خطابا بوتين وبايدن.. “المفرمة” العالمية مستمرة

منى فرحمنى فرح26/02/2023
سوف تبقى أحداث الأسبوع الماضي حاضرة في ذاكرة المؤرخين، بإعتبارها نقطة اللاعودة للحرب الروسية-الأوكرانية؛ هذا إذا كان أحدهم محظوظاً بما يكفي لكي يبقى حياً في عصر التدمير الذاتي الذي نعيشه اليوم. فالخطب التي ألقاهما الرئيسان الروسي والأميركي، في الذكرى السنوية الأولى لهذه الحرب، كانت في الحقيقة لحظة تحول هذا الصراع إلى حرب عالمية، بحسب براندون ج. ويتشر(*).

المبارزة بالخطب الرئاسية بين الرئيس الأميركي المتصلب، جو بايدن، ونظيره الروسي المتجهم، فلاديمير بوتين، الأسبوع الماضي كانت في الحقيقة تعذيب رسمي للعالم.

لم يكن أي من الخطابين مطمئناً بأي شكل من الأشكال.

بايدن سافر إلى كييف لتأكيد دعمه “الأبدي” وغير المحدود لأوكرانيا. لقد وعد رعاياه الأوكرانيين بمواصلة مساعدتهم بالعتاد والأسلحة الأميركية، وبتقديم دعم جديد بقيمة 500 مليون دولار، وهذا المبلغ هو بالحقيقة من أموال دافعي الضرائب الأميركيين.

بعد وقت قصير من خطابه، ألمح البنتاغون إلى أنه سوف يُسرّع إجراءات تنفيذ وعوده بإرسال صفقة دبابات أبرامز M1A2 لقوات الدفاع الأوكرانية (ولكن لم يتم تسليمها بعد)، إلى جانب تسليم صفقة MBTs الموجودة بالفعل في المستودعات الأميركية (وهو أمر قاوم البنتاغون كثيراً حتى لا ينفذه عندما أصدرت إدارة بايدن إعلانها الأولي بشأن إرسال هذه الأسلحة إلى أوكرانيا).

كيف نفهم خطاب بوتين

الخطاب الآخر جاء من بوتين، الذي تحدث لمدة ساعتين متواصلتين مساء الثلاثاء، كرر فيه إلتزامه بتحقيق النصر الكامل على أوكرانيا، وكيف أن “عبدة الشيطان” و”مغتصبي الأطفال” يحكمون الولايات المتحدة اليوم.

مطالبة بوتين بإزالة أنظمة الأسلحة الهجومية البعيدة المدى من أوكرانيا تهديد بمثابة “خط أحمر” على “الناتو” والأميركيين التفكير مرتين على الأقل قبل أن يتخطوه

ليس من المستغرب أن معظم وسائل الإعلام الغربية امتنعت ببساطة عن تغطية خطاب بوتين. أما القلَّة التي فعلت ذلك فكانت ساخرة بشكل علني. كان الخطاب “كاستروياً” بإمتياز (على نمط الخطابات التي كان يلقيها الزعيم الكوبي الراحل فيدل كاسترو)، فيه الكثير من الثرثرة، وتشوبه إزدراءات دينية ضد الغرب كافية لأن تجعل حتى الملالي الإيرانيين يشعرون بالخجل. ولكن كان هناك أيضاً “جوهر” في كلام بوتين.

فهو لم يشر فقط إلى أن إلتزامه بالصراع متيناً وقوياً، كما كان دائماً، بل وهدَّد أيضاً بتصعيد الصراع رداً على ما اعتبره تصعيداً أميركياً.

في الحقيقة، لقد أصدر بوتين أول تهديداته الجدّية ضد حلف شمال الأطلسي (الناتو). في خطابه أراد أن يوصل لخصومه الأميركيين رسالة مفادها أنه يجب عليهم أن يزيلوا أنظمة الأسلحة الهجومية البعيدة المدى التي زرعوها في أوكرانيا، وإلَّا ستبدأ القوات الروسية في استهداف تلك الأنظمة بشكل مباشر.

