ذلك الدّور الذي اكتسبته فرنسا في لبنان، ما زال يحدث صدًى إيجابيًّا عند بعضهم، وحذرًا ممزوجًا بشيء من مرارات التاريخ وأحداثه المُتداخلة عند بعضهم الآخر؛ ما يدفعنا للبحث عن علاقة فرنسا ببقيّة المُكوّنات الطّائفيّة في لبنان، وعلى وجه التحديد اللّبنانيّين الشيعة، الذين بات التغيّر في حضورهم السّياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ في نظر بعضهم تهديدًا للصّيغة التي أرستها فرنسا قبيل قرن من الزمن؛ ما يدفعنا إلى طرح السّؤال الإشكاليّ:
كيف كانت العلاقات الفرنسيّة – الشيعيّة على ضوء الوقائع التاريخيّة المشوّشة بين الطرفين في ظل الوجود الفرنسيّ بين الأعوام 1918م-1946م، (ما قبل إعلان دولة لبنان الكبير إلى إعلان الاستقلال)؟ لا سيّما وأنّ تلك العلاقة لم تكن وفق مسار واحد؛ بل تأرجحت بين العدائيّة المطلقة والعدائيّة المؤقتة الظرفيّة، والتطبيع الكامل.
لقد حفلت السّرديّات التاريخيّة المحلّيّة بإبراز رفض الشيعة للانتداب ودعمهم لجماعات المقاومة المحلّيّة والمجاورة ضدّ الفرنسيّين بعدّهم محتلّين، وبين سرديّات أخرى أقرّت بواقع العدائيّة لكنّها أعطته زمنًا قصيرًا، وربطته بظروف موضوعيّة أملتها الأحداث المتسارعة في ذلك الوقت، انسجامًا مع الموقف السّوريّ العام وعدم رغبة “عموم الشيعة” في الخروج عن الربقة السّوريّة القوميّة والإسلاميّة بعد الخروج عن الرابطة العثمانيّة.
إنّ تحليلًا موضوعيًّا للمسار التّاريخيّ الّذي عرفته العلاقة بين فرنسا المنتدبة واللّبنانيّين الشّيعة في العقود الثلاثة الأولى من عمر لبنان الجديد، يقتضي التّوقّف عند أبرز المحطّات المفصليّة الّتي مرّت بها تلك العلاقة في الواقع المحلّيّ اللّبنانيّ، منذ دخول الجيوش الفرنسيّة إلى لبنان في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 1918م إلى خروج آخر جنديّ فرنسيّ في 31 كانون الأول/ ديسمبر من العام 1946م.
هناك ثلاث مراحل تاريخيّة تُحتّم قراءة مشهد العلاقة بين الفرنسيّين واللّبنانيّين الشيعة:
المرحلة الأولى؛ العلاقة في ظلّ الوجود العثمانيّ:
اكتسبت تلك المرحلة أهمّيّتها لكونها أعطت شكلًا نهائيًّا لتوزّع القوى الطّائفيّة اللّبنانيّة على أرض الواقع، تمّ التّأسيس عليها فرنسيًّا في رسم خارطة لبنان الجديد، وعكست في جوهرها خلاصة السّياسات العثمانيّة في البلاد السّوريّة تجاه الأقلّيّات الطّائفيّة، لا سيّما في المناطق التي تشكّل منها في ما بعد لبنان الكبير، حيث عملت السّلطات العثمانيّة على تقويض مواقع القِوى الشّيعيّة تدريجيًّا بعد عقود من الحكم الإقطاعيّ المحلّيّ، كانت أملتها حاجة الأتراك لعصبيّات محلّيّة تفرض سيطرتها في مناطقها وتستطيع ضبط الخراج، فبرزت محلّيًّا مجموعة من العائلات الشّيعيّة الإقطاعيّة في جبل عامل، كآل سودون، وآل الصغير، وآل شكر، وآل منكر، وفي جبيل مع الحماديّين، وفي بعلبك مع الحرافشة، الّذين امتدّت إمارتهم لتتجاوز بعلبك والبقاع إلى لوائي: حمص، وتدمر في القرنين: السّادس، والسّابع عشر([1]).
إنّ المُتتبّع لحركة الشّيعة طوال الوجود العثمانيّ، لا يلحظ جهدًا شيعيًّا انفصاليًّا عن الدّولة العثمانيّة، حيث آثر الشّيعة عمومًا التّمسُّك بالرّابطة الإسلاميّة على حساب العلاقات الانفصاليّة، وكان أقصى ما يطمحون إليه استقلالًا ذاتيًّا في مقاطعتهم عن سلطة الأمراء المعنيّين والشّهابيّين.
وعليه، يمكننا القول بعدم وجود علاقة ما بين النّخب الشّيعيّة وبين الفرنسيّين؛ لأنّه لم يكن في مشروع الشّيعة السّياسيّ أيّ بُعْدٍ انفصاليّ يُغري الفرنسيّين بالتّعاون معهم، فخياراتهم كانت مُتماهية مع الأغلبيّة السّاحقة في المنطقة، والّتي تجسّدت في طلب اللّامركزيّة، والمزيد من الحرّيّات والحقوق القوميّة تحت السّلطنة العثمانيّة.
