زمن التحوّلات الكبرى.. إستقطابات ما بعد الحرب الأوكرانية (1)

تحْدُث تحوّلات كبرى في كل مرحلة انتقالية من مراحل التاريخ الحديث والمعاصر[1] ومن ذلك التحوّلات التي تلت الثورة الفرنسية 1789/1799 وأسفرت عن رؤية إنسانية جديدة للعالم، ونظام للقيم والمعايير، فضلاً عن تقلبات وثورات أعادت رسم البنيات الاجتماعية/الاقتصادية لدول أوروبا.

كذلك أدّت التحوّلات التي أعقبت الثورة الروسية (1917)، وأحداث الحرب العالمية الثانية (1945)، وانخراط الولايات المتحدة الأميركية بقوّة في الشؤون الدولية، إلى قيام مؤسسات دولية جديدة ونظام اقتصادي ومالي تستمر مفاعيله حتى الآن، من دون أن ننسى ظهور نظام عالمي ثنائيّ القطبية في مناخات الحرب الباردة، وظهور حركة عدم الانحياز والكتلة الاشتراكية الموزعة الولاء بين الاتحاد السوفياتي وجمهورية الصين الشعبية.

الآن، ثمة عالم يتفاعل مع إيقاعات المواجهة على المسرح الأوكراني، وسط تحوّلات كبرى في السياسة والاقتصاد والأمن والاتصالات والعلاقات الدولية، ويبدو أنه لذلك دخل النظام العالمي في مرحلة انتقالية تسودها ظواهر عنف وفوضى تجعله أشبه باللاّنظام، إذ تختل التوازنات والموازين وتتبدّل التحالفات والاستقطابات في سياق تراجع دول عظمى وبروز قوى جديدة، تندفع للإمساك بمواقع أو استعادة مواقع لها على المسرح العالمي، مثل روسيا والصين وألمانيا والهند وإيران وتركيا.

ويُدرك الخبراء أن العلاقة التفاعلية بين النظام الدولي والنظم الإقليمية، تجعل للأوّل تأثيرات مباشرة وغير مباشرة في النظام الإقليمي العربي، وتطور مشاكله وقضاياه ونقاط القوة أو الضعف فيه، مثلما أن لمجتمعات العالم العربي ودوله ديناميات تساهم في تطور النظام الإقليمي أو لجم تقدّمه وتفكّكه. وأعتقد أن النظرية السيستامية تساعدنا في فهم جوهر العلاقة التفاعلية بين هيكلية النظام الدولي والنظم الإقليمية، سواء كانت فرعية أو تابعة أو مخترقة، علماً أنه يمكن الحديث عن بيئة جيوسياسية تحكم النسقين/الزمَنَين، وأن النظم الفرعية، أيّاً تكن ديناميتها الخاصة فإنها تتلقى دفقات الحركة والتغيير من رأس هرم النظام وتتفاعل معها، كما تؤثر فيها.

ثلاث مسائل مفهومية

وبعيداً عن إطلاق مناقشة واسعة حول مآلات النظام الإقليمي العربي مثلما حدث غداة الأزمة السيستاميّة التالية لانفجارات الربيع العربي (2011)، فإنّ ديناميات الصراع والتنافس الإقليميين ومنها اتجاهات التطبيع مع إسرائيل، وتموضع القطبين الإقليميين، إيران وتركيا، والحضور الروسي في المجال الجيوسياسي العربي، ما زالت تحضّ على إحاطة شاملة لفهم ما تخبّئه تحوّلات البنية الجيوسياسية الإقليمية.

إن أي بحث في تداعيات تفكك النظام الإقليمي العربي[2] ، وآخر مظاهره تعثّر التسويات في ليبيا وسوريا واليمن والعراق ولبنان وتونس، والتقاطع الأميركي الإيراني في إنجاز عملية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، يستدعي الخوض في عدد من المسائل المفهومية المتعلّقة بهذا الشأن.

ديناميات الصراع والتنافس الإقليميين ومنها اتجاهات التطبيع مع إسرائيل، وتموضع القطبين الإقليميين، إيران وتركيا، والحضور الروسي في المجال الجيوسياسي العربي، ما زالت تحضّ على إحاطة شاملة لفهم ما تخبّئه تحوّلات البنية الجيوسياسية الإقليمية

المسألة الأولى: تتناول التحوّلات الجيوسياسيّة والجيواقتصاديّة التي طرأت على النظام الدولي[3] عقب تفكّك نواته المركزية المتمثّلة في الاستقطاب الثنائي وانهيار الاتحاد السوفياتي وانكفاء الدور العالمي للكتلة الشرقية. وقد دفع التحوّل البنيوي في النظام الدولي إلى الانتقال من طور القطبيّة الثنائيّة إلى طور جديد عَرَف هيمنة أميركيّة أحاديّة لبعض الوقت، ثم ما لبث أن تملكه نزوع نحو تعدّدية الأقطاب بفعل التراجع النسبي للقوّة الأميركية العظمى، ودخول قوى كبرى جديدة إلى النصاب الدولي (أبرزها الصين والاتحاد الروسي والهند والبرازيل.. إلخ)، وإن بقي نظاماً غير مستقر وغير محدّد الآليات ما دام يرزح تحت وطأة أزمة انتقالية[4] تتّسم بالفوضى وعدم اليقين لظهور عناصر جديدة في البيئة الدوليّة مثل أزمة اللاجئين المتفاقمة، وتفشّي العنف الذي تحمله قوى غير نظامية عابرة لحدود الدول خصوصاً في الشرق الأوسط، والأزمة المناخيّة المدمرة على النظام العالمي الشامل.

