الصين عندما تفاجىء الولايات المتحدة ببراعتها الدبلوماسية

حمل شهر مارس/آذار العديد من الإشارات الدالة على بدء الصين نشاطا دبلوماسيا غير تقليدى فى إطار منافستها الجارية للهيمنة الأمريكية على الشؤون العالمية. تهدف الصين لأن يجلب لها دورها النشط دبلوماسيا المزيد من المنافع التجارية والاقتصادية وربما العسكرية فى المستقبل القريب، وهو ما يدعم جهودها للتشكيك فى الريادة الأمريكية، ونظامها الدولى الذى أنشأته عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945.

فى شهر مارس/آذار، قام الرئيس شى جين بينج بزيارة لموسكو، سبقها بأيام طرحه لمبادرة «الحضارة العالمية»، وسبق ذلك بأسبوع توسط بكين الناجح لإنهاء العداء بين السعودية وإيران. خلال زيارته لروسيا، قال الرئيس الصينى لنظيره الروسى فلاديمير بوتين فى نهاية قمتهما التى استمرت ثلاثة أيام فى العاصمة موسكو، إننا «فى الوقت الحالى نشهد تغييرا لم نشهده منذ 100 عام، ونحن نقود هذا التغيير معا».
فى الأسابيع الأولى من غزو روسيا لأوكرانيا، وضع مسئول السياسة الخارجية فى الاتحاد الأوروبى جوزيب بوريل آماله فى الصين لحل الصراع. وأكد بوريل أنه لا يوجد بديل عن وساطة الصين، فالدول الأوروبية لا يمكنها لعب هذا الدور لدعمها الواسع لأوكرانيا عسكريا واقتصاديا، ولا يمكن أن تكون الولايات المتحدة وسيطا كذلك.
بعد مرور أكثر من عام، خيبت الصين الآمال فى لعب أى دور وساطة جدى، ولم تبد أى اهتمام بكبح جماح روسيا أو دفعها للانسحاب من الأراضى الأوكرانية.
نجحت الصين فى تحقيق استفادة قصوى من حرب أوكرانيا، إذ ضمنت أن تكون روسيا تابعة لها، على ألا تكون ضعيفة لدرجة أن ينهار نظام الرئيس بوتين. كما استغلت بكين الحرب لتلميع أوراق اعتمادها كصانع سلام فى نظر العالم الناشئ، ومع التركيز على تايوان، لتقويض الشرعية المتصورة للعقوبات الغربية والدعم العسكرى كأداة للسياسة الخارجية. اقترح شى بسخرية خطة سلام فضفاضة لأوكرانيا من شأنها أن تكافئ العدوان الروسى والتى يعلم أن أوكرانيا لن تقبلها، ويدعو إلى احترام سيادة جميع البلدان، لكنه يهمل الإشارة إلى أن روسيا تحتل أكثر من سدس جارتها.

***

مثلت الوساطة الصينية والدفع باتجاه تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران انقلابا دبلوماسيا صدم واشنطن. ويرى بعض الخبراء أن تجاهل واشنطن لتطوير إيران قدراتها العسكرية التقليدية، دفع الرياض للاقتراب من الصين التى تعد أهم وأكبر شريك تجارى لإيران

قبل زيارته لموسكو، وفى 15 مارس/آذار، كشف الرئيس الصينى النقاب عن «مبادرة الحضارة العالمية»، فى حفل افتتاح الاجتماع رفيع المستوى لحوار الحزب الشيوعى الصينى مع الأحزاب السياسية العالمية عبر الفيديو، تجادل المبادرة بأن الدول يجب أن «تمتنع عن فرض قيمها أو نماذجها الخاصة على الآخرين وعن تأجيج المواجهة الأيديولوجية».
فى كلمته خلال الاجتماع، دعا الرئيس شى فى إطار المبادرة إلى احترام تنوع الحضارات، والدفاع عن القيم المشتركة للإنسانية، والتقدير الشديد لميراث الحضارات وابتكارها، والتدعيم المشترك للتبادلات الشعبية والتعاون على الصعيد الدولى.
وأكد شى على أن مستقبل ومصير جميع البلدان فى الوقت الراهن مرتبط بعضه بالبعض ارتباطا وثيقا، حيث يلعب التعايش والتبادل والتعلم المتبادل بين الحضارات المختلفة دورا لا غنى عنه فى تعزيز تحديث المجتمع البشرى وازدهار حديقة الحضارة العالمية.