التباين بين الإطار السّياسيّ المعارض والإطار العسكريّ على مستوى نوعيّة الأهداف والتّوقيت، حيث كان التّناغم مفقودًا خصوصًا مع التّضادّ الظاهر بين مجموعات المقاومة وبين الزّعامة التّقليديّة، وهذا ما كشفته وقائع مؤتمر الحجير
المرحلة الثانية؛ العلاقة في ظلّ الحكومة العربيّة في دمشق 1918م -1920م:
إنّ المرحلة القصيرة للحكم العربيّ والانقضاض الفرنسيّ الدّمويّ على المناطق الشيعيّة المعارضة للانتداب، تجعلنا نُسجّل مجموعة من النّقاط تساعدنا على تحليل تلك العلاقة بين الشّيعة والفرنسيّين، في تلك المرحلة الزّمنيّة المهمّة:
- تأييد غالبيّة النّخب العلمائيّة والثّقافيّة الشّيعيّة بقاعًا وجنوبًا للحكومة العربيّة في دمشق، ورفض الانتداب الفرنسيّ ([2])؛ كان نتيجة توقهم إلى الاندماج في هويّة جامعة (إسلاميّة – عروبيّة) لا ينظر إليهم فيها بوصفهم أقلّيّةً مُهمّشة. وذلك ما عكسته في النّهاية العرائض الّتي قدّمها شيعة الجنوب والبقاع للجنة “كينغ كراين”، ووفود العامليّين، ووفد أهالي بعلبك بقيادة سعيد حيدر بعد زيارة الملك فيصل في دمشق، وكذلك اجتماع قرية النّاصريّة الّذي حضره عدد من العائلات البقاعيّة المُؤيّدة للحركة الوطنيّة؛ لتدارس إقرار الانتداب الفرنسيّ على سوريا ولبنان، يرافقهم مائتا مسلّح بزعامة يوسف مخيبر حيدر الّذي دعا إلى مهاجمة الفرنسيّين في رياق وزحلة([3]). وأضاء مؤتمر وادي الحجير في 24 نيسان/ أبريل من العام 1920م، على مدى التّأييد العام لشيعة لبنان لخيار الحكومة العربيّة بزعامة فيصل. وأمّا الاستثناءات في الموقف الشّيعيّ، فقد ظهرت عند بعض العشائر الحماديّة في بلاد بعلبك ـ الهرمل الّتي مالت إلى مهادنة الفرنسيّين، وأحجمت عن إعلان مساندتها للحكومة العربيّة في دمشق؛ بينما نحا بعضها الآخر إلى تأييدها ودعمها ([4])،وأمّا الأقلّيّة الشّيعيّة في جبل لبنان، فقد أيّدت بغالبيّتها استقلال لبنان عن سوريا تحت الانتداب الفرنسيّ، وقيام دولة لبنان الكبير([5]).
- الحذر والتّردّد (عدم اليقين) من قِبَل الزّعامة التّقليديّة الشّيعيّة من إعلان التّأييد سريعًا للحكومة العربيّة في دمشق، أو تأييد الدّخول العسكريّ الفرنسيّ إلى لبنان؛ نتيجة العلاقة المُلتبسة بين الزّعامة التّقليديّة الشّيعيّة الأكثر تأثيرًا في الجنوبي ـ كامل الأسعد – وفي البقاع ـ محمد سعيد حمادي وأسعد حيدر نموذجًا ـ مع القوى السّياسيّة المُستجدّة في دمشق. ويُعدّ كلام كامل الأسعد في مُستهلّ اجتماع “وادي الحجير” مؤشّرًا واضحًا على تردّد القيادة التّقليديّة في دعم الحكومة العربيّة، على الرّغم من الضّغط الّذي مارسته حكومة دمشق بعد المؤتمر السّوريّ العام في آذار/ مارس 1920م، عندما أوفدت إلى كامل الأسعد، أحمد مريود (شريك أدهم خنجر في محاولة اغتيال الجنرال غورو وقائد الثّورة المُسلّحة في الجولان) وأسعد العاصي (أخ سعيد العاصي قائد منطقة الزبداني)، تطلب منه حسم موقفه و”إنّه انقضى دور الأقوال وجاء دور الأعمال، وعلى جبل عامل أن يُصرّح بخطّته ومنهاجه، فإمّا أن يكون معنا، فليستعدّ للثّورة. وإمّا أن لا يفعل، فيكون علينا، ويكون لنا وله شأن”.
- السّعي الدَّؤوب للقادة العسكريِّين الفرنسيّين إلى تقويض الاعتراض الشّيعيّ وضربه بمختلف الأساليب المتاحة، مستخدمين أساليب التّرغيب والتّرهيب، وإثارة الفتن الطّائفيّة. فقد عمل الفرنسيّون على استمالة القِوَى المسيحيّة لا سيّما المارونيّة في القرى والمدن الجنوبيّة والبقاعيّة، في مقابل جيرانها المسلمين على قاعدة “فَرِّقْ تَسُدْ”. فقاموا بمدّ المسيحيّين بالسّلاح، وتشكيل مجموعات مُسلّحة لهم([6])، للدّفاع عن النّفس، من هجمات مجموعات المقاومة المناوئة للانتداب ومؤيّديه. أمّا الهدف الحقيقيّ من وراء ذلك التّسليح، فكان دفع المسيحيّين إلى فتنة مع الشّيعة[7]، تمهيدًا لتقويض أعمال المقاومة ورميها بالتّهمة المذهبيّة والطّائفيّة، بعد أن استطاعت إرباك المُخطّطات الفرنسيّة، وتعزيز حالة الرّفض الشعبيّ للوجود الفرنسيّ([8]). وقد نجحت الدعاية الفرنسيّة في دفع الطرفين إلى الاقتتال الأهليّ بعناوين طائفيّة، كما حدث بين عين إبل المارونيّة، وبنت جبيل الشيعيّة. وقد شكّل ما حصل فرصة مناسبة لاستخدام القوّة المُسلّحة المفرطة للقضاء على بؤر المقاومة في الجنوب وإخضاع أهلها وتشتيت زعمائها وعلمائها بعد حملة نيجر المشؤومة في أيار/ مايو من العام 1920م.