وكان من الطبيعيّ أن ينعكس هذا المناخ الجديد في البيئة الجيوسياسيّة العالميّة، على كل النظم الإقليمية الفرعية ومنها النظام العربي[5]، بدليل التفاعل بين الأزمة الأوكرانية والأزمة السورية – وبينهما عودة اللاعب الروسي إلى ساحة الصراع والتنافس مع الغرب والكتلة الأطلسية – وتفاعلات الاتفاق النووي بين إيران والدول الكبرى.

المسألة الثانية: لم يتأخّر المتغيّر الدولي في الارتداد على ديناميات النظام الإقليمي العربي وتفكك آليات العمل العربي المشترك وأبرزها الالتزام القومي بالقضية الفلسطينيّة، ولعلّ أوضح علامات هذا التفاعل هو الانقلاب الإسرائيلي الوحشي على نتائج عملية أوسلو ومشروع الدولة الفلسطينيّة، تحت غطاء الحرب الأميركيّة ضدّ الإرهاب عقب هجوم 2001 في نيويورك، وغزو بلاد الرافدين في 2003 وتدمير الدولة العراقيّة، وإطلاق النزاع السني – الشيعي ثمّ الشيعي – الشيعي على السلطة في بغداد وامتداداته الإقليميّة، فضلاً عن انفجار الأزمة السوريّة، علماً أنه كان لهذه التطورات انعكاسات إقليميّة أبرزها امتناع تركيا عن المشاركة في غزو العراق، وشعور أنقرة بأنها مهدّدة جرّاء العدوان الأميركي على العراق وأفغانستان، وتعاظم الترابط بين الوضع في الخليج والعراق وسوريا ولبنان، وظهور تنظيم “القاعدة” والتيارات السلفيّة بالتزامن مع المعارضة المسلّحة العراقيّة.

الدور الروسي الغالب في الأزمة السورية، كشف حدود السيطرة الأميركية في المنطقة، كما أظهر ملامح لتكتل جيوسياسي جديد يضع التقاطع بين روسيا وإيران وتركيا (والصين) على خط التوازن/التنافس مع الكتلة الغربية الأطلسية، ما يوحي بظهور استقطابات جديدة سوف تصبح الحاضنة لتطوّر الأزمة الأوكرانيّة نحو المواجهة الكبرى الحالية

وكان من شأن الاندفاعة الإيرانية والتركية نحو التدخّل سياسيّاً وعسكريّاً في الأزمتين السوريّة والعراقيّة، بعد النجاح الذي حقّقته كل من طهران وأنقرة في الانخراط في قضايا الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني والإسرائيلي – العربي، أن يُعيد إلى بساط البحث مفهوم نظام الصراع في الشرق الأوسط، والذي قام على محورين رئيسيّين: الصراع الكلاسيكي العربي – الإسرائيلي والصراع الإيراني – الغربي (الأميركي) في الخليج؛ إذ يتعيّن الآن أن نرى ما إذا كانت الطبيعة النسقيّة للصراع في المنطقة قد تبدّلت لتداخل المحورين وبروز خط الصدع السنّي الشيعي على سطح الجيوبوليتيكا الإقليمية، وحلول سياسة المحاور العربيّة في الحروب الدائرة في سوريا وليبيا واليمن مكان العمل العربي المشترك إزاء التهديد الإسرائيلي؛ وأن ندرك ثانياً طبيعة التحوّلات التي طرأت على المحورين المذكورين بفعل اتجاهات التطبيع العربي – الإسرائيلي، والتكامل بين سلطة الحكم الذاتي في فلسطين المحتلة ومؤسسات النظام الإقليمي العربي. وهذا يُفترض أن يقود بدوره إلى إعادة فتح النقاش حول صورة المنطقة وهُويتها، بين عالم عربي، وشرق أوسط عربي، أو شرق أوسط يضمّ إيران وتركيا (وإسرائيل) ويفسح المجال لنسق جديد في التعاون الإقليمي حجّته القوية العمل لتعويض التقصير العربي أمام التحدي الإسرائيلي.

