الدكتورة جمال القرى. لبنانية درست الطب وعملت في موسكو وتأثرت بالغ التأثر بالحضارة الروسية العريقة. تعمقت في ثقافة تلك البلاد وفي أدق تفاصيلها المجتمعية. لا تزال الطبيبة جمال القرى تصنع في مطبخ بيتها فطائر “البليني” الروسية الشهية، تحضيراً لزمن الصوم لدى الأرثوذكس. هذا الأسبوع من 20 الى 26 شباط (فبراير) يسمونه في روسيا عيد “ماسلينيتسا”. العيد نفسه يُطلق عليه أيضاً “أسبوع المرافع” أو “أسبوع السمن” أو “أسبوع الفطائر”، حيث يخبزون فيه فطائر “البليني” على مدى الأسبوع لتنتهي يوم الأحد (اليوم تحديداً) بأحد الغفران.
في بيتها أيضاً يتربع “السماور” وتتراصف تحف روسية ودمى الماتريوشكا بألوانها الزاهية. حتى الديكور المنزلي لا تغيب عنه باقة من الألوان الروسية الزاهية. تشعر كأنك في بيت روسي دافىء تزيده دفئاً تلك الموسيقى الموسكوبية التقليدية التي تنساب في فضاء المكان.. هكذا أتخيله على الأقل.
بحسها النقدي الرفيع، استشرفت جمال القرى الواقع والمستقبل الذي كان يعيشه الاتحاد السوفياتي، فقررت أن تبدأ من الجذور. أن تغوص، وبطريقة منهجية علمية، في التاريخ الحديث والقديم لهذا البلد البارد الذي كان يلتمس الدفء شرقا وينهل منه تأثراً وتأثيراً. رحلة أفضت على مدى أربع سنوات إلى إصدار كتابها الجديد “العلاقات الروسية الشرق أوسطية” (وثائق دبلوماسيين ومستشرقين ومؤرخين روس) والصادر “عن دار “سائر المشرق” لصاحبه الزميل أنطوان سعد، بعدما أوكلت مهمة تحريره إلى الأستاذ محمد حمدان الذي تولى عملية ضبط اللغة وربط الفصول وإحكام اللغة وقواعدها.
يتألف الكتاب من 419 صفحة موزعة على خمسة أقسام وسبعة عشر فصلا ويتضمن قائمة طويلة وهامة من المراجع التي تناولت الموضوع في حقب زمنية مختلفة.
في مقدمة الكتاب، يقول القارىء الروسي الأول ألكسندر فلاديميروفيتش كريلوف إن الكتاب يتضمن عرضاً موسوعياً لتاريخ التشكل الإثني للشعب الروسي وتطور الدولة الروسية وتكون الفكر الإجتماعي الروسي القديم استناداً إلى غنى التراث الروحي لبيزنطية وبلدان الشرق.
تسلط الكاتبة الضوء على صفحات مجهولة من التاريخ الروسي وتتطرق إلى موضوع صعب مثل إعادة بناء الدور الروسي في الشرق الأوسط على مدار الف عام.
مما لا شك فيه ان إنتصار روسيا على تركيا في العام 1829 أدى إلى زيادة إهتمام روسيا بالشرق الأوسط بعدما اجبرت الأمبراطورية العثمانية على منحها موطىء قدم هام تمثل بالقنصليات والبعثات الثقافية. وفي حين توجهت معظم الدول إلى جني المكاسب، ركّز الروس على دورهم الثقافي ودعم الشعوب الفقيرة والتزام دور السلام والخير من خلال البعثات الكنسية فقد كانت تنفق روسيا الملايين من الروبلات بدل محاولة الكسب كباقي الدول الأوروبية.
أما القارىء الثاني الدكتور زياد ماجد، فقد اعتبر الكتاب وثيقة تاريخية نادرة حول روسيا وعلاقتها بالشرق الأوسط، وهو مساهمة فريدة في قراءة تاريخ قرنين من الزمن ما يتيح فهماً أكثر تكاملاً لديناميات العلاقات الدولية، ويشرح بإسهاب عناصر الصلة التي أرادها الروس بالأراضي المقدسة حيث معقل الأرثوذكسية وحماية هذا الإرث الديني بوجه الضغوط والمنافسة الخارجية والداخلية.