- غياب الإطار الموحد لرافضي الوجود الفرنسي في لبنان داخل الشيعة وخارجهم، والافتقاد إلى التنسيق بين الجانب السياسي والجانب العسكري على الأرض، فضلا عن التشتت الجغرافي لبؤر الاعتراض الشيعي في الجنوب والبقاع، وعجز الحكومة الفيصليّة عن مدّ المقاومين بما يلزم من عدّة وعتاد. وقد عزّر ذلك الواقع، التباين بين الإطار السّياسيّ المعارض والإطار العسكريّ على مستوى نوعيّة الأهداف والتّوقيت، حيث كان التّناغم مفقودًا خصوصًا مع التّضادّ الظاهر بين مجموعات المقاومة وبين الزّعامة التّقليديّة، وهذا ما كشفته وقائع مؤتمر الحجير، الّذي كانت إحدى أهدافه وأبرزها، إطلاق موقف نهائيّ ومشترك للمجموعة الشيعية إزاء التطوّرات الإقليميّة والمحلّيّة، ومحاولة تنظيم الجهد العسكريّ المقاوم وجعله يتكامل مع الجهد السّياسيّ على الأرض.
المرحلة الثّالثة؛ العلاقة في ظلّ الانتداب الفرنسيّ على لبنان:
لا شكّ أنّ الوقائع العسكريّة الّتي حصلت قُبَيْل إعلان الانتداب الفرنسيّ في أيلول/ سبتمبر من العام 1920م، شكّلت صدمةً وخيبةً لشريحة واسعة من الشّيعة اللّبنانيّين، فرهانهم على فيصل، كان رهانًا مكلفًا على الصّعيدين السّياسيّ، والاقتصاديّ؛ ما جعل خسارتهم مزدوجة؛ خسروا حلمهم بالاستقلال الذّاتيّ ضمن الوحدة السّوريّة، وخسروا تأثيرهم الدّاخليّ المُحتمل في ظلّ الاحتلال الفرنسيّ، بعد أن رفضوا أن يكونوا مشروعًا خاصًّا على حساب الوحدة الإسلاميّة والعربيّة، فكانوا آخر من التحق بالمنظومة السّياسيّة الانتدابيّة وأكثر المُهمّشين في حقوقهم، ووجودهم، ودورهم الوطنيّ، وظلّت أمانيهم الشّعبيّة معلّقة بالوحدة السّوريّة حتّى تخلّى السّوريّون الوحدويّون عنها. لذا، كانت السّنوات الأولى من الانتداب مزيجًا من مهادنة الفرنسيّين لنيل ما تيسّر من حقوق، ورفع شعار المظلوميّة في وجه ثالوث الحرمان: السّياسيّ والدّينيّ والإنمائيّ، ومن التّمسّك السّياسيّ بالقضايا القوميّة والإسلاميّة سواء في سوريا، أو فلسطين. وتعود أهمّيّة تلك المرحلة من العلاقات الفرنسيّة – الشيعيّة إلى أنّها تُشكّل أساس انخراط الشّيعة في “دولة الجبل – المركز”، وإلى كونها مضمارًا لنضالهم الأوليّ؛ لنيل حقوقهم على قاعدة المساواة والعدالة.
نتيجة لتطوّر الأحداث، برزت الانعطافة الشّيعيّة داخليًّا لتقبّل الأمر الواقع – بعد إعلان الانتداب الفرنسيّ – على قاعدة التّهدئة، فأضحى العمل السّياسيّ أولويّة على النّشاط العسكريّ في جبل عامل؛ بينما استمرّت بعض العشائر الشّيعيّة في البقاع تقاوم على طريقتها معتمدة سياسة الكرّ والفرّ، في ظلّ التّفاوت الواضح في موازين القِوى لمصلحة الفرنسيّين.
سوف نلاحظ بعد ذلك قياسًا على المشهد الشّيعيّ العام، انعطافة شيعيّة باتجاه تهدئة السّاحة مع الفرنسيّين لا سيّما بعد العام 1926م، على الرّغم من تصلّب المفوّضين السّاميّين العسكريّين في التّعاطي مع المسألة الشيعيّة، وعلى رأس أولئك الجنرال غورو
وقد تنازع المشهد السّياسيّ الشّيعيّ بعد ذلك بين الأعوام 1920م- 1936م، ثلاثة اتّجاهات: اتّجاه الأغلبيّة الّذي كان يدفع نحو الاندماج والمطالبة بتلبية الحقوق؛ اتّجاه الأقلّيّة النّخبويّة الّذي ظلّ مُتمسّكًا بالمشروع الوحدويّ السّوريّ ومعارضته العلنيّة للانتداب؛ اتّجاه العشائر البقاعيّة بين ذينك الاتّجاهين، حيث ظلّت تُقاوم حتى أواخر العام 1926م على جبهة الهرمل بالتّزامن مع الثّورة السّوريّة. وسوف نلاحظ بعد ذلك قياسًا على المشهد الشّيعيّ العام، انعطافة شيعيّة باتجاه تهدئة السّاحة مع الفرنسيّين لا سيّما بعد العام 1926م، على الرّغم من تصلّب المفوّضين السّاميّين العسكريّين في التّعاطي مع المسألة الشيعيّة، وعلى رأس أولئك الجنرال غورو بين الأعوام 1919م – 1923م، والجنرال ويغان بين العامين 1923م – 1924م، والجنرال موريس ساراي بين العامين 1924م ـ 1925م. في حين تطوّرت تلك العلاقة في المقابل مع المفوّضين السّاميّين المدنيّين، وعلى رأس أولئك هنري دي جوفنيل (1925م – 1926م)، من خلال المحطّات الآتية:
- المحطّة الأولى (1920م – 1926م): شكّلت بداية الاعتراف بفرنسا بوصفها قوّة احتلال، وانحصار المطالب برفع الظّلم الضّريبيّ، وإزالة تبعات حملة نيجر العسكريّة، واستتباب الأمن في المناطق الشيعيّة، والمشاركة في اللجان الإدارية وعودة المنفيين، والنزوع إلى الهدوء لا سيما في الجنوب اللبناني. لذلك، مرّ اعتقال أدهم خنجر في تموز/ يوليو من العام 1922م، ثمّ إعدامه في بيروت في 30 أيار/ مايو من العام 1923م بهدوء، ولم يسجّل في البقاع، أو الجنوب تحرّك شيعيّ موازٍ، كما شكل تقدّم مُمثّلي الشّيعة في المجلس التّمثيليّ في 22 كانون الأول/ديسمبر1923م باقتراح الاعتراف بالمذهب الشّيعيّ إتجاهًا نخبويًا ـ على الأقل – لتثبيت الاعتراف بالأمر الواقع وإعطائه بعدًا دينيًا.