هذا التهديد هو بمثابة “خط أحمر” وضعه بوتين، ويجب على “الناتو” والأميركيين التفكير مرتين على الأقل قبل أن يتخطوه.

فكما يعرف الجميع، أنظمة الهجوم البعيدة المدى تلك وضعها الأميركيون و”الناتو” في أوكرانيا لإستخدامها في ضرب العمق الروسي. يحق لأوكرانيا بالتأكيد الدفاع عن نفسها. لكن أن تفعل ذلك بمعدات وقدرات لا يمكن أن تمتلكها إلا بفضل الأميركيين، فذلك يعني أن الولايات المتحدة و”الناتو” هما الآن؛ في نظر بوتين؛ مشاركين فعليين في الحرب وبشكل مباشر.

بايدن سافر إلى كييف لتأكيد دعمه “الأبدي” وغير المحدود لأوكرانيا.. وأيضاً إستعداده الكامل للذهاب بعيداً في ما يتعلق بهذا الصراع

وهذا ما أوضحه بوتين في خطابه بشكل صريح، عندما قال إن الأميركيين سيتحملون العواقب والمسؤولية كاملة إذا ما تعرضت روسيا لأي هجوم بواسطة أنظمة الصواريخ تلك.

والأكثر من ذلك، إذا تم استهداف أنظمة الأسلحة هذه من قبل الروس (كما يهدد بوتين) فيمكن أن نتوقع سقوط أميركيين بين القتلى. فكما هو الحال مع مواقع S-400 الروسية في سوريا، هناك طاقم من الفنيين الأميركيين يشرفون على تشغيل، أوصيانة، تلك الأنظمة الأميركية بعيدة المدى.

بالإضافة إلى ذلك، من المحتمل أن تكون هناك قوات أميركية تعمل بشكل سرّي في مراقبة وتشغيل وحماية أنظمة الأسلحة بعيدة المدى هذه، لذلك يمكننا أن نتوقع أن أي إستهداف روسي لهذه الأنظمة والمناطق المحيطة بها سيؤدي بالتأكيد إلى خسائر أميركية في الأرواح.

قرار بوتين الإنسحاب من “ستارت” يكشف عن العمق الذي يرغب في الذهاب إليه من لضمان فوزه في الحرب.. وإذا لزم الأمر، فقد ينشر أسلحة نووية تكتيكية

الخلاصة الرئيسية من هذين الخطابين، اللذين تم إلقاؤهما بفارق ساعات فقط بينهما، هي أنه لا يوجد أمل في التوصل إلى اتفاق سلام الآن.

الهرولة نحو حرب نووية

في خطابه، أصدر بوتين إعلاناً صادماً بأن روسيا انسحبت من معاهدة “ستارت” الجديدة، التي وُقعت في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، والتي حدَّت من عدد الأسلحة النووية التكتيكية التي يمكن أن تمتلكها كل من واشنطن وموسكو.

بالطبع، لقد منحت معاهدة “ستارت” الجديدة أيضاً العديد من المزايا الحاسمة للجانب الروسي عندما وقع الاتفاق الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف مع نظيره الأميركي (أوباما)، بمباركة بوتين طبعاً.

ومع ذلك، فإن روسيا لديها تاريخ طويل في دعم مجموعة من اتفاقيات الحد من التسلح مع الأميركيين التي تعود إلى أيام الحرب الباردة.

ولكي يسحب بوتين روسيا من اتفاق، هو شخصياً كان قد دافع عنه بقوة وتصميم عظيمين، فهذا أمر يجب أن يثير الرعب في نفوس صانعي السياسة في واشنطن. ومع ذلك، فإن كل ما فعلته تلك التصريحات هو شحن حماسة واشنطن وإندفاعها في الدعم الأعمى لوكيلها الأوكراني.

