مصادرة أموال الناس.. وسيلة لإخضاعهم!

يتحول المال من كونه أداة تبادل يجد قيمة في السلع التي يجب تبادلها الى أداة سيادة تسعى وراءه السلع وأصحابها، ويصير مصدر قيمة بذاته، بعد أن كانت قيمته مرتبطة بالتداول.

يبدأ المال مهمته كوسيط بين البائع والشاري. وفي هذه المهمة يستخدم كقياس للقيمة. لولا مهمة قياس القيمة لما استطاع أن يكون وسيطاً. لكن المهمة الأهم هي الاكتناز وتراكم المال بيد قلة من الناس لتتشكّل الثروة من الاكتناز. لا بدّ لهذه المهمة أن تكون سياسية اقتصادية. في حين كانت المهمة الأولى اقتصادية. لو اقتصر المال على التبادل وقياس القيمة لكانت المهمة السياسية من نوع آخر، إذ أن التبادل يجري بين قيم متساوية، لكنه علاقة بين البشر، وكل علاقة بين البشر هي علاقة سياسية بالدرجة الأولى. لكن المهمة تطورت حتماً مع نشوء السلطة السياسية وازدياد قدرة الحكام على الاغتصاب والمصادرة، وفيها يتحوّل المال الى رأسمال يقتطع ما يسمى فائض القيمة من العاملين لديه، ولا يترك لهم من نتاج عملهم إلا ما يكفي لأدنى مستويات العيش والتوالد.

انتشر التعاون قبل إيجاد وسيلة التبادل الذي كان المال. فالمجتمع الأول قام على التعاون قبل أن تنتشر الزراعة ويستقر قسم من البشر في قرى ومدن أدارتها سلطات سياسية. كانت السلطة أداة بيدها أداة لتوليد الثروة، التي كانت وما تزال تراكم ما يقتطعه أصحاب المال والسلطة من نتاج عمل العاملين بشكل ضريبة أو مصادرة.

ليس هنا مكان سرد تاريخ هذه التحولات بل الإشارة الى أن المال تحول تدريجيا من أداة الى كيان مستقل، له السيادة على البشر. فالبشر ينتجون أو يعملون بشكل عام من أجل المال. وما يحصلون عليه من المال يقرر مصيرهم ووضعيتهم في السلم الاجتماعي. صار للمال حركة مستقلة.

ليس الأمر أن المال كالذهب أو غيره. هناك وظيفة تنتظره بحكم كون المجتمع البدائي الأول قام على التبادل. بل قام على التعاون الذي لا يحتاج الى وسيلة تبادل، انما يحتاج الى الثقة المتبادلة بين البشر المتعاونين. في المقايضة، خاصة في التبادل التجاري، هناك دائماً محاولة من أحد الطرفين لإعلاء سعر البيع أو خفض سعر الشراء بما لا يمت بصلة الى القيمة الحقيقية لما يجري تبادله. وفي ذلك خروج عن متطلبات العدالة والأخلاق. إذ يحاول كل فريق النيل من الفريق الآخر دون اعتبار للعدالة. مع التبادل وقبله المقايضة تنفي الأخلاق نفسها. يُصرُّ ايديولوجيو الرأسمالية على القول إن المجتمع الأول قام على المقايضة ثم التبادل. فكأن هذا المجتمع كان رأسمالياً. وكأن المجتمع الأوّل ـ برغم تطوره في ما بعد الى الرق والاقطاع وغيرهما، وصولاً الى الرأسمالية ـ كان ينتظر وصول الرأسمالية، ليحتفل بانتصارها على الطبيعة البشرية، في وجه مجتمعات أولى غير عقلانية، لا تجد وسائل ناجعة للتعامل والتبادل.

لم يكن الأمر صدفة أن تنشب “أزمة” المصارف بعد “ثورة تشرين” التي عارضها أكباش الطوائف وأتباعهم الذين وجدوا في مصادرة مال الناس وسيلة لإخضاعهم. نجحوا في ذلك وكان من آثار الثورة بعثرة المجلس النيابي في انتخابات العام 2022، وأدت هذه البعثرة الى العجز عن انتخاب رئيس للجمهورية، إضافة الى فقدان نصاب الدولة

الرأسمالية بقيامها على التبادل بواسطة المال وظيفتها تحقيق العقلانية البشرية، خلافاً لما سبقها من أنظمة. وهذه العقلانية هي وحدها ما يناسب الطبيعة البشرية. فكأن الرأسمالية في تطورها هي الوجه الآخر للطبيعة البشرية. بحيث يستحيل وجود البشرية من دون الرأسمالية، كما أن أي شيء في هذا العالم لا يوجد دون طبيعته، أو ما كان يسمى جوهره.

المال كالتبادل ليس تعبيراً عن الطبيعة البشرية. هو تعبير عن السلطة على الطبيعة البشرية. هذه الطبيعة قامت أساساً على التعاون (الشيوعية) في المجتمعات البدائية. جاء المال لتدمير الطبيعة البشرية وألينة البشر (أصابتهم بالألينة وخسارة ما يجب أن يكونوا عليه ليصيروا ما تريده السلطة أن يكونوا عليه)، بسلب الروح الإنسانية منهم وإحلال روح التنافس والاحتيال مكانها (رفع أسعار البيع وخفض أسعار الشراء بلا مبرر سوى الربح وشفط القيمة من أحد طرفي عملية البيع والشراء). ففي التافس تغييب للأخلاق. والرأسمالية وأنظمة الإنتاج التي آلت إليها قامت على نفي العدالة والأخلاق. ولا رجوع إليهما إلا بنسف النظام الراسمالي من أساسه. تدمير النظام الرأسمالي ضرورة لمحو الاستغلال. وحينها فقط يكون احتمال تحقيق مجتمع العدل والأخلاق، أي محو الفساد. الفساد الأصغر مخالفة القانون. وتقاضي الرشوة مثال على ذلك كما التهرّب الضريبي والزيادة المفرطة للأسعار والخفض المعيب للأجور. لكن الفساد الأكبر هو في النظام الرأسمالي والفجوة في الثروة بين الأغنياء والفقراء. وهذه الفجوة تزداد مع مرور الزمن. والثقافة السائدة تعين على ذلك بالتبرير له، ووصف الطبيعة البشرية كما وصف الطبيعة البيئية، والدعوة للسيطرة عليها في موازاة السيطرة على الإنسان.