- المحطّة الثّانية (1926م – 1936م): شكّلت مفصلًا أساسيًّا، وتمثّلت في اعتماد الدّستور بعد إقراره في 23 أيار/ مايو 1926م، وانبثاق ما عُرف بالجمهوريّة الأولى، والاعتراف بالمذهب الشيعيّ؛ القرار 3505([9]) في السّابع والعشرين من شهر كانون الثاني/يناير من العام 1926م بوصفه مُكوّنًا دينيًّا من مُكوّنات الاجتماع اللّبنانيّ رسميًّا، مع ما اسْتَتْبع ذلك من إنشاء محاكم شرعيّة مستقلّة وابتعاد الشّيعة نسبيًّا ـ باستثناء البقاع – عن الانخراط في الثورة السّوريّة بين الأعوام 1925م – 1927م؛ واحتضان شيعة الجنوب لمسيحيّي مرجعيون، حمايةً لهم من التّداعيات الأمنيّة للثورة([10]) وتميّزت تلك المحطّة بمزيدٍ من المشاركة السّياسيّة، حيث تكشف محاضر مجلس النّوّاب تركيز النوّاب الشّيعة على المطالبة بحصّة أكبر في السّلطة، وضرورة تقديم الخدمات الأساسيّة، وزيادة المدارس كَوْن تلك المناطق من مسؤوليّة الدّولة. لكن ردّة الفعل الفرنسيّة لم تكن لا بحجم الأزمة، ولا على مستوى المطالب المرفوعة؛ ما استوجب في بعض الأحيان تدخّلًا من المستشارين الإداريّين الفرنسيّين؛ لتنبيه سلطات بلادهم إلى حجم الحرمان ومخاطره على مناطق الشّيعة. وبرزت مؤشرات عديدة حول الإنخراط المطلبي وأبرزها:
- زيادة منسوب الوعي السّياسيّ لدى الرّأي العام الشّيعيّ؛ نتيجة تراكم التّجارب والخبرات التي أسهم فيها مجموعة من الشخصيّات الفكريّة الوحدويّة من الجيل الأول، الّتي حافظت على جذريّة آرائها ضدّ الانتداب، وشاركت في التّجمّعات والمؤتمرات السّاحليّة القوميّة، أمثال: الشيخ أحمد رضا، والشيخ سلمان الضاهر، ومحمد جابر آل صفا، والشيخ أحمد عارف الزّين، والشاعر محمد علي الحوماني من خلال كتاباتهم في مجلّات أطلقوها: “العرفان” و”العروبة” و”القلم الصّريح” وأسهمت في تكوين رأي عام بالمعنى الحقيقيّ، يتّصف بالثّقافة السّياسيّة الحديثة والأفكار الإصلاحيّة؛ ما دفع الزّعامة التّقليديّة الشّيعيّة تحت إلحاح المطالب الشّعبيّة، للضّغط ما أمكنها على سلطات الانتداب؛ لنيل مزيدٍ من الحقوق في الإنماء والوظائف والمواقع المؤثّرة في الدولة، خاصّة مع الأزمات الاقتصاديّة الّتي بدأت تتصاعد بعد العام 1929م؛ بل إنّ بعض الأصوات ذهبت بعيدًا في تصوّرها لموقع الشّيعة في المعادلة السّياسيّة المُستجدّة إلى حدّ المطالبة باستقلال الجنوب تحت الإدارة الفرنسيّة على غرار جبل الدروز، لاعتقادهم أنّ ذلك سيؤمّن للشّيعة فرص الإنماء والدّور المُميّز([11]).
- بروز حركة شعبيّة شيعيّة على خلفيّة مطلبيّة، ما يُعدّ سابقة في الاعتراض الشّيعيّ على السّلطات الفرنسيّة والزّعامة التّقليديّة المُتحالفة معها، بوصفها جزءًا من اعتراض أوسع سوريّ ـ لبنانيّ بعد العام 1935م، لمواجهة الامتيازات الفرنسيّة، بدت إرهاصاته الأولى واضحة في معارضة منح السّلطات احتكار التبغ لشركة الريجي الفرنسيّة. كان صوت الاعتراض عاليًا وجامعًا، وشملت تحرّكاته جبل لبنان والشمال والجنوب، ولكن صداه جنوبيًّا كان لافتًا من خلال ما عرف بانتفاضة التبغ في بنت جبيل في العام 1936م([12])، بتأثير من “عصبة الأدب العامليّ”، الّتي تأسّست في العام 1935م، وتحوّل أعضاؤها من النّقد الأدبيّ إلى النّقد السّياسيّ- الاجتماعيّ، وكان من أبرزهم الشيخ علي الزين، والشيخ محسن شرارة، والشاعر موسى زين شرارة، والشاعر عبد الحسين العبد الله، وعلي بزي، وهاشم الأمين، وغيرهم.
لذا، يمكن للمراقب التّاريخيّ أن يتلمّس توجّهًا شيعيًّا نحو مزيد من الاندماج والانخراط في السّياسة الوطنيّة، لا سيّما بعد توقيع المعاهدة السّوريّة – الفرنسيّة في العام 1936م، الّتي نقلت نضال السّوريّين واللّبنانيّين المؤيّدين لهم، من ضفة النّضال لأجل الوحدة إلى ضفّة النّضال لأجل الاستقلال الوطنيّ. وتُعدّ زيارة وفد من علماء الشّيعة في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1936م، ومن بينهم السّيّد عبد الحسين شرف الدين للمندوب السّامي الفرنسيّ ولرئيس الجمهوريّة إميل إدّه مؤشّرًا بالغ الدّلالة شكلًا ومضمونًا، مع تأكيد الوفد أنّ الحركة الانفصاليّة في منطقتهم قد توقّفت، وأنّ كلّ الشّيعة التحقوا بالوحدة الإقليميّة للبنان الكبير[13].