إن قرار بوتين بالإنسحاب من معاهدة “ستارت” يكشف عن العمق الذي يرغب في الذهاب إليه من أجل ضمان فوزه في هذه الحرب. وبالتالي، فإن التسوية غير ممكنة على هذا المعدل. والشيء الوحيد الذي من شأنه أن يجعل أي إتفاق سلام قابلاً للتطبيق بالنسبة لروسيا يكون فقط في حالة واحدة: إذا هُزم جيشها بشكل حاسم.

إقرأ على موقع 180  أسترا زينيكا سقط.. لم يسقط

لقد تكبّد الروس خسائر فادحة بالتأكيد. كذلك تكبّدت أوكرانيا هي أيضاً خسائر كبيرة جداً، خصوصاً في الآونة الأخيرة. لكن، وعلى عكس الأوكرانيين، يمكن للروس ببساطة الإستمرار في إرسال مئات الآلاف من الجنود إلى “مفرمة اللحم” حتى يقاتلوا الأوكرانيين؛ وإلى أن تستنزف القوات الروسية كل إمكاناتها فهي لن تتوقف قبل أن تهزم القوات الأوكرانية في الميدان؛ وبعد ذلك تُصعد فوق جثثها. ويبدو أن هذه، على الأقل، هي الخطة الروسية العامة.

وإذا لزم الأمر، فقد ينشر بوتين أسلحة نووية تكتيكية لضمان أن تتمكن قواته من إنجاز هذه المهمة الشاقة.

لا عودة إلى الوراء

لقد أوضح الأوكرانيون نواياهم حتى قبل إندلاع الصراع: كييف تريد استعادة شبه جزيرة القرم بالكامل، وبعد ذلك تريد إستعادة مناطق شرق أوكرانيا.

هذا أيضاً “خط أحمر”، إذا تم تجاوزه، فمن المرجح أن يدفع موسكو إلى المخاطرة بحرب نووية. لا يمكن لروسيا أن تفقد قاعدتها البحرية في سيفاستوبول. وإذا حدث ذلك، فإنها لن تبقى قوة عظمى، لأنها ستصبح معزولة عن منطقة البحر الأسود الحيوية.

إذا اعتقد القادة المزعومون أن بوتين سوف يجلس جانباً ويشاهد هكذا أمر خطير يتحقق دون أن يفعل شيئاً، يكون الغرب واهماً ويعيش في حالة من الخيال الرسمي. كان هذا هو بالتحديد الهدف الذي أراد بوتين توضيحه في خطابه الطويل. الحرب ليست في مرحلة النهاية. ولن تكون هناك أي تسوية تفاوضية (على الأقل ليس في القريب العاجل، أو التي تصب في مصلحة الجانب الغربي).

“تشيرنوبيل الأميركية”

من جانبه، أوضح بايدن أنه سيواصل دعمه لحكومة الرئيس فولوديمير زيلينسكي في كييف. ليس هذا فقط، بل ذهب إلى حد القول بأنه “ترك جزءاً من قلبه هناك”، وذلك في تغريدة نشرها على حسابه على “تويتر” لدى مغادرته كييف.

يحرص بايدن على تأكيد إلتزامه الشديد بـ”القضية الأوكرانية”، إلى حد أنه رفض؛ حتى الآن؛ تقديم إجابات شافية على حادثة التسرب الكيميائي الكبير الذي حصل في منطقة “شرق فلسطين”، في ولاية أوهايو. وهي الحادثة التي أطلق عليها العديد من منتقدي بايدن اسم “تشيرنوبيل الأميركية“.

