“شوفيني يا.. جورجيت”!

أثناء تطبيقهم مهارة حلّ المشكلات، غالباً ما يسأل الأطفال أسئلة إشكاليّة مهمّة. مثل: "ما الفائدة من تعلّم هذه المهارة ونحن لا نحلّ ولا نربط؟ ولسنا أصحاب قرار؟ لا في أمورنا الشخصيّة البسيطة، ولا في مشكلات العالم المعقّدة". هل يسأل سياسيّو لبنان أنفسهم هكذا أسئلة، يا ترى؟ وماذا عن نوّابنا أبطال مسرحيّة "بيت عنيا" الهزليّة؟

من أبرز ملامح الأنظمة الاستبداديّة، أنّها تحتقر الشعوب التي تحكمها. يظهر هذا الاحتقار، في كلّ ما يقوم به “الزعماء” الذين تفرزهم تلك الأنظمة. قولاً وفعلاً وأسلوباً. فغالبيّتهم، بلا ريب، يرون أنفسهم أفضل وأقوى وأعلم وأشجع من كلّ البشر الذين يتسلّقونهم. لذا، يغدو احتقار هؤلاء البشر حقّاً مُكتسَباً. فاحتقار “الشعوب” هو، بالنسبة إليهم، لونٌ من ألوان السياسة. وجزءٌ مهمّ من مسيرة الحُكم. وعليه، يتدرّبون على لعب أدوارٍ سرعان ما يُتقنونها. أدوار في مسرحيّاتٍ يوميّة من شأنها “غرس” ثقافة الاحتقار في نفوس العامّة من الناس..

مسرحيّة “بيت عنيا” كانت إحدى هذه المسرحيّات. مثّلها ثلاثة وخمسون نائباً لبنانيّاً في الوقت الضائع من أعمارنا. أي، في الوقت الذي بلغت فيه العدميّة السياسيّة ذروتها. والمقصود بهذه العدميّة، هو نزعة سياسيّي لبنان إلى الهدم. أو، في أحسن الأحوال، إلى تأبيد دوران البلاد في حلقةٍ مفرغة. فـ”لبنان هو سياسة الباب الدائر”، على حدّ وصف القيادي الفلسطيني وديع حداد. وعدميّة سياسيّي لبنان، لا ترى إلى الأشياء والأفكار والأفعال والمؤسّسات والحقائق الماديّة، إلاّ بوصفها عدماً. ولا ترى إلى الماضي والحاضر والمستقبل، إلاّ بوصفها خلاءً مطلقاً. هي عدميّةٌ لا تقترح، على مَن تخاطبه، سوى العبث والشكّ الّلامتناهيَيْن. والعدميّون أناسٌ خطرون. إنّهم يتحوّلون، بلمحة بصر، إلى مطايا طيّعة لتعطيل كلّ شيء.

ففي وقت خلوٍّ رئاسي وتخلٍّ إلهي. وفي زمن الصوم والآلام. دعا البطريرك الماروني الرعيّة السياسيّة المسيحيّة إلى خلوةٍ لاهوتيّة. استدرجها إلى “جَمْعةٍ” في أعالي حريصا للصلاة والتأمّل. إذْ، لم يعد بالإمكان أكثر ما كان. فلقد فشل في فرض حضور بكركي “لاعباً” بين اللاعبين الذين يسوّقون لتسوية انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة. فانكفأ إلى اللعب في ملعبه. إلى حيث يجب أن يلعب. فاختار يوماً رمزيّاً. ومكاناً حافلاً بالرمزيّة. ربّما اعتقد أنّ “بيت عنيا” (الكسروانيّة) ستذكّر المدعوّين، بمجيء يسوع إلى قرية “بيت عنيا” المقدسيّة. فهناك، أقام من بين الأموات القدّيس لعازر. فهل ظنّ بطريركنا أنّ معجزةً يسوعيّة قد تصحّي نوّابنا الأموات؟

تحت الضغط الكنسي، رفع نوّابنا الأفذاذ الصلاة. وفي كلمةٍ افتتح بها الخلوة، طرح عليهم البطريرك، وبنبرةٍ تقريعيّة، أسئلة في السياسة ونهجهم السياسي. وردّد على مسامعهم كلاماً للبابا فرنسيس يؤكّد “أنّ السياسة التي تسعى إلى خلق مساحة شخصيّة وفئويّة هي سياسةٌ سيّئة”. لكن، على مَن تقرأ مزاميرك يا بشارة؟ لم تَرُق الكلمة لنوّابنا. لم تعجبهم تلك “الرؤية اللاهوتيّة السياسيّة” (التعبير لعالم الاجتماع الألماني نوربير الياس). دبّ الملل في قلوبهم. ففعلوا ما يفعلونه، دوماً، في جلسات البرلمان. يمرّرون الوقت الثقيل بتصفّح مواقع التواصل الاجتماعي. تصفّحوا هواتفهم خلال القدّاس، حتّى، ولم يخجلوا! هذا ما أسرّ به أحد الكهنة المشاركين في تنظيم الخلوة. وصف سلوك ممثّلي الشعب بـ”الخفّة واللامبالاة وقلّة الرصانة”.