المحطّة الثّالثة (1946م – 1936م): أضحى الشّيعة في لبنان أكثر اندماجًا في قضايا وطنيّة أخذت بالتّشكّل، مثل، قضيّة الاستقلال والعمل لتحقيقه، وتداعيات الحرب العالميّة الثانية الأمنيّة والاقتصاديّة، والّتي أسهموا فيها إلى جانب السُّنَّة في اجتراح معنى إسلاميّ للوطنيّة اللّبنانيّة. وجاء مؤتمر السّاحل في العام 1936م، وما تلاه من طرح مشكلة الاتّصال والانفصال مع سوريا؛ ليؤسّس لتلك الانعطافة الإسلاميّة الّتي استكملت في ما بعد، واندرجت فيها البرجوازيّتان الشّيعيّة والسُّنِّيّة، وتوّجت في الميثاق الوطنيّ في العام 1943م، وفي النّضال السّياسيّ لخروج آخر جنديّ فرنسيّ من لبنان في 31 كانون الأول/ ديسمبر من العام 1946م.
نظرة الفرنسيّين إلى الشيعة بوصفهم مُكوّنًا هامشيًّا معزولًا وطنيًّا وإقليميًّا، أُلحق بالقوّة في لبنان الكبير
- انخراط الزّعامة التّقليديّة الشّيعيّة في الجنوب والبقاع وجبل لبنان في الانقسام السّياسيّ الّذي سبق الحرب العالميّة الثانية، والّتي توزّعت بين الكتلتين: الدستوريّة، والوطنيّة. وجاءت تطوّرات الحرب لتلقي بظلالها على المشهد اللّبنانيّ الدّاخليّ؛ لتسجّل تراجعًا في القوّة السّياسيّة الفرنسيّة، على الرّغم من وجودها العسكريّ واستحواذها الاقتصاديّ، ولتصبح بريطانيا شريكًا مضاربًا لها، في حين كانت تلك الزعامات تُسهم في المجهود السّياسيّ الوطنيّ لنيل الاستقلال.
- رسالة السّيّد عبد الحسين شرف الدين – كبير علماء الشيعة – إلى المفوّض السّامي الفرنسيّ كونت دامين دو مارتيل في 25 آذار/ مارس من العام 1939م، الّتي احتوت على تعليقات المرجعيّة الشيعيّة على قانون الطوائف والأحوال الشخصيّة الّذي صدر بمرسوم 60 ل.ر في آذار/ مارس من العام 1936م، ونشر في الجريدة الرّسميّة في كانون الثاني/ يناير 1939م([14])؛ ما يؤكّد ارتفاع منسوب الاعتراف المُتبادل بين الشيعة والفرنسيّين، وانتفاء الحواجز في التّواصل والخطاب بينهما، وتنظيم الاعتراض بما يكفله الاحترام المتبادل([15]).
- انتقال الشّيعة من سياسة المطلوبيّة إلى سياسة تثبيت الشراكة مع الطوائف الأخرى ضمن مؤسّسات النّظام الجديد، لا سيّما بعد نيل الاستقلال في العام 1943م، على قاعدة التمسّك بمواقع الطائفة على غرار الطّوائف الكبرى الأخرى. وقد مثّلت الاحتجاجات الشّعبيّة الّتي نظّمت في العام 1946م، بعد إقصاء صبري حمادي عن رئاسة مجلس النّوّاب لمصلحة النّائب الأرثوذكسيّ حبيب أبي شهلا، ذروة الاعتراض النّيابيّ والشّعبيّ الشّيعيّ، فانطلقت المظاهرات في مدن الجنوب والبقاع احتجاجًا على “المؤامرة المُحاكة” ضدّ الطّائفة الشّيعيّة ([16]).
في الخلاصة، هناك ثلاثة سياقات تاريخيّة حكمت علاقة الشيعة بالفرنسيّين في المدة الفاصلة بين إعلان دولة لبنان الكبير في العام 1920م، وإعلان الاستقلال في العام 1943م يمكن إيجازها بما يلي:
- نظرة الشّيعة إلى أنفسهم في الدولة الجديدة، وتموضعهم بوصفهم طائفةً لديها حضورها الديموغرافيّ وامتدادها الجغرافيّ في لبنان إلى جانب بقيّة الطّوائف، مع ما رافق ذلك التّموضع من تفاوتٍ كبيرٍ على مستوى الحقوق الدينيّة والسّياسيّة والإنمائيّة.
- نظرة الفرنسيّين إلى الشيعة بوصفهم مُكوّنًا هامشيًّا معزولًا وطنيًّا وإقليميًّا، أُلحق بالقوّة في لبنان الكبير. وتأرجحت تلك النَّظْرة بين التّدجين السّياسيّ لزعامتهم الزمنيّة، والتقرّب بحذر من زعامتهم الدّينيّة، وبين الرّبط بين الحقوق المشروعة، والرّضوخ للسّلطات الجديدة وامتداداتها ومصالحها الداخليّة.
- نظرة بقيّة الطّوائف اللّبنانيّة إليهم، والّتي كانت محكومة بموقعهم الثّانويّ في السّلطة والإنماء، وبدورهم الهامشيّ على أعتاب البرجوازيّة المدينيّة بوصفهم عمّالًا في “فبركة” الوطن الجديد.