إذا عرفت الصين كيف تلعب أوراقها بشكل صحيح فستستفيد كثيراً من رؤية أكبر منافسين إستراتيجيين لها يلتهم كل منهما الآخر

وبدلاً من أن يسارع إلى مساعدة ومساندة مواطنيه الأميركيين في تلك المنطقة المنكوبة جراء حادثة التسرب؛ كما يُفترض أن يفعل خصوصاً في هذه الفترة التي تسبق حملة إنتخابات الولاية الرئاسية الثانية؛ قرَّر بايدن البذخ بأموال دافعي الضرائب الأميركيين على دولة أجنبية، أوكرانيا.

إذا كان كل هذا غير كافٍ لتبيان إلى أي مدى يرغب بايدن في الذهاب بعيداً في ما يتعلق بأوكرانيا، فأي شيء ممكن أن يقدم توضيحاً أفضل من ذلك!

لا سلام في عصرنا

بكين الآن تتدخل وبشكل مباشر أكثر، وتقف إلى جانب موسكو، ما يعني أن روسيا أصبح لديها مساحة أكبر للمناورة في الوقت الذي يسعى فيه الغرب إلى عزلها.

لماذا إذن تسعى روسيا إلى السلام، أو تقبل بأي تسوية فيما مجريات الحرب تميل لمصلحتها، كما هو الحال الآن؟

وبدلاً من إنتظار صفقة ما لكي “تفقس”، هناك حرب عالمية أخرى في متناول اليد. وقد أصبحت هذه الحرب ممكنة بسبب غطرسة وجهل القادة الغربيين والروس على حد سواء. فهؤلاء أخطأوا كثيراً في كل حساباتهم: من بداية الحرب وما قبلها، إلى النهاية التي يتصورونها لهذا الصراع.

تماماً كما كان الحال مع الحرب العالمية الأولى، بالطبع لن يكون هناك منتصرون في هذه الحرب.

وفي حال عرف كيف يلعب أوراقه الإستراتيجية بشكل صحيح، فإن الحزب الشيوعي الصيني الحاكم سيستفيد بشكل كبير من رؤية أكبر منافسين إستراتيجيين له، روسيا وأميركا، يلتهم كل منهما الآخر بسبب نزاع حدودي لا معنى له في جنوب أوروبا (وعلى الأرجح هذا هو السبب الذي يجعل بكين تدعم روسيا في حربها على أوكرانيا).

لا شك أن المؤرخين غداً، سيشعرون بالإرتباك والتشوش وهم يكتبون عن مدى الحماقة التي وصل إليها قادة هذا الزمن. وسوف يلاحظون أن الخطابين، اللذين ألقاهما كلٌ من الرئيسين الروسي والأميركي في الذكرى السنوية الأولى لبدء الحرب الروسية- الأوكرانية، كانت في الحقيقة هي اللحظة التي تحول فيها هذا الصراع إلى حرب عالمية.

علاوة على ذلك، سوف يتساءلون كيف يمكن لشعب أنعم الله عليه بالكثير أن يكون غير مسؤول إلى هذا الحد، وإلى درجة أن يجازف بكل شيء من أجل نزاع تافه.

لنواجه الأمر، لن يكون هناك سلام في عصرنا. إن الخطب الأخيرة التي ألقاها بايدن وبوتين، فضلاً عن الإنخراط المتزايد للصين في النزاع الروسي-الأوكراني، يعني شيئاً واحداً وواضحاً جداً: الحرب هي نصيبنا؛ وهي ليست من الحروب التي يمكن للغرب أن ينتصر فيها بسهولة.

– النص بالإنكليزية على موقع “آسيا تايمز

(*) براندون ج. ويتشر، كاتب ومحلل سياسي. من مؤلفاته: “مساحات الفوز: كيف تبقى أميركا قوة عُظمى”، و”حرب الظلّ: سعي إيران للتفوق”، و”الاختراق الجيولوجي: سباق الصين للسيطرة على الحياة”.

Print Friendly, PDF & Email
منى فرح

صحافية لبنانية

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  أسترا زينيكا سقط.. لم يسقط