لقد أخبر الإعلام، أنّ أوراقاً عليها رسومات وُجِدَت على الطاولة المستطيلة حيث جلس النوّاب. رسومات بلا معنى. تشبه الخربشات. لا تدلّ إلاّ على أنّ “أصحابها لم يستوعبوا شيئاً ممّا يحصل حولهم. وكأنّهم كانوا ينتظرون بفارغ الصبر انتهاء وقت اللقاء”! يبدو أنّ جلّ ما فعله نوّابنا، هو ارتكابهم فعل الرياضة الروحيّة. فخرجوا كما دخلوا. عُراةً إلاّ من لباسهم. كلا، لقد فعلوا شيئاً آخر. جعلونا نشهد على فصلٍ جديد لنوعٍ خاصّ من الدجل. اسمه “استغلال الدين”. أو بمعنى أدقّ، اسمه “احتقار الله”.

إنّها ظاهرة عالميّة، بأيّ حال. مشهد واحد في كلّ الديانات. عابر لكلّ الأوطان والعصور. فلا يقتصر الأمر على النوّاب المسيحيّين الذين اختلوا في حريصا في ذاك الأربعاء. لكنّ دجل هؤلاء يمتدّ على طول السنة. فكيف ننسى غابات أشجار الميلاد التي نصبها بعضهم في قصورهم كي تصوّرها الكاميرات؟ وهل ننسى بعض رؤساء الأحزاب وهم يبذلون العطايا السخيّة للمحتاجين لتعمّم شاشات التلفزة مشاهد أعمالهم الخيّرة على الناخبين؟

“بابا.. شو يعني شوفيني يا منيرة؟”، سألت ابنتي تمارا أباها عندما سمعته، وكانت لا تزال طفلة، ينطق بهذه العبارة. فشرح لها، عن براءة الفتاة المسكينة منيرة من هذه “التهمة”. وبأنّ العبارة تُقال لمَن يقوم، بحركاتٍ وأفعالٍ صبيانيّة تافهة، غايتها لفت الانتباه. وضحكنا عندما “زوّدها” أبوها بالمرادف المتوقَّع استخدامه في “المناطق المسيحيّة”: “يمكن هونيك بقولوا يا تمارا.. شوفيني يا جورجيت”!

والدجل في الدين والتديّن مشهودٌ له، كذلك، في البيئات الإسلاميّة في لبنان (وفي سائر أنحاء العالميْن العربي والإسلامي). إذْ يُبدع مُدّعو الإيمان من المسلمين، في تظهير عمق “ورعهم” على رؤوس الأشهاد! فها هي صور زعمائهم بملابس الإحرام تغزو الفضاء الافتراضي. يُعيدون اللقطة، مرّةً تلو المرّة. يجب أن تقشعرّ الأبدان بمجرّد رؤية ملامحهم الكالحة وهم يتعبّدون. وما قولكم، بذاك المواطن الزاهد، وهو يجهد كي لا يبتلع نقطة ماء أثناء الوضوء في رمضان؟ بينما لم يُفطِره ابتلاع حصّة أخته من الميراث! ولا التهامه متريْن من أرض جاره! ولا متراً من الشارع العامّ! ولا ينسى هذا الأخ التقي أن يُمعِن في السجود على كلّ ما يمكن أن يوسّع “السيما” على جبهته. فـ”سيماه”، في وجهه، عنوانٌ لتقواه التي “يغيظ بها الكفّار”. أَوَلمْ يقولوا: “احترسوا من أولئك الذين يُظهِرون تديّنهم كثيراً؛ إنّهم يبحثون عن شيءٍ آخر”؟ بلى. لكن، عمّا يبحثون؟