في السّياق الأوّل، حافظ الشّيعة على هويّتهم الإسلاميّة – العربيّة أمام مُغريات التّشكّل في القرن التّاسع عشر، الّذي شهد ترهّل السّلطنة العثمانيّة، وفتح الباب واسعًا أمام التّدخّلات الأجنبيّة في المُكوّنات الدّينيّة والاجتماعيّة اللّبنانيّة، لا سيّما في جبل لبنان، حيث تشكّلت الطّائفتان: المارونيّة، والدرزيّة طائفيًّا في مناخ فتنويّ – تحريضيّ أجنبيّ – عثمانيّ، فكان الثّابت الدّينيّ عند الشّيعة أقوى من المُتغيّر السّياسيّ، على الرّغم من الإقصاء العام الّذي عانوا منه، وارتضوا بإرادتهم البقاء تحت لواء الخلافة العثمانيّة. وعندما ظهرت بوادر التّغيير بقيادة الهاشميّين في الحجاز والشام، كانوا أوّل المُؤيّدين والدّاعمين. لذلك، كان موقفهم من الاحتلال الفرنسيّ متلائمًا مع الثّابت الدّينيّ، وتعبيرًا عن وعي الاجتماع الشّيعيّ لذاته وهويّته ومحيطه.
كما أنّ إغفال الشّيعة للهويّة الوطنيّة الجديدة كان تعبيرًا عن رفضهم لسياسة الابتلاع والإخضاع، وقد عبّروا عن رفضهم، للواقع الجديد غير المُتوازن، من خلال مواقف العلماء وجهاد شبابهم البطوليّ. وقد تكون عبارة الشيخ عبد الحسين صادق – عند معرفته بإعلان دولة لبنان الكبير أكثر دلالة في اختزال تلك المرارة: “أتيت بها أي أعجوبة.. بها جبلٌ جبلاً يبلعُ([17]) “في إشارةٍ منه إلى ضمّ جبل عامل إلى جبل لبنان، وإلحاقه به تحت اسم الجنوب اللّبنانيّ، بكل ما تحمله التّسمية من دلالات إلحاقيّة وتَمَايُز بين المركز والأطراف.
نجح القمع الفرنسيّ في الجنوب والبقاع، في لَجْمِ الاندفاعة الشّيعيّة نحو الوحدة السّوريّة، وكانت نتائجه شديدة الوطأة بعد هزيمة المشروع الوحدويّ، وتصلّب الكولونياليّة الفرنسيّة، فمال الشّيعة أكثر للهدوء والانكفاء
كان قبول الشّيعة بصياغة هويّة طائفيّة محلّيّة في ما بعد، نتاج طبيعة النّظام السّياسيّ – الطائفيّ الّذي فُرض على موطنهم التّاريخيّ، ونتيجة قناعة الزّعامة الزّمنيّة الشيعيّة، أن معبر الدخول إلى النّظام الجديد يكمن في مهادنة السّلطة الفرنسيّة، فشكل الاعتراف بالمذهب الشّيعيّ في العام 1926م خرقًا ما في جدار العلاقة الفرنسيّة – الشّيعيّة، وتجاذب تلك النّقلة حدّان: حذرٌ علمائيّ تجسّد في النّأي بالنّفس عنها، وقبول ضمنيّ بمندرجاتها، ضمن خريطة الطّوائف في لبنان، بعدما أثبت إحصاء 1932م أنّ الشيعة هم الطّائفة الثالثة عددًا بعد الموارنة والسُّنَّة، وحدّ آخر من الوعي الذّاتيّ في المطالبة بالحقوق السّياسيّة والاجتماعيّة التّنمويّة، لم يكن مسبوقًا في التّاريخ.
في ما يتّصل بالسّياق الثّاني، نجح القمع الفرنسيّ في الجنوب والبقاع، في لَجْمِ الاندفاعة الشّيعيّة نحو الوحدة السّوريّة، وكانت نتائجه شديدة الوطأة بعد هزيمة المشروع الوحدويّ، وتصلّب الكولونياليّة الفرنسيّة، فمال الشّيعة أكثر للهدوء والانكفاء نحو سياسة الطّلب لتعويض ما أمكن، ورفع الغبن المثلّث الأضلاع. ولكن تلك الأحداث على قساوتها أنبتت في هويّتهم المعاصرة بُعدًا جديدًا – قديمًا برز في مُقاومة المحتلّ. فعلى الرّغم من التّشويه المنهجيّ لمقاومة الشّيعة في الجنوب والبقاع للمحتلّ الفرنسيّ، أبقت الذّاكرة الشّيعيّة عمل هؤلاء، بوصفهم مقاومين للمحتلّ، وهو خيار لم يأخذ مداه الأوسع لركاكة الوعي السّياسيّ آنذاك، وانعدام الإستراتيجيّة القوميّة النّضاليّة. وهكذا، لم تنفرد الهويّة الشيعيّة بلبنانيّتها إلّا بعد انحسار المشروع الوحدويّ بعد العام 1936م، وأسهمت في تأسيس الوطنيّة الإسلاميّة اللّبنانيّة، ولكن من دون أن تتخلّى عن دعم القضايا القوميّة والانحياز لها، وذلك ما تجلّى بوضوح مع الثّورة الفلسطينيّة في العام 1936م تأييدًا ودعمًا وما تلاها من رفضٍ لتّقسيم فلسطين والعدوان عليها.
وكذلك نجحوا بالإمساك بالوضع الشّعبيّ بالاعتماد على الزعامة التّقليديّة الشّيعيّة، الّتي لا مواقف جذريّة لها في مناهضة الانتداب؛ بينما بقيت عيونهم مفتوحة على المعارضين، الّذين أبعدوا عن مفاصل الحكم، واستحالوا نخبًا مُتفرّقة في الجنوب والبقاع، تكتب المقالات، وتشارك في المؤتمرات، وتعمل على زراعة بذور الوعي السّياسيّ لدى العامّة ما أمكنها إلى ذلك سبيلًا. يضاف إليها الإهمال الفرنسي العام لمناطق الشّيعة جزءًا من السّياسة الفرنسيّة في ما يتعلّق بالأطراف والمناطق الخارجة عن جبل لبنان وبيروت؛ ما أسهم بشكل أساسيّ في تهميش الواقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ للشّيعة في لبنان.
