ثمة فاشيات تزدهر. عصبيات دينية تتأجج. أديان قومية. مذاهب جديدة. إلهيات غير عقلانية. خجل العقل من نفسه. لكل فريق متحارب قضية. القضية ذات أولوية على الوجود. الوجود هو الشعوب. الدول قضايا. الشعوب مغلوبة. هي الوجود الذي يتعذّب ويتألم، ويُدفع الى الحرب. شعوب تقتل بعضها البعض تبعاً لأوامر تصدر عن غيرها. أصحاب السلطة غير شعوبهم. يؤلفون قضاياهم من غير مطالب شعوبهم، التي عادة ما تنزع الى العيش الكريم والحياة اليومية المستقرة.
ما يُنفق من سلاح على القتل والتدمير، وما سوف يُنفق لإعمار ما يتهدم هنا وهناك يكفي لمحو الفقر. لكن لكل حاكم قضية. الشعوب مرذولة تدفع ثمن القضية. ومن غيرها يدفع؟ رأسمالية تضحك. امبريالية تقهقه. بالحرب تُخفى أزمة داخلية كانت ستنفجر ثورة. صراع على الهيمنة الدولية. امبراطورية عظيمى تريد أن تكون عظمى في مواجهة القطب الواحد. امبراطورية عظمى تريد أن تؤكد هيمنتها على العالم. شعب الله المختار في إسرائيل لا يصلح أداة للمهمة. شعب الله المختار في أميركا كفؤ لها. أبطال باعوا شعوبهم. تهيئ الحرب زيلينسكي ليكون بطل المرحلة. هل يحتمل هذا الزمن بطلاً آخر؟ هنيبعل شرب السم بعد الهزيمة. لا يعرف أن الرأسمالية لا تعترف بالأبطال. ايزنهاور بطل الحرب العالمية الثانية صار رئيساً. لم يجرؤ على الكلام عن المجتمع الصناعي المالي صاحب القرار، حتى اليوم الأخير من ولايته الثانية والأخيرة. ديغول وحده انسحب أمام إرادة شعبه. سوار الذهب في السودان انسحب بعد الانقلاب عام 1986، الذي قاده وسلّم السلطة. وحده جمال عبد الناصر اعترف بالهزيمة بعد وقوعها. عاد ليبني ما كان أساسا لعدم الهزيمة في عام 1973، بعد مماته.
فات بوتين ومن في صفه أن القومية تنشأ في إطار الدولة، وأن الدولة التي أنشأها الروس أو السوفيات في أوكرانيا صار لها قومية. وحتى ولو كان أصل الشعبين الروسي والأوكراني واحد؛ واللغة في الأصل واحدة. ألا نرى الأوكرانيين يغيّرون أسماء الأفراد والمدن بلفظها بأشكال مختلفة؟
اسرائيل، بطل الغرب، في دحر العرب الممزقين المتخلفين المتأخرين، فقدت روح العلم الذي أوقد حماسة اليهود في القرن العشرين. هي الآن كراكوز الوساطة. فأرة بين أقدام الفيلة. حرب عالمية موضعية في أوروبا، تتبع حرباً عالمية موضعية في المشرق العربي. هذه ما زالت مزدهرة. يزدهر الخراب. تتوسع المأساة. عندما تتحوّل الحرب العالمية الموضعية الى حرب عامة في كل موضع. في كل مكان، ينتهي زمان الإنسان. الإنسان مشروع فاشل. الحمق في تأسيسه.
حرب هي حتى الآن غير قابلة للتسوية وإن بدأوا التفاوض. تنتهي السياسة حين تبدأ الحرب. الحرب ليست استكمالاً للسياسة بوسائل أخرى، بل هي قطع للسياسة بإلغائها. أطراف في النزاع، أساسيون، حشرهم منطقهم. لا يستطيعون التراجع. غير قادرين على التسوية. موت السياسة آذن بموتهم. هل يستحق شعب أوكرانيا هذا الخراب والقتل لقاء مطالب بوتين أو مطالب الهيمنة الامبراطورية الأميركية؟ هل يستحق شعب روسيا حرباً لا يريدها؟ وهل ينقص روسيا الأرض ولديها متسع منها؟ هل أمن كل دولة ممره عسكري أم ديبلوماسية دولية وسياسية وتسويات وإرادة تواصل؟ انقطع ما اتصل. روح العلم الحديث كُرّست للحرب والفاشية بعد أن كان مأمولاً أن تكون من أجل السلام. لله در الفريد نوبل، اخترع البارود ومنح جوائز العلم والأدب والسلام. لله در حاييم وايزمان اخترع الأستون للحرب، وباع روحه للحرب ثم صار أول رئيس لإسرائيل. ظنّ أن “الأرض الموعودة” (كذباً) تعيد الروح. كل من خلفوه إعتقدوا أنهم الديمقراطية الوحيدة في محيطهم.
