهي.. الرحمة ثمّ الرحمة لنا! ارحمنا من ذلك الشيخ المعمّم بـ”التقوى الكاذبة”. وارحمنا من تلك المجلّة المعمّمة بـ”الكراهيّة الصادقة”. ورهيبة المفارقة التي جمعت بين “ذاك” و”تلك”!

لن أدخل، بالطبع، في توقّع الخلفيّات والمعاني لما اقترفته “شارلي إيبدو” من عهرٍ يأخذ من حريّة التعبير مبرّراً لبثّ السموم على الجثث. فتلك المجلّة التي ناصرناها ذات يومٍ من 2015 كضحيّة لـ”الإرهاب..”. ها هي تهاجم بإرهابٍ، من نوعٍ آخر، الضحايا في تركيا. قد يعود سبب تشفّيها، إلى كون قتلى الزلزال والأخويْن كواشي اللذيْن نفّذا الهجوم الدامي عليها، من الديانة ذاتها. لكن، أن ينطق مَن يسمّي نفسه “رجل دين” بفعل الشماتة والإدانة للضحايا. وأن يصول ويجول بخطابٍ يسلّط طاقة الزلزال التدميريّة “الرومانسيّة” لتجريم الناس تحت الأنقاض. وأن يسخر من السكرانين بحبّ الدنيا عبر التذكير بحاجتهم، بين الفينة والفينة، إلى “فركة أُذُن” من الله. فركة تُزهِق أرواح أطفالهم. وتسحق أجساد عُجَّزهم ومرضاهم. فهذا كثيييييييير! أيُعقَل أن يكون الله على هذه الشاكلة؟ وأن يكون الناطقون باسمه على هذه الشاكلة أيضاً؟ “إنّ الشخص الذي تؤذيه شياطينه، ينتقم من أتباعه دون تفكير”، يقول كافكا في رسائله إلى حبيبته ميلينا.

نحن نعيش في مجتمعٍ منكوب يمدّنا بكلّ أسباب الصراع والإيديولوجيا الإقصائيّة. فليس غريباً، إذاً، أن نشهد هذا الانتشار الواسع للشماتة. تلك الخاصيّة النفسيّة المدمِّرة التي عملت وسائل التواصل الاجتماعي على إذكائها. لتصبح علنيّة وصريحة وواضحة وعامّة. بعد أن كانت ضيّقة ومحدودة. إنّما للأمانة، تُسجَّل للشيخ الجليل “جرأته” في التشفّي والإفصاح عمّا يدور، ربّما، في أخلاد معظم رجال الدين. كيف لا، وهؤلاء لديهم عادة احتقار البشر. وعادة اعتبار أن لا قيمة لمشاعر الناس أو أفكارهم. فبالنسبة لتجّار الدين (وما أكثرهم في بلداننا) وُجِد “العوام” لغايةٍ وحيدة. كي يلقّنهم “رجال الله” بما يجب أن يُفصحوا عنه. أو لا يُفصحوا عنه. من سلوكيّاتٍ وآراءٍ ومواقف وأحاسيس، أيضاً.

فمهمّة رجال الدين، في هذه الدنيا، أن يُلام الناس على ما يحدث من ويلات. فهُم يحيلونه، فوراً، إلى مخالفةٍ لأمر الله. نعم. إنّهم الوكلاء الحصريّون للربّ على هذه الأرض. يدعون إليه وإلى طاعته. لكنّهم يعيشون على هواهم، من دون حسيبٍ أو رقيب. أقصى طموحهم يتلخّص في أن يشعـر الإنسان بالذنب. وكلّ شيء يكمن هنا بالذات. فالحياة تواجهنا أكثر الوقت بما لا نحبّ. تأخذ أمانينا وأحلامنا إلى منعطفاتٍ أخرى. وتصنع منها شيئاً مختلفاً كثيراً عمّا أردنا. تُلقي في وجهنا، بين وقتٍ وآخر، بمصائب وشرور أقسى ممّا اعتقدنا أنّه باستطاعتنا تحمّله. وفوق كلّ هذا، تسوقنا الحياة، جميعاً، إلى نهايةٍ واحدة. لا رادع لها أو مانع. وعليه، تتحوّل هذه الحياة إلى صراعٍ مفتوح بين البشر. صراع الجميع ضدّ الجميع.

كأنّ الأديان لم تخترع سوى الإحساس بالذنب والعيب. لكي تقيّد حركة البشر وتمنعهم من الاستمتاع بحياتهم. ولكي يفهم الإنسان أنّه نقطة في بحر الله العليّ القدير. ما هذه الرسالة السامية للأديان؟! وكأنّ المرء ليس لديه وعي بالمخاطر وبجبروت الطبيعة. بل ينتظر، بخشوع، أن يأتيه شيخٌ أو أسقفٌ كي يخلق لديه هذا الوعي. ويهديه إلى الصراط المستقيم