حرص الفرنسيّون على تغييب التّمثيل الشّيعيّ عن الرّئاسات الثلاث في الجمهوريّة الأولى بين 1926م- 1943م، بينما ترأّس الشّيعة أوّل مجلس نيابيٍّ بعد الاستقلال برئاسة صبري حمادي (1943م-1946م)، ثمّ جرت محاولة لسحب ذلك الموقع منهم لمصلحة الأرثوذكس، بانتخاب حبيب أبي شهلا (1946م-1947م) رئيسًا للمجلس، ولكن إصرار الشّيعة على تثبيت موقعهم في رئاسات الدّولة الأساسيّة، بوصفها مُقدّمة لنيل ما تبقّى من حقوق، أحبط تلك المحاولة وأعادهم على رأس المجالس النّيابيّة إلى يومنا هذا، وذلك بما يتناسب مع التّوزيع الطائفيّ للرّئاسات والّتي كانت إحدى مخرجات الميثاق الوطنيّ وصيغة التّعايش الجديدة.
في السّياق الثّالث، حرص الشّيعة اللّبنانيّون على بناء علاقة متوازنة مع بقيّة المُكوّنات الطّائفيّة في لبنان، وكان همّهم على الدّوام إيجاد التّوازن بين المشاركة والتأثير في الحُكم، وعملوا جاهدين على بناء وطنيّة لبنانيّة مُنفتحة على المُكوّنات الداخليّة ومُتمسّكة بقضايا الأُمّة ونضالاتها. لذلك، كانوا من الدّاعمين للتّقارب الإسلاميّ – المسيحيّ، والنّضال في سبيل الاستقلال، وشاركوا إلى جانب إخوانهم السُّنَّة في مقارعة كلّ أشكال الهيمنة الطّائفيّة، ابتداءً من أزمة رئاسة الجمهوريّة في العام 1932م، حيث منعت فرنسا وصول مسلم من مُؤيّديها إلى رئاسة الجمهوريّة، ثمّ من خلال تنسيق المواقف تجاه مستقبل لبنان بعد توقيع المعاهدتين: السُّوريّة، واللّبنانيّة مع الفرنسيّين في العام 1936م، مرورًا بمواجهة أزمة المرسومين 49 و50 الّتي أثارها أيوب ثابت، حول منح الجنسيّة اللّبنانيّة للمغتربين من أصل لبنانيّ، وزيادة المقاعد المسيحيّة في المجلس النّيابيّ إلى 32 مقعدًا للمسيحيّين مقابل 22 للمسلمين، والّتي أدّت إلى إقالته وحكومته من قِبَل المُفوّض السّامي الفرنسيّ جان هللو Jean Helleu في 20 تموز/ يوليو من العام 1943م، وتعيين بترو طراد الأرثوذكسيّ رئيسًا للدّولة مكانه[18].
في ظلّ التّنافس بين إقنومين ثقافيّين مُتضاربين: اللّبنانيّة والعروبة، إتجهت أكثرية الشيعة إلى العروبة الحضاريّة والوطنيّة الإسلاميّة وآمنت بلبنان الجديد بعيدًا عن الأسطرة المُصطنعة وخيالات الماضي السّحيق، وارتضت بالموقع الثّاني خلف السُّنَّة؛ لأنّ همّهم الأساس كان ولا يزال أن يكون لهم وطن تتساوى فيه الحقوق وتسمو فيه العدالة.. وفي النّهاية، خرجت فرنسا، وبقي الشّيعة في لبنان يسعون إلى نيل حقوقهم وموقعهم الطّبيعيّ في البلد الّذي ارتضوه وطنًا نهائيًّا لأبنائهم.
المصادر والمراجع:
[1] .عبد الرحيم أبو حسن: “لبنان والإمارة الدرزيّة في العهد العثمانيّ، وثائق دفتر المهمّة 1546-1711″، دار النهار، بيروت، 2005م، ص: 180-181.
[2] . من الأمثلة على ذلك: كلمة السيّد محسن الأمين في أثناء زيارة الوفد العامليّ لفيصل في دمشق مخاطبًا إيّاه :”نحن أنصار جدّك؛ ( أي النّبيّ محمد ص) ولا نحتاج إلى مجاملة خاصّة ” وخطاب شيخ النبطيّة عبد الحسين صادق في المؤتمر السّوريّ في العام 1919 م مخاطبًا فيصل قائلًا:”نبايعك مَلكا حتى الموت.” والأهمّ والأكثر وضوحًا المُذكّرة التي رفعها السيّد عبد الحسين شرف الدين إلى لجنة كنغ-كراين، وأكّد فيها على ثوابت، ستُحدّد الموقف الشيعيّ عمومًا والعامليّ خصوصًا من الانتداب الفرنسيّ، عندما أكّد على استقلال سوريا التامّ بوصفها مملكةً مستقلّةً وتضمّ فلسطين ولبنان، وأن يكون فيصل ملكًا عليها، ويتمتّع جميع أبنائها بالعدالة والمساواة، وأن لا حق لفرنسا بما تدّعيه بأيّ بقعة سوريّة.(عبد الحسين شرف الدين : ” بغية الراغبين في سلسلة آل شرف الدين”، الجزء 2، الدار الإسلاميّة، بيروت، 1991م، ص: 453-454 ).
[3] . مهيب حمادة، “تاريخ علاقة البقاعيّين بالسّوريّين”، لا.ت، ص: 99.
[4] . اجتمع مُمثّلون عن عائلات منطقة الهرمل في منزل تامر حمادة ( مندوب منطقة الهرمل في المؤتمر السّرّيّ العام” وتقرّر إرسال 100 مقاتل من تلك العائلات بقيادة علي حمادة لمساعدة الثُّوّار في تل كلخ لمواجهة القوّات الفرنسيّة الزّاحفة) . غسان طه “شيعة لبنان- العشيرة ، الحزب ، الدولة، بعلبك الهرمل نموذجا”، معهد المعارف الحكميّة، بيروت ، 2006 م، ص: 116-117 .
