لاحظتُ، كما لا شك لاحظ آخرون، أن معظم ردود الفعل عكست أو لعلها كشفت حقيقة نوايا الدول صاحبة هذه الردود. إتضح أكثر من ذي قبل أن لبعض الدول مصالح في فشل هذه المبادرة، أي في استمرار الحرب. إتضح أيضا أن دولاً غير قليلة العدد رحبت بالمبادرة وتفاءلت خيراً، هذه الدول تستحق أن أطلق عليها دول الرأي الثالث تمييزاً لها عن دول الرأي الأول وأقصد الولايات المتحدة وأكثرية أعضاء الحلف الأطلسي، وهي الدول المشتركة فعلياً في الحرب في صف أوكرانيا، بمعنى انغماسها في دعم أوكرانيا بالسلاح والمال وفرض العقوبات على روسيا والدول المتعاونة معها، وتمييزاً لها أيضاً عن دول الرأي الثاني الداعم كلية للموقف الروسي المصاحب للتدخل العسكري في أوكرانيا وإعلان استقلال جمهوريتين ناطقتين باللغة الروسية وتقعان في شرق أوكرانيا المتاخم للأراضي الروسية، وهذه دول قليلة العدد. يكاد العدد لقلته ينحصر في ثلاث أو أربع دول. اليوم فكّرت أن أعرض بالإيجاز الممكن بعض ما تسرب من أفكار وتعليقات وآراء حول مبادرة الصين.
الصين كما يعلم أغلب المراقبين ملتزمة حزباً ومراكز عصف فكري بالقرار القديم الأجل بعدم التدخل خارج الحدود وعدم الإقدام على تنفيذ سياسات استراتيجية غير عادية قبل منتصف القرن حين تكون الصين استكملت تحضير نفسها للعب دور القطب الدولي المرموق
***
أولاً؛ الصين، بتقديمها هذه المبادرة، نجحت في أن تثير الاهتمام بقضية هي حسب اعتقادي القضية الأهم في جدول اهتمامات القيادة الراهنة للحزب الشيوعي الصيني. هذه القضية هي الحاجة الماسة لصياغة مفهوم ومحتوى وشكل نظام دولي جديد تُروّج لقيامه الصين وروسيا ويتحمس له عدد من دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. إنضمت إليها دول أوروبية كشفت مؤخراً وبالتحديد خلال الأزمة الأوكرانية الحالية عن مظاهر تململ وعدم ارتياح إزاء النظام الدولي الراهن، وتسميه الصين نظام هيمنة القطب الواحد.
ثانياً؛ صدر عن مسئول كبير في البيت الأبيض ما معناه أن العقد القادم حاسم بالنسبة لإقرار شروط المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. صدور مثل هذا التصريح في الظروف الراهنة يوحي بوجود رابطة تربط الحرب الناشبة بين أوكرانيا وروسيا بالحملة الفريدة في نوعها التي تشنها الولايات المتحدة ضد الصين. توحي أيضاً بأن للصين دوراً في هذه الحرب إلى جانب روسيا إن لم تلعبه حتى الآن ولو في الخفاء فسوف تلعبه جهاراً في أقرب وقت.
المثير والغريب نجده في الاتهام الأمريكي بأن الصين تستعد لدعم روسيا بالسلاح الأحدث، وذلك بوتيرة لافتة للإنتباه قبل أيام من إطلاق الصين مبادرتها لتحقيق السلام، الأمر الذي يجد تفسيره في الحملة الشرسة التي نظمتها واشنطن وسيّرتها ضد المبادرة الصينية، في وقت كان رد الفعل الأوكراني عليها معتدلاً بل لعله بدا لنا في أيامه الأولى مرحباً كما بدا الرأي الأوروبي منقسماً وفي أغلبه بارداً بينما ركّز الإعلام الأمريكي وإعلام الحلف الأطلسي منذ اللحظة الأولى على إدانة المبادرة لأنها حسب الرأي الرسمي الأمريكي صدرت لتخدم مصالح روسيا.
ثالثاً؛ قيل في تقويم المبادرة الصينية أن توقيتها مناسب ولكن الوقت غير مناسب. لعل القصد من التوقيت المناسب هو مرور عام على حرب باهظة الكلفة والضحايا والدمار؛ هو أيضاً الإنهاك الذي أصاب العالم بأسره والصعوبات اليومية التي صارت تواجه كافة الشعوب. أما الوقت غير المناسب فالقصد منه أن أمريكا لا تزال على إصرارها أن تستمر الحرب حتى تنهزم روسيا هزيمة ماحقة بينما تظل أمريكا الدولة الكبيرة الوحيدة التي لم يصبها أذى خطيراً، بل يبدو على العكس أنها جنت مكاسب من ارتفاع أسعار النفط والتشغيل شبه الكامل لمصانع السلاح وغيره من حاجات الحرب. وعلى عكس الاعتقاد الأمريكي بأن المبادرة صدرت لصالح روسيا الفاشلة في الحرب والخاسرة بسبب العقوبات المفروضة عليها (أكثر من 1700 عقوبة حتى لحظة كتابة هذه السطور) تبدو روسيا قادرة على أو راغبة في مد أجل الحرب حتى تُحقّق كافة أهدافها منها.