كيف يتجلّى هذا الصراع في مجتمعاتنا “المتحضّرة”؟

بالطبع، لا يمكن للناس أن يهاجموا بعضهم بعضاً عندما يلتقون. لذا، يحاولون، بدلاً من ذلك، أن يُلقوا على الآخرين عار الشعور بالذنب. وسيفوز مَن ينجح في جعل الآخر مذنباً. ومَن يبرع، برأيكم، في دفع البشر إلى هذا الشعور؟ يجيبكم نيتشيه شخصيّاً فيقول: “رجل الدين لا يمكنه السيطرة عليك، إلاّ إذا استطاع إقناعك بأنّك كتلة متحرّكة من الخطايا والذنوب والآلام والحُطام. وعندئذٍ، يسوقك كالنعجة إلى حظيرته”. الشيخ الآنف الذكر، حاول إشعار الضحايا بالذنب (كما لاحظتم). القتلى في قبورهم. والمصابين في مشافيهم. حاول أن يحمّل “قلّة حيائهم” المسؤوليّة عن استجلاب الزلزلة الأرضيّة (الرومانسيّة). لا يفهم رجل الدين الكوارث الطبيعيّة، إلاّ غضباً ربّانيّاً. فبالنسبة إليه، الطبيعة لا تغضب. لا تفرح ولا تحزن. لا تنضج ولا تهرم. لا تتجعّد ولا تتشوّه. لا تُخفي مشاعرها طويلاً ثم تنفجر فجأة! بلى. لقد حاولت الطبيعة أن تعبّر لنا عن غضبها. بعدما ارتكب الإنسان فيها أبشع الفظائع. هي أعطتنا عيّنة صغيرة ممّا يمكن أن تفعله فينا إذا صبّت جامّ غضبها علينا!

إقرأ على موقع 180  على شاطئ صيدا.. طُغيان إجتماعي

تُثبت الطبيعة، في كلّ لحظة، أنّها لا تزال القوّة الأعظم على كوكب الأرض. ومهما تصوّر الإنسان بأنّه قد بلغ أعلى مراتب التفوّق. تراه يخرّ راكعاً أمام اهتزازٍ بسيط لا يدوم أكثر من برهةٍ واحدةٍ. لم تعد الدول تُقاس، يا أصدقاء، بجيوشها الجرّارة. ولا بقدراتها على العدوان وإقلاق جيرانها. ولا بامتلاك أعتى أسلحة الدمار الشامل. فلقد دمّر زلزال سوريا في أربعين ثانية، فقط، أكثر ممّا دمّرته المعارك الطاحنة في اثنتي عشرة سنة! فإنّ أقصى ما يمكن أن يفعله الكائن البشري أمام غضب الطبيعة، هو الهروب لجهة الخلف. أو الاستسلام لها. لكن هناك جماعات من البشر تجترح لنفسها، في مثل هذه الأيّام العصيبة، دوراً مُمعناً في لاإنسانيّته: صناعة الخوف.

والخوف تعريفاً، هو الشعور الناتج عن توقّع خطرٍ يهدّد الحياة. وما يرتبط بها من أحوال. هو المادّة الخامّ التي تُغذّي مجتمعاتٍ تعيش وفق مبدأ “كلّ شخصٍ يخدم مصلحته الخاصّة”. وأخطر ما تفعله “هذه الصناعة”، هو الإيحاء بأنّ الآفاق مسدودة. والطرقات مقفلة. بسبب “بطر” أولاد آدم. إنّها محاولة صريحة لاغتيال الأمل. وللقتل المعنوي، أيضاً. وهذا القتل يكون، في الغالب، لأهدافٍ استقطابيّة. سياسيّة. أو عقائديّة. أو ولائيّة. أو، ببساطة، لزيادة نسبة المتابعة، كما تفعل وسائل الاتصال والإعلام حاليّاً. نعم. لطالما كان أثر الخوف في نفوس البشر مثاراً للدراسات الاجتماعيّة. ويتمّ التركيز في هذا المجال، تحديداً، على المنظومة الدينيّة التي تُبدِع في بثّ رسائل الخوف. تهويلاً وترويعاً وترغيباً للترهيب. وكأنّ الأديان لم تخترع سوى الإحساس بالذنب والعيب. لكي تقيّد حركة البشر وتمنعهم من الاستمتاع بحياتهم. ولكي يفهم الإنسان أنّه نقطة في بحر الله العليّ القدير. ما هذه الرسالة السامية للأديان؟! وكأنّ المرء ليس لديه وعي بالمخاطر وبجبروت الطبيعة. بل ينتظر، بخشوع، أن يأتيه شيخٌ أو أسقفٌ كي يخلق لديه هذا الوعي. ويهديه إلى الصراط المستقيم.

كلمة أخيرة. كنتُ قد عقدتُ العزم أن أكتب هذا الأسبوع عن الحبّ عشيّة يوم عيده. لكن عبثاً حاولتُ أن أقفز فوق شلاّلات الدماء والدمار والدموع والذعر والغضب. فالمَشاهد الوافدة من تركيا وسوريا فاقت قدرتي على الاحتمال. على الرغم من تمرّسنا العظيم، نحن اللبنانيّين، بشتّى صنوف القساوات والجرائم والفظاعات والموت. ذاك الموت الذي يحيا في داخلنا. لكنّنا نصدّقه. و”نصدّق أنّ كلّ ما نعيشه هو مجرّد تعب”، يكتب الشاعر والكاتب اللبناني الراحل بسّام حجّار. إقتضى التذكير.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الجماعات الدينية تتقدم.. مُجتمعاتنا تتراجع!