[5] . ذلك ما كشفه الكتاب الرّسميّ الّذي رفعه مشايخ مقاطعة جبيل ومختاريها إلى حاكم لبنان الكبير في 11 ك2/ يناير 1920م الّذي يؤيّد بشكل مُطلق قيام دولة لبنان الكبير، ويُشدّد على الجوانب: الإنمائيّة، والاقتصاديّة، والإداريّة . (علي راغب حيدر أحمد :”المسلمون الشّيعة في كسروان وجبيل : سياسيًّا – تاريخيًّا- اجتماعيًّا، دار الهادي، بيروت، 2007م، ص: 123.).
[6] . تزعم أحد تلك العصابات عيد الحوراني من بلدة الكفور الجنوبيّة تحت إشراف حاكم صيدا العسكريّ “شاربتنيه” Charpentier، كما تزعم عصابة أخرى إبراهيم فرنسيس من القليعة وقد قلده الفرنسيّون وسامًا في العام 1925م تقديرًا لخدماته.
[7]. Philip Shukry Khoury, “Syria and the French Mandate: The Politics of Arab Nationalism, 1920-1945”,(London: I. B. Tauris and Co. Ltd., 1987). p.99.
[8] . كانت التقارير الفرنسيّة الواردة من الأقضية الجنوبيّة أسبوعيًّا تتحدّث عن الإحساس بالخطر الداهم؛ نتيجة أعمال تلك المجموعات المقاومة. انظر : تمارا الشلبي :” جبل عامل ونشوء الدولة اللّبنانيّة ..”، مرجع سابق، ص: 161.
[9] . الجريدة الرسميّة: 1946 | تاريخ النشر: 12/02/1926م | الصفحة: 3.
[10] . عقد اجتماع في النبطيّة 11 كانون الأول/ ديسمبر 1925م بدعوة من محمود الأسعد ومحمد الفضل للدّعوة إلى السّلم وحماية المسيحيّين والتّعلّق بالسّلطة المنتدبة، حضرته 25 شخصيّة سياسيّة ودينيّة واجتماعيّة. ولكن يُسجّل غياب السّيّد عبد الحسين شرف الدين وبعض القيادات الأخرى؛ ما يُشير إلى أنّ المُجتمعين لا يُمثّلون كلّ الأطياف الشّيعيّة لا سيّما شيعة صيدا وصور.
[11] .قدّم مئات عدّة من العامليّين، ومن بينهم سياسيّون للمندوب السّامي هنري دي جوفنيل عريضة وقّعوها كردّة فعل على الاستمارات الّتي وزّعها الانتداب لوضع الدستور اللّبنانيّ في العام 1926م، يقولون فيها:”نحن أهالي جبل عامل منذ إلحاقنا بلبنان الصغير ما زلنا نرى الغرم علينا والغنم له، ندفع الضرائب ولا ينفق علينا منها سوى القليل حتّى نرى حقّنا مهضومًا معه فلا نعطى من الوظائف ما نستحقّه . ومعلوم أنّ هذا الاستئثار شديد على النّفوس جدًّا. لذلك، نطلب من عميد الدولة المنتدبة المسيو دي جوفنيل تحقيق آمالنا الراسخة في نفوسنا وهي : فصلنا عن لبنان بإنشاء إدارة مستقلّة تحت إشراف الدولة المنتدبة ..” (انظر: أمين سعد: “الثورة العربيّة الكبرى، تاريخ مفصل جامع للقضيّة العربيّة في ربع قرن”، الجزء الثالث، القاهرة: لا.ت ، ص: 409 .) وأيضا أوردت إحدى الوثائق الفرنسيّة بأنّ مفتي صور السّيّد جعفر عبد الحسين شرف الدين أبدى رغبة طائفته في العام 1931م، بإقامة دولة تتمتّع بحكم ذاتيّ في جبل عامل، حتّى تتمكّن من معالجة الإهمال الحكوميّ على جميع الأصعدة: الاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والسياسيّة.(جريدة لسان الحال: عدد يوم 21-10-1936م).
(MAE,Beyrouth,No.1670,July1-8,1931) كذلك أوردت الموضوع : تمارا الشلبي:”شيعة جبل عامل ونشوء الدّولة اللّبنانيّة ..”، مرجع سابق، ص: 254-255.
كما رفع النائب يوسف الزين عريضة تطالب باستقلال جبل عامل بحماية فرنسيّة في كانون الأول/ ديسمبر من العام 1933م. انظر: صابرينا يريفان:”حركة الإصلاح الشّيعيّ ..”، مرجع سابق، ص: 444.
[12] . للتوسّع حول انتفاضة بنت جبيل في العام 1936م انظر: أحمد بيضون (باسمه المستعار عباس بزي):”بنت جبيل 1936: الانتفاضة والإقطاع”، في مجلّة “دراسات عربيّة “، العدد الحادي عشر، 1969م، ص: 72-88.
[13] .Antoine Hokayem, La Genese de la constitution Libanaise le 1926,Antilyas les etudiants Universaitaires du Liban,1926,p.233.
[14] . الجريدة الرسمية: 3640، تاريخ النشر: 02/01/1939م، ص: 3446-3449.
[15]. عبد الحسين شرف الدين:”احتجاج على قانون الطّوائف”، كرّاس خاص، صور: 1939م.
[16]. تمارا الشلبي:”جبل عامل ونشوء الدولة اللّبنانيّة ..”، مرجع سابق، ص: 260.
[17] . عبد الحسين صادق: “سقط المتاع”، ديوان شعر، تحقيق: حبيب صادق، مؤسّسة الانتشار العربيّ، المجلس الثّقافيّ للبنان الجنوبيّ، بيروت، 2007م، ص: 431.
[18] . إدمون رباط: “التّكوين التّاريخيّ للبنان السّياسيّ والدستوريّ”، ترجمة حسن قبيسي، منشورات الجامعة اللّبنانيّة، قسم الدّراسات القانونيّة، والسّياسيّة، والإداريّة، بيروت، 2002م ،ج2، ص: 734.