إقرأ على موقع 180  الرأسمالُ يُدمّرنا.. الإنتساب للقاتل أم للمقتول؟

المسألة الثالثة: في إطار المناقشة حول إعادة صوغ مفهوم النظام أو نسق التعاون الإقليمي، يبرز السؤال عن الوجود العسكري الروسي في المنطقة، بعدما ساهم التدخل في الحرب السورية في استعادة موسكو دورها في الشرق الأوسط، إذ كانت تُعد خلال مرحلة الحرب الباردة القوة الأساسية الفاعلة في مواجهة واشنطن؛ فالدور الروسي الغالب في الأزمة السورية، كشف حدود السيطرة الأميركية في المنطقة، كما أظهر ملامح لتكتل جيوسياسي جديد يضع التقاطع بين روسيا وإيران وتركيا (والصين) على خط التوازن/التنافس مع الكتلة الغربية الأطلسية، ما يوحي بظهور استقطابات جديدة سوف تصبح الحاضنة لتطوّر الأزمة الأوكرانيّة نحو المواجهة الكبرى الحالية.

في ضوء ما تقدَّم، تبرز الحاجة لإطلاق ورشة فكرية واسعة تتناول مفاهيم جديدة لمقاربة السياسة والاقتصاد والبيئة والعلاقات الدولية، وذلك في سياقات انكفاء “عالم قديم” وانبلاج “عالم جديد” يتطلب تصورات ونظماً معرفية جديدة للإحاطة بآليات نظام إقليمي متحوّل عقب مرحلة طويلة من التفكك عصفت بنظام عربيّ فَقَدَ خلالها سماته الأساسية والتحكم بأجندته المركزيّة. ويمكن اعتبار الأزمة الإقليمية الملازمة لثورات “الربيع العربي” (2011) بمثابة المنعطف لانطلاق مسارات ترتيب إقليمي جديد يتموضع فيه بقوة الاتجاه العربي الرسمي للتطبيع مع إسرائيل ويتفاعل فيه الدوران الإيراني والتركي، فضلاً عن عودة النفوذ الروسي عبر التدخل العسكري في سوريا، وكل ذلك على خلفية غياب القوة العربية المركزية، القادرة على احتواء الاختراقات الخارجية ورفع التحدي الاستراتيجي لإسرائيل.

(*) في الجزء الثاني: ماذا عن تحولات النظام الدولي والإقليمي في العقود الأخيرة؟

[1] انظر: جلبير الأشقر “الشعب يريد، بحث جذري في الانتفاضة العربية” (بيروت: دار الساقي، ط2، 2013)، ص 252.

[2] يرد مفهوم الأزمة الانتقالية هنا استناداً إلى صيغة العملية الانتقالية التي يعتمدها إيمانويل تود ويوسف كرباج بالمعنى الشامل للتحوّلات الديموغرافية والثقافية والذهنية. ووفقاً لهذا المضمون فإن الاضطرابات والتقلبات التي تحدث اليوم في العالم العربي / الإسلامي يمكن أن تفهم كمؤشرات إلى فقدان البوصلة الخاص بالحقبات الانتقالية. انظر: Youssef Courbage & Emmanuel Todd, Le rendez-vous des Civilisations(Paris: Editions du Seuil et la Republique des Ideés, septembre 2007), pp. 5-9

[3] تقوم النظرية السيستامية على مفاهيم أربعة أساسية لعمل النظام السياسي أو الاقتصادي وهي التفاعل والشمولية والتنظيم والطبيعة المركبة. أما المبادىء الأساسية التي تعطى معنى لمفهوم النظام فهي “الحدود” التي تفصله عن بيئته والتي هي معرضة للاختراق والعناصر المكونة من المجتمعات البشرية أو المؤسسات الاقتصادية، وشبكة علاقات ونقل واتصال تتعلق بالطاقة والمعلومات بكل الأشكال.

انظر: Daniel Duraud, La Systemique, (Paris: Pesses Universitaires de France – PUF; Édition 12e édition revue et corrigée, 22 février 2013), pp. 7-20.

[4] يقع موضوع أطوار التاريخ الانتقالية في حقول بحثية عدة ويُحيل إلى مسألة التحقيب في التاريخ ويقود إلى حقبة تسمى المرحلة الانتقالية أو الطور الانتقالي أو الزمن الانتقالي، وهي أزمنة تطول أو تقصر وتندرج في سياقات تاريخية تتسم بملامح خاصة. ويستخدم الدكتور كمال عبد اللطيف مفهوم زمن المراجعات الكبرى بحيث يصبح الطور الانتقالي العربي عقب انفجارات 2011 مرادفاً لزمن المراجعات الكبرى.

انظر كمال عبد اللطيف “ما بعد الثورات العربية زمن المراجعات الكبرى”، في مجموعة من المؤلفين أطوار التاريخ الانتقالي مآ ل الثورات العربية (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2015، ص 33 – 64)

[5] يقدم إيمانويل تود نموذجاً تفسيرياً لتحلل آليات النظام الأميركي. انظر: إيمانويل تود، “ما بعد الإمبراطورية، دراسة في تفكيك النظام الأميركي” (بيروت: دار الساقي، ط2، 2004. ص26-25)

Print Friendly, PDF & Email
ميشال نوفل

كاتب وصحافي لبناني

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  لحرب غزة خصوصياتها.. هل تحمل نهاياتها مفارقات جديدة؟