رابعاً؛ قيل إن الصين بعرضها مبادرة سلمية أرادت أن تُبعد عن نفسها أي شك في أنها يمكن أن تُغير موقفها من الحرب فتتحول تحت الضغط الأمريكي حليفاً لروسيا. سمعت من شخص عالم بشئون الشرق الأقصى ومتابع جيد لتحركات استخباراتية ودبلوماسية أن الصين شعرت في الآونة الأخيرة بزيادة ملحوظة في محاولات جرها إلى حرب أخرى في شرق آسيا سواء باستفزازها بتدخل شبه عسكري في تايوان أو بوقيعة بينها وبين اليابان أو كوريا الجنوبية إذا هي استمرت ترفض التدخل مع روسيا شريكاً في الحرب أو بالدعم الصريح. الصين كما يعلم أغلب المراقبين ملتزمة حزباً ومراكز عصف فكري بالقرار القديم الأجل بعدم التدخل خارج الحدود وعدم الإقدام على تنفيذ سياسات استراتيجية غير عادية قبل منتصف القرن حين تكون الصين استكملت تحضير نفسها للعب دور القطب الدولي المرموق.
كان الأفضل لكل الأطراف أن يقدم قادة الحلف ضمانات أمنية لروسيا بدلاً من التهديد المستمر لأمنها ووحدة كيانها بالتمدد نحو حدودها. تعتقد موسكو الآن أن واشنطن تخطط لتقسيم روسيا وتفكيك الاتحاد وأن الحرب الناشبة حاليا هدفها التمهيد للتقسيم أو التفكيك
خامساً؛ تدرك الصين كما يُفكر بعض المعلقين المتابعين لتطورات الموقف داخل أوكرانيا وحولها أن للحرب الأوكرانية خلفية طويلة ومعقدة. تدرك بالتالي أنه من غير المفيد مسايرة هذا الطرف أو ذاك أو الاقتناع بدون مناقشة بدعاوى كل الأطراف. كان الأجدى من البداية أن يبقى الخلاف أو العلاقة محصورة بين حكومتي أوكرانيا وروسيا خصوصاً فيما يتعلق بحقوق روسيا التاريخية في شبه جزيرة القرم. كان من الضروري أيضاً أن تحترم الولايات المتحدة ما التزمت به في اتفاقيات دولية بعدم التمدد بالحلف الأطلسي في شرق أوروبا أو الاقتراب من حدود روسيا. كان الأفضل لكل الأطراف أن يقدم قادة الحلف ضمانات أمنية لروسيا بدلاً من التهديد المستمر لأمنها ووحدة كيانها بالتمدد نحو حدودها. تعتقد موسكو الآن أن واشنطن تخطط لتقسيم روسيا وتفكيك الاتحاد وأن الحرب الناشبة حاليا هدفها التمهيد للتقسيم أو التفكيك.
سادساً؛ أنا شخصياً لا أستبعد أن تكون الصين أقدمت على طرح هذه المبادرة أملاً في تحريك الموقف نحو تفاهم أو برهة من الوقت تسمح لكل الأطراف إعادة النظر في تحركاتها وإعادة صياغة أهدافها من هذه الحرب. أكاد أكون واثقاً من أن روسيا، وإن كانت غير نادمة على قرارها غزو أوكرانيا إلا أنها صارت خلال عام واحد من الحرب في وضع عسكري حرج بالنظر إلى الإمكانات الهائلة التي وضعت رهن مشيئة أوكرانيا. من ناحية أخرى، لا يجوز أن نُقلّل من شأن الدور الذي لعبته معظم دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط بامتناعها عن تأييد رد فعل الحلف الأطلسي بالرغم من الضغوط الأمريكية. ولا شك أن الهند ودولاً عربية بعينها وإيران جسّدت أمثلة بارزة على قسوة بعض هذه الضغوط والتهديدات.
***
الغريب في هذه الحرب أنها خلقت مصالح لها صارت تعمل بذاتها لضمان استمرار الحرب. بعض هذه المصالح قوي ومتشعب وقادر على إبطال مفعول مبادرات السلم العديدة التي طرحت. الأغرب من وجهة نظري هو ما سوف نكون ضحايا له أو شهوداً عليه في الشهور وربما السنوات القادمة، أقصد المراحل التالية في سباق الصعود إلى القمة في عالم الغد.