إقرأ على موقع 180  نظامُنا نهايتنا.. وحُكّامنا جهنّمنا الحمراء

تزداد الفجوة بين الفقر والغنى بفعل السلطة ومباركة السماء، وفلسفات النخب الثقافية، بما فيها الأكاديمية، التي لا ترى للبشرية احتمالاً آخر ولا للضمير إلا طريقاً واحدة؛ علما بأن الرأسمالية فعلت كل ما بوسعها لمنع الاحتمالات الأخرى؛ هذه الاحتمالات التي صرنا نعجز عن تصورها لأن العلم الرأسمالي ملأ عقولنا، ولم يترك في أدمغتنا مجالاً لغيرها. وهل يستطيع عقل بشري غير متهم بالجنون تصور مجتمع بشري دون ملكية خاصة؟ وهل تكون الملكية دون اللامساواة؟

ومع انتقال المعدن الثمين (الذهب والفضة) الى الورق، ثم انفصال العملة الورقية عن الارتباط بالذهب أو بالفضة، صار المال يستمد قيمته من قوة السلطة السياسية التي تطبع أوراق العملة. وكلما كانت العملة صادرة من دولة قوية صارت تعرف بالعملة الصعبة التي يتسابق أبناء المعمورة للتعامل بها أو اكتنازها. يتعامل الناس يومياً بالعملة المحلية ويستخدمون العملة الصعبة للاكتناز، إذا كانوا جزءاً من وظيفة عليا تدعمهم السلطة السياسية أو يدعمونها.

ومنذ قرون قليلة، عبّر “قانون غريشام” عن أن العملة متدنية المستوى أو السيئة تطرد العملة الصعبة أو الجيدة من السوق، إذ لا يكتنز الناس عملة لا يثقون بمستقبلها أو بالسلطة السياسة التي تصدرها. الثقة تُعطى فقط للأقوياء وعملاتهم. بالعملة الصعبة يصيرون سادة أو أن كونهم سادة سياسيين يُدر عليهم العملة الصعبة. المال لا قيمة له من دون دولة تصدره.

 لم يصبح الاكتناز ممكناً إلا مع تشكّل السلطة والانتقال من مجتمع التعاون (الصيد والجمع) الى الزراعة، وذلك قبل عدة آلاف من السنوات. لم ينتصر المال بفضل الطبيعة البشرية، بل بتدميرها، ولم تنتصر الرأسمالية على البشرية لأنها شكل للإنسانية بل اللاإنسانية. انتصار الرأسمالية، خاصة المالية، جعل المصارف اللبنانية تقول في إعلاناتها المتلفزة أنه بدونها ينتهي لبنان. في هذا الاستعلاء تعبير عن سيادة المال وتطاول أصحابها على الناس، وحتى على السلطة السياسية التي لولاها لما كان موجوداً في السلطة؛ فالسلطة السياسية هي سبب وجود المال، وتراكمه لدى القلة من الناس في ثروات هي محصلة الاغتصاب والمصادرة، حتى الجريمة العادية. وقد قال كاتب عالمي شهير أنه وراء كل ثروة جريمة.

يتسابق الناس وراء فرص العمل من أجل المال. لأن المال هو الغاية بعد أن كان في التاريخ السحيق هو الوسيلة. لم يعد وسيلة بل غاية يضاهي السعي إليها السعي الى ما في السماء. ويفوق العمل من أجلها كل السعي في العبادة لرب السماء والكون. نعمل من أجل المال أكثر مما نعمل من أجل مرضاة الله. حتى خضوع رجال الدين في هيكل المال وأصحاب الثروات هو من هذا القبيل.

هل خرج المال وأصحابه عن السيطرة؟ الجواب حتماً لا، وإلا كيف استطاع أهل السلطة في لبنان إخضاع اللبنانيين لولا السيطرة على مدخراتهم بواسطة المصارف وأصحابها بعد “ثورة تشرين”. ولّدت هذه الثورة هوية فوق هويات الطوائف، وصارت تهدد النظام، وكادت تدمر أساسه الطائفي. لم يكن الأمر صدفة أن تنشب “أزمة” المصارف بعد “ثورة تشرين” التي عارضها أكباش الطوائف وأتباعهم الذين وجدوا في مصادرة مال الناس وسيلة لإخضاعهم. نجحوا في ذلك وكان من آثار الثورة بعثرة المجلس النيابي في انتخابات العام 2022، وأدت هذه البعثرة الى العجز عن انتخاب رئيس للجمهورية، إضافة الى فقدان نصاب الدولة.

سلطة المال تبقى خاضعة للسلطة السياسية؛ وهذه أدخلت اللبنانيين في نفق لا يعرفون كيفية الخروج منه. والمال يبقى وسيلة بيدهم بينما هو غاية عند الناس.

Print Friendly, PDF & Email
الفضل شلق

مثقف وكاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  سليم الحص.. الزهد رئيساً