يدير هذا العالم حكام منتخبون “ديمقراطياً” كلهم. أكد المحافظون الجدد أن الديمقراطيات لا تتحارب في ما بينها. هل الديمقراطية إلا الانتخابات البرلمانية؟ برلمانات أوروبا وأميركا في حالة هستيريا.
تحوّلت السياسة في داخل البلدان المتصارعة الى جيوبوليتيك بين البلدان المتصارعة. جنّدت كل قضايا الداخل المحقة وغير المحقة، في سبيل الصراع ضد أعداء اعتبروا هم “الآخر” الشرير، والخارج المعتدي. لم تعد الحرب مكرسة ضد الإرهاب، والعدو فيها هو المجتمعات أو البلدان الإسلامية، وخاصة العربية، بل الحرب دفاعاً عن الأمن. كما كان الإرهاب في معظمه مختلقاً أو مصنوعاً أو موهوماً في أسبابه ونتائجه. فالأمن هنا مسألة دفاع عن الحدود. الناتو يريد التمدد شرقاً الى حدود روسيا، بعد أن رفض قبولها بين صفوفه. روسيا تدافع عن أمن يُهدّدها من أراضي أوكرانيا. مع احتلال أوكرانيا سترى روسيا أن الخطر الأمني عليها آتٍ من رومانيا أو بولندا أو أي بلد آخر مجاور. الأمن الجيوبوليتيكي والأمن الإرهابي وجهان لعملة واحدة، سوى أن الأمن الإرهابي يصدر عن فاشية عنصرية ضد العرب، وبقية المسلمين، أما الأمن الجيوبوليتيكي فهو صراع بين الأوروبيين.
ليس في هذه الحرب قضية أو قضايا إلا الزيف وافتعال أسباب الصراع واحتقار الوجود البشري. ليست كل قضية زائفة، ما عدا التي تتعلّق منها بالوجود البشري في إنسانيته ومطالب الحرية والعيش الكريم. سبق أن قيل في هذه السلسلة من المقالات أن “التحرر القومي” قضية زائفة. بالأحرى قضية جيوبوليتيكية تقضي على الحريات في الداخل بإصرارها على التعبئة ضد عدو خارجي. في جميع البلدان التي كانت خاضعة للإمبريالية والتي كان النضال فيها ضد عدو خارجي، انتهت بعد الاستقلال الى ديكتاتوريات تحكّمت فيها الجماعة بالفرد، وتحكّم بالجماعة قائد فذ ملهم غاب عن الأمة والشعب، فأصبحت خطاباته الفارغة مجرد إملاءات على الجمهور.
النظام الأوكراني باع نفسه للناتو. هو مجرد لعبة بيد الامبراطورية الأميركية. لكن الشعب الأوكراني، المجتمع الأوكراني، محق في تعبيره عن وجوده في دولة. بوتين على خطأ في الرجوع الى أصول تاريخية، دون الأخذ بالاعتبار الوجود الراهن
فات بوتين ومن في صفه أن القومية تنشأ في إطار الدولة، وأن الدولة التي أنشأها الروس أو السوفيات في أوكرانيا صار لها قومية. وحتى ولو كان أصل الشعبين الروسي والأوكراني واحد؛ واللغة في الأصل واحدة. ألا نرى الأوكرانيين يغيّرون أسماء الأفراد والمدن بلفظها بأشكال مختلفة، فتصير كييف كيف، ولفوف لفيف، وفلاديمير فولوديمير؟ ذلك للتعبير عن الرغبة بالاختلاف وإرادة البقاء على الانفصال. العودة للأصول مبرر روسي للاعتداء ولكن لا جدوى للأصول إذا صار هذا المخلوق على ايديهم، أي أوكرانيا، كياناً آخر. لا يختلف مفهوم الأصول عن مفهوم الأمة عند المسلمين والعرب الذين لا يريدون الاعتراف بالدول المستحدثة وبقومياتها التي نشأت في إطار هذه الدول. انهزم العرب مع تقدم فكرة الأمة، ذات الوجود الموغل في التاريخ، على مفهوم الدولة الراهنة. لم يعترفوا بهذه الدول فكان ذلك بمثابة عدم اعتراف بالراهن وبالوجود البشري؛ فكان سهلاً على الطغاة ممارسة الديكتاتورية باسم الأمة وشعب الأمة على حساب الدولة وشعب الدولة.