إقرأ على موقع 180  الدولة الدينية عندما تهتز

يُعَدّ التديّن الشكلي بمثابة تشوّهٍ نفسي. فالمتديّن الكاذب، هو شخصٌ يعاني من تشوّهاتٍ نفسيّة تدفعه إلى ادعاء اعتناقه “شيئاً” له أهميّة كبرى. ويحظى بمكانةٍ مرموقة بنظر الجماعة (الجماعات) التي يتشكّل منها المجتمع. والمقصود بهذا “الشيء”، بالطبع، هو الإيمان. وليس الدين أو التديّن. فالإيمان شيء. والدين شيءٌ آخر، تماماً. الإيمان، هو شعور إنساني عفوي. علاقة سرّيّة خفيّة تربط المخلوق بالخالق. هو مسار الروح نحو الله. وليس لهذا المسار هويّة. وليس له “اسم ديني”. لا إسلاميّاً. ولا مسيحيّاً. ولا يهوديّاً. ولا أيّ اسمٍ من الأسماء المعروفة.

أمّا الدين، فهو عبارة عن نتاجٍ تاريخي أوجده البشر عبر العصور. اخترعوه، من أجل تنظيم حياتهم على هذه الأرض. وطمأنة مخاوفهم من المجهول. ومن غضب الطبيعة والأخطار المحيطة بهم. الدين هو، إذاً، حصيلة بحث الإنسان عن خالق الكون وسرّ الوجود. هو الرغبة، الناتجة عن ضعف الكائن البشري، للارتباط بقوى عليا خارقة كي تحميه. من هنا، كانت الأديان عمليّة مركّبة اشتركت فيها التقاليد والأعراف والثقافة السائدة وطبيعة الجغرافيا وغيرها من العوامل. ولا دخل لله، بالتالي، في كلّ تلك العمليّات المصاحبة لتأسيس الأديان! ماذا بعد؟

أحدث توسّع نفوذ الحقل الديني وسيطرته تأثيراً وازناً في المزاج العامّ للمجتمع (معظم المجتمعات). ولا سيّما، عندما أمعنت الأديانُ في مأسسة الإيمان. فأطّرته، بالقوّة، في عباداتٍ منتظمة وأنشطةٍ شعائريّة وطقوسيّة. أي، تلك التي صرنا نسمّيها شعائر وفرائض وطقوس. والتي، لولاها، لَمَا صمدت أديانٌ عبر تاريخ البشر، كما يقول إميل دوركهايم أحد مؤسّسي علم الاجتماع الحديث. إذْ إنّ للرموز والشعائر الدينيّة قوّتها الخاصّة. وتتجلّى هذه القوّة، في أحد أوجهها، في القدرة على دمج أفراد الجماعة، كلّهم، في “مجتمعٍ أخلاقي” واحد وفريد. سمّوه “المؤسّسة الدينيّة”. مؤسّسة، توحِّد بين أفراد المجتمع (أو الجماعة) وتحقّق بينهم نوعاً من التكامل الأخلاقي. لذا تصبح المغالاة، في التظاهر بالتديّن، ضرورة. فهكذا يحصد “المغالي” اعترافاً أكيداً برفعة أخلاقه. بل يغدو نموذجاً ومثالاً يُحتذى. على الرغم من إيمانه الكاذب. نعم. فهذه آليّة أساسيّة في تضليل “المتديّنين” للناس. وفي اضطهادهم لهم، أيضاً.

كلمة أخيرة. في لبنان، ينهض التديّن الكاذب بدورٍ مركزي في تكوين الرأي العامّ لدى أبناء الجماعة الدينيّة الواحدة. وينهض التطيّف المقزّز، هو الآخر، بدورٍ مركزي في تكوين الرأي العامّ لدى أبناء الطائفة الواحدة ضمن الديانة الواحدة. متديّنون دجّالون ينشطون على طريقة “شوفيني يا منيرة”! “بابا.. شو يعني شوفيني يا منيرة؟”، سألت ابنتي تمارا أباها عندما سمعته، وكانت لا تزال طفلة، ينطق بهذه العبارة. فشرح لها، قدر المستطاع، عن براءة الفتاة المسكينة منيرة من هذه “التهمة”. وبأنّ العبارة تُقال لمَن يقوم، عادةً، بحركاتٍ وأفعالٍ صبيانيّة تافهة، غايتها فقط لفت الانتباه. وضحكنا عندما “زوّدها” أبوها بالمرادف المتوقَّع استخدامه في “المناطق المسيحيّة”: “يمكن هونيك بقولوا يا تمارا.. شوفيني يا جورجيت”! إقتضى التمييز.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  تفسير النص الدستوري بالمواءمة أم بالمعاني المتناقضة؟