في القسم الأول تغوص الدكتورة جمال القرى في التاريخ الروسي وكيفية تحول إمارة روسا الكييفية إلى إمبراطورية عظمى مع حكم آل رومانوف، وصولاً إلى إستعراض كل التحولات الروسية في الألفية الميلادية الثانية.
وقد رصدت الباحثة كيفية إندماج قبائل سلافية شرقية مع القبائل الأوغرية مع مجموعات من الشعوب الروسية والأوكرانية والبيلاروسية لتشكل كلها معاً نواة إمارة روسيا.
ويمهد ذلك للقسم الثاني المهم جداً في تفسير أسس الطموح والدور وهو العامل الديني، فوجود الأراضي المقدسة في مدينة القدس هو حجر الزاوية والذريعة الأقوى في تشكل عوامل جذب كل الدول إلى منطقة الشرق الأوسط. فبعد أن كانت حماية الحجاج ومساعدة الرهبان الوافدين من روسيا القديمة إلى الأراضي المقدسة تقع على عاتق رجال الدين فقد انتقلت إلى عهدة الدولة الروسية بحلول بداية القرن الثامن عشر بناء على اتفاقيات سياسية وتجارية بين روسيا وتركيا. وهنا تستشهد المؤلفة بأرشيف ضخم من الوثائق والأدبيات من الأرشيف الروسي الذي ندر أن تعرّف عالمنا العربي إلى معظمه.
لقد تعرف العرب على الأدب الروسي واستقبلوه بود وحرارة بفعل ازدهار حركة الترجمة لنتعرف على أهم الأعمال لبوشكين وغوغول وليرمنتوف ودوستويفسكي وتشيخوف وكل هذه القائمة الطويلة من الأعمال والكتاب التي لا نزال نتذكرها فيما طارت من الذاكرة أسماء القياصرة والقادة السياسيين والعسكريين
لقد أفردت الدكتورة جمال القرى القسم الثالث بأكمله للحديث عن تاريخ الوجود السياسي الدبلوماسي الروسي في الشرق وذلك نقلاً عما قدّمه المؤرخون الروس المعاصرون من دراسات وتحليلات في الفترة الممتدة من الربع الأخير للقرن الثامن عشر حتى إنهيار الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية في الربع الأول من القرن العشرين.
أما القسم الرابع، فتخصصه الباحثة لمسألة الاستشراق الروسي كحاجة أكاديمية وسياسية ودبلوماسية (صياغة مجمل سياسات موسكو الشرق أوسطية) ولكن الأهم هو ما تطرقت إليه في القسم الخامس والأخير على صعيد العلاقات الثقافية الروسية الشرقية التي قامت على أسس تبادلية ولم تكن في إتجاه واحد.
لا شك أننا في الوقت الحالي نشهد تعاظماً كبيراً للدور الروسي، ولا سيما منذ إنخراط موسكو بالحرب السورية في العام 2015، وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية في العام 2022 لتجعل روسيا محور إهتمام العالم، الأمر الذي يثير شهية القراء على الغوص في قراءة معمقة للهوية الوطنية الروسية بكل أبعادها السياسية والدينية والثقافية.
لقد إستوقفني القسم الخامس والأخير، أي الدور الثقافي الروسي الذي أفردت له الدكتورة قرى حيزاً واسعاً في بحثها الموسوعي بإمتياز، بدليل إستعانتها بأكثر من سبعين مصدراً ومرجعاً لأهم الباحثين والمستشرقين والخبراء والدبلوماسيين الروس.
ولو عدنا إلى الحقبة السوفياتية أو حتى حقبة روسيا اليوم، ندر أن يرأس بعثة دبلوماسية في عالمنا العربي سفير لا يجيد اللغة العربية بطلاقة ملفتة للإنتباه، وفي ذلك درجة عالية من الإحترام للذات وللبلد الذي يخدم فيه السفير فضلاً عن إلمامه بحضارة العرب ورواياتهم ومأثوراتهم الشعبية والتاريخية والثقافية.