***

قبل ذلك بأيام، فى 10 مارس/آذار، وبينما كانت تنشغل واشنطن بالبحث والتأريخ لغزوها للعراق قبل 20 عاما، توسطت الصين فى انفراج بين خصمين لدودين، إيران والمملكة العربية السعودية، وهو أول تدخل فى الشرق الأوسط، سلط الضوء على نفوذ واشنطن المتراجع.
كانت إيران والمملكة العربية السعودية عدوين شرسين منذ الثورة الإيرانية فى عام 1979. والصين هى أكبر سوق تصدير لكليهما، لذلك لديها نفوذ وحافز لمنع الحرب فى الخليج، الذى يعد أيضا أكبر مصدر للنفط. وقد يؤدى الاتفاق الذى ساعدت فى التوسط فيه إلى تهدئة حرب بالوكالة فى اليمن أسفرت عن مقتل 300 ألف شخص.
يبدو أن الحرب الروسية على أوكرانيا، والتى نتج عنها تركيز أمريكى كبير على قضية الأمن الأوروبى، دفعت السعودية إلى أن تتحرك نحو بناء علاقات خاصة مع الصين. تقليديا، كانت الرياض تتطلع إلى واشنطن للحصول على الدعم بينما تستغل طهران علاقتها مع روسيا، لكن إدارة بايدن لم تبدِ اهتماما كبيرا بدعم السعودية التى تلقت ضربة قوية لبعض منشآتها النفطية عام 2019، ولم تتدخل واشنطن وترد على إيران..
مثلت الوساطة الصينية والدفع باتجاه تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران انقلابا دبلوماسيا صدم واشنطن. ويرى بعض الخبراء أن تجاهل واشنطن لتطوير إيران قدراتها العسكرية التقليدية، دفع الرياض للاقتراب من الصين التى تعد أهم وأكبر شريك تجارى لإيران.
استغلت إيران الحرب الأوكرانية لرفع مستوى تجهيز جيشها نوعيا، وفى مقابل تزويد روسيا بطائرات بدون طيار وذخائر، وربما صواريخ باليستية، ستحصل إيران على طائرات مقاتلة من الجيل الرابع وأنظمة متقدمة أخرى من روسيا، بما فى ذلك دفاعات جوية متطورة يمكنها حماية مواقعها النووية.
كما أبرمت روسيا وإيران اتفاقا للقيام بالإنتاج العسكرى المشترك، وإنشاء ملاذات آمنة إيرانية على الأراضى الروسية بعيدة عن متناول أى هجوم عسكرى إسرائيلى أو أمريكى.

إقرأ على موقع 180  بن سلمان يتلقف إنفتاح بايدن.. هل يتخلى عن بوتين؟

***

فى الوقت الذى تحاول فيه واشنطن احتواء الصين بالطرق التقليدية العسكرية القديمة، مثل تدشين تحالف «أوكوس» بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وإمداد الأخيرة بغواصات أمريكية متقدمة تعمل بالوقود النووى، إضافة لتشكيل واشنطن تحالف “كواد” الرباعى مع الهند وأستراليا واليابان لصد الهيمنة الصينية فى منطقة المحيطين الهندى والهادىء، تتحرك الصين بأدوات حديثة لفرض وجودها فى أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.
يبقى من المؤكد أن نهج الصين ليس مرتجلا، بل منهجيا وأيديولوجيا. إذ قبل نصف قرن حضّ الزعيم الصينى دنج شياو بينج القادة الصينيين على اتباع مبدأ «إخفاء قدراتك وقضاء وقتك»، إلا أن الرئيس شى لا يخفى رغبته فى إعادة تشكيل النظام العالمى السارى منذ عام 1945.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
محمد المنشاوي

كاتب متخصص في الشؤون الأميركية، مقيم في واشنطن

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  بايدن المأزوم.. والزيارة الأكثر تأزماً!