لا يختلف مفهوم الأمة السلافية عن مفهوم الأمة الإسلامية، في أصوليته، وفي تدميره لشعوب الأمة العربية. فات العرب أن الوحدة لن تتحقق إلا إذا كانت قراراً واعياً تتخذه الدول العربية؛ بما يعني أن بناء الدولة، لا تجاهلها أو تهديمها، هو ما يمكن أن يقود الى الوحدة. وحدة اللغة لا تكفي. تخترع الشعوب داخل الدول التي صار لها قوميات خاصة بها تعديلات في اللغة لتبرر وجودها أو تعبّر عنه. الجدل الدائر حول اللغة العربية هو جدل حي عن الدولة. جدل لا يعترف به أصحاب مقولة الأمة. عروبتنا في حاضرنا وليست في أصولنا. ما زلنا نهمل الحاضر لحساب الماضي. وهذا يُعبّر عن سلفية متأصلة لا في الدين وحسب بل في المسألة، أو المسائل القومية، وحتى في اللغة.
النظام الأوكراني باع نفسه للناتو. هو مجرد لعبة بيد الامبراطورية الأميركية. لكن الشعب الأوكراني، المجتمع الأوكراني، محق في تعبيره عن وجوده في دولة. بوتين على خطأ في الرجوع الى أصول تاريخية، دون الأخذ بالاعتبار الوجود الراهن. في الأصول زيف الماضي عندما يصبح مستعاداً. لا يستعاد الماضي إلا وأصبح سلفية أخرى. يعاش التاريخ في تطوره. الماضي مضى ومحاولة استمراره تزييف للحاضر. التاريخ تطوّر. انتقال من ماضٍ لم يعد موجوداً ولا يمكن استعارته. التاريخ أمر الراهن في خروجه على الماضي.
هؤلاء الأنذال، حكام العالم والطبقات الموالية لهم أو التي صنعتهم، يريدون إيهامنا أن الأولوية في العالم هي للمشاكل بين الدول وليست للمشاكل داخل الدول. المشكلة بين الطبقات داخل كل دولة وليست المشكلة بين الدول. نجحوا حتى الآن في الإيهام بأن صراع القوميات أولى من صراع الطبقات. ليس المطلوب إلا السلام بين الدول والصراع الطبقي داخل الدول. جيوبوليتيك السلام مجتمع الصراع من أجل الحقوق. حق الحرية وحق العيش الكريم. وسيكون بوتين خاسراً في السياسة ولو ربح الحرب. أوكرانيا دولة ويجب أن تبقى كذلك. شعبها يريد ذلك بعد أن فرض عليه ذلك، ومارس ذلك، ولو كان الأصل سلافياً. المعروف أن الدول تنشأ بالغلبة. تنشأ قوميتها بالتقادم. حصل ذلك في أوكرانيا. قرار التبعية لهذا المجتمع الجيوبوليتيكي أو ذاك يتخذه الشعب والمجتمع. الأمن لروسيا يمكن أن يتحقق على هذه الحدود أو ما بعدها. ليس من حدود آمنة إلا بالسياسة. قرار استتباع أوكرانيا لروسيا يُفرض بالقوة. إصطدام القرار بمقاومة شعبية يجعله جائراً.
مثقفونا اليساريون منحازون الى بوتين. تناسوا أن روسيا ليست الاتحاد السوفياتي. هي بلد ذو نظام رأسمالي وقوة عسكرية. وهذا صراع إمبريالي بين العظمى والعظيمى من أجل الهيمنة
أكاذيب الامبراطورية الأميركية ورّطت بوتين. وعودها الكاذبة استفزته. ديبلوماسية السلام كانت أجدى له.
أوروبا كسيحة عسكرياً برغم أنها قوة اقتصادية. تستجدي القوة الأميركية من ناحية وتحاول الوساطة من ناحية أخرى. تشارك في العقوبات وسط الهستيريا السائدة فيها. أميركا تُدمّر العلاقات الاقتصادية بين أوروبا الغربية وروسيا. رأسماليتها (الأميركية) تحتاج عدواً هو روسيا الآن. ربما صار أوروبا الغربية غداً. وإن ناظره قريب.
ملاحظة أخيرة: مثقفونا اليساريون منحازون الى بوتين. تناسوا أن روسيا ليست الاتحاد السوفياتي. هي بلد ذو نظام رأسمالي وقوة عسكرية. وهذا صراع إمبريالي بين العظمى والعظيمى من أجل الهيمنة.