ويعود الفضل في إحداث نقلة نوعية في الأدب الروسي إلى الرحالة والمؤرخ كارامزين، وهو مؤلف موسوعة “تاريخ روسيا”، ولقد نقله من الواقعية الساذجة إلى الواقعية الإجتماعية فصار قمة في الجاذبية وجمال اللغة والأسلوب مضمخاً بالعاطفة والموسيقى.
لذا نجد الكاتبة تسهب في الحديث عن تأثّر الثقافة والهوّية الوطنية الروسية بالشرق في بداية القرن التاسع عشر لتقول “تفاعل الأدباء الروس مع ثقافة وسكان الشرق وتأثّر إبداعهم الشعري والنثري بالثقافات والأساطير والشخصيات الشرقية. ففي البداية الذاتية للاستشراق الروسي، يمكن رؤية كيف أن الثقافة الروسيّة ضمّت إليها بشكل انتقائي عناصر شرقية، لعب كل عنصر منها وهو الموسوم بأنه “غريب”، وظائف حدّدها له بدقة الفضاء السيميائي الروسي، بحيث يصبح “خاصاً به” أو جزءاً منه. وهذه الوظائف، كانت ضرورية للغاية بالنسبة لهذا الفضاء في كل موقعٍ ثقافيٍ – تاريخيٍ مهمٍ ودقيق. إذن، تؤخذ الدوافع الشرقية للأدب الروسي في وحدتها المنهجية ليس كنتيجة للتأثيرات الشرقية، بل كنتيجةٍ ضروريةٍ لخلقٍ إبداعيٍ لصورةٍ روسيّة عن الشرق في محاكاة حيّة مع ثقافة دول أوروبا الغربية التي شكّلت إيديولوجية مهيمنة للحضارة الأوروبية في العالم”.
لقد شكّلت الثقافة الروسيّة خطابها الخاص للسيطرة على الشرق. فأفكار تفوّق روسيا في آسيا وحقّها الكامل بالتدخل في شؤون الشعوب الصغيرة لأوروبا الشرقية، شكّل مشكلة معقّدة بالغة الأهمية للأدب الروسي.
وكان ابتداع صورة روسيّة عن الشرق في القرن التاسع عشر، عملية داخلية ضرورية للثقافة الروسيّة أملاها عصر البناء الإمبراطوري، الذي كان بحاجةٍ إلى استيعاب سيميائي وأسطوري للأراضي المكتسبة وإدراجها في وحدة معه. لذلك، قدّم الاستشراق الروسي الذي ميّز بين الغرب والشرق، صورة روسيّة عن الشرق متعارضة حضارياً عن كلٍ من الغرب وروسيا، وذلك، عبر استخدام الوسائل الفنية للتشرّق والتشرّق الذاتي. وكان ابتداع هذه الصورة الروسيّة للشرق، ضرورة من أجل إدراك الأمة الروسيّة لذاتها. لذا، كان لا بدّ من أن يكون هناك وجود لآخر، أو لغريب، تتحدّد من خلال العلاقة به، معايير وجوانب معرفة الذات..
لقد شكّلت أعمال بوشكين، جوهر الفضاء المفاهيمي للخطاب الاستشراقي الثقافي الروسي، والوحدة السيميائية للنصوص الأدبية للأدب الروسي في النصف الأول من القرن التاسع عشر. لقد تعرف العرب على الأدب الروسي واستقبلوه بود وحرارة بفعل ازدهار حركة الترجمة لنتعرف على أهم الأعمال لبوشكين وغوغول وليرمنتوف ودوستويفسكي وتشيخوف وكل هذه القائمة الطويلة من الأعمال والكتاب التي لا نزال نتذكرها فيما طارت من الذاكرة أسماء القياصرة والقادة السياسيين والعسكريين.
هذا كتاب مرجعي يمكن إعتماده في رحلة البحث عن “العلاقات الروسية الشرق أوسطية”، وحتماً سينال إهتمام مراكز البحث العلمي والجامعات والقراء على حد سواء، وقد شقّ طريقه إلى هذا السبيل في عالمنا العربي، وهو قيد الترجمة حالياً إلى اللغة الروسية لما يضمه من عناصر الأهمية والجدة والعمق والدقة وإتساع المرحلة الزمنية التي يغطيها والوضوح وإعتماد المنهج العلمي في البحث والتدقيق والإستنتاج الموضوعي.