شجرة العبادة.. وثمرة العدالة

قد يكون مشروعًا السؤال حول الصّلة ما بين العدالة والعبادة، العبادة بما هي فعل العبد لله تعالى، والعدالة بما هي حقيقة تتمظهر في أفعال العباد في ميادين شتّى: إجتماعيّة، سياسيّة، اقتصاديّة، وماليّة.. فضلًا عن الجانب الفرديّ والأخلاقيّ.

إنّ ما تقدّم يستدعي منّا أن نتبصّر فلسفة هذه العدالة، والتي هي – أي العدالة – جوهر أخلاقيّ بالدرجة الأولى، يمكن العمل على تسييله في مختلف الميادين والمجالات من فرديّة واجتماعيّة على اختلافها، حيث يمكن لهذا الجوهر أن يتمظهر في أي فعل أو سلوك على اختلافه.

إنّ العدالة بهذا المعنى تعني أن تستوي النظرة إلى الأنا مع النظرة إلى الآخر من حيث الحقّ والواجب، وإرادة الخير ودفع المكروه وسوى ذلك. وهو ما يستلزم الخروج من جميع العصبيّات على اختلافها، والارتكاز فقط إلى الجوهر الإنسانيّ والقيميّ الذي ينحصر التفاضل فيه.

كما يتطلّب ما تقدّم أن نعي فلسفة العبادة، والتي هي فعل خروج من جميع العبوديّات على اختلافها، والدخول في عبادة الله الواحد الأحد لا غير، بما يشمل الخروج من عبادة الأنا وأهوائها، ومن تعظيمها لنفسها في مقابل الآخرين، وهو ما يفضي إلى أن تستوي النظرة للأنا مع النظرة للآخر، سواءً كانت “أنا” فرديّة أو جمعيّة، ممّا يؤسّس لفعل العدالة، ويوجد أساسًا أخلاقيًّا وجدانيًّا لفعل الإنصاف بين البشر، حيث لا تشرنق حول الأنا، ولا تعالي على الآخر، ولا تعظيم للذات على الذوات الأخرى، ما يؤدّي – أي التشرنق والتعظيم للذات – إلى التأسيس الوجداني والجوّاني لفعل الظلم والجور والفساد.

العبادة بهذا المعنى تضحى السبيل إلى صناعة العدالة، أي أنّ العبادة هنا هي مصنع العدالة ومحل تخصيبها. عبادة الله هي الطريق إلى صناعة العدل بين البشر وعلى هذه البسيطة، حيث ينبغي أن تكون العدالة ثمرة للعبادة وغاية لها، وأن تتماهى معها وألا تتخلّف عنها. العدالة والعبادة توأمان لا ينفصلان، ولا يصحّ أن تكون شجرة العبادة بهذا المعنى من دون ثمرة العدالة وقطافها.

إنّ من أهمّ ما يترتّب على هذا الوصل بين العبادة والعدالة أمرين:

الأوّل؛ أنّه يُخرِج العبادة من كونها أمرًا طقوسيًّا عقيمًا، إلى كونها السبيل لصناعة العدالة، وإقامة القسط في الاجتماع العام، حيث تضحى العبادة بهذا المعنى شأنًا اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وماليًّا.. أي إنّها بهذا المعنى تلج إلى جميع ديناميّات الاجتماع العام، ومختلف شؤونه.

هذا فضلًا عن أنّه يصبح بين أيدينا مؤشّرٌ واضح على إنتاجيّة العبادة هذه، إذ بمقدار ما تنتج عدلًا وتُفضي إلى صناعة العدالة في الاجتماع العام، بمقدار ما تكون عبادة مثمرة وهادفة؛ وبمقدار ما تعجز عن إنتاج العدالة وإقامة القسط في الاجتماع العام، بمقدار ما تكون عبادة عقيمة وغير مثمرة. وبهذا المعنى تصبح العبادة أمرًا خاضعًا للقياس، وقابلًا للدراسة بلحاظ أثرها ونتاجها في العدالة وصناعتها. وهو ما يوجب أن يكون مقياس العدالة هذا حاضرًا بشكل دائم من أجل قياس تلك العبادة ودورها بلحاظ تجلياتها وآثارها، ونشطًا من أجل تحقيق بعضٍ من أهدافها في إقامة القسط، وصناعة العدل بين الناس وفي الاجتماع العام.

فلسفة العبادة، هي فعل خروج من جميع العبوديّات على اختلافها، والدخول في عبادة الله الواحد الأحد لا غير، بما يشمل الخروج من عبادة الأنا وأهوائها، ومن تعظيمها لنفسها في مقابل الآخرين، وهو ما يفضي إلى أن تستوي النظرة للأنا مع النظرة للآخر، سواءً كانت “أنا” فرديّة أو جمعيّة، ممّا يؤسّس لفعل العدالة، ويوجد أساسًا أخلاقيًّا وجدانيًّا لفعل الإنصاف بين البشر

الثاني؛ أنه يهدينا إلى سبيل دائم ومستديم، نشط وفعّال، فرديّ وجمعيّ، وجدانيّ وخارجيّ، أخلاقيّ واجتماعيّ، معنويّ وماديّ، دينيّ ودنيويّ، شامل وعام، نظريّ وعمليّ، فكريّ وواقعيّ؛ لصناعة العدالة، وتحقيقها في النفس الإنسانيّة، كمقدّمة لإقامتها في الواقع العام.

وهو يعني أنّ كلّ تلك الطاقة العباديّة التي تُحرّك معظم بني البشر وأفرادهم في جميع عباداتهم وبرامجها ومراسمها ومواسمها؛ ستضحى طاقة هادفة إلى إقامة العدالة، وبناء إنسان العدالة، وإنتاج وجدان العدالة، وصناعة إيمان العدالة.. وهو ما يوجد ديناميّات عباديّة – اجتماعيّة قويّة وهائلة جدًا، وقادرة على إحداث فارق كبير، ومؤثّر في دفع الاجتماع العام، وسوقه في مسارات تجعله أقرب إلى تحقيق العدالة، وأقدر عليها، شرط فهم الدين – والعبادة ضمنًا – فهمًا صحيحًا وهادفًا، وعدم تحريف هذا الفهم أو انقلابه إلى ضدّه، وتوفّر الإرادة الصادقة والواعية لتحقيق ذلك الهدف وبلوغ غاياته.

إنّ هذا الوصل ما بين العبادة ـ بما فيها الصيام في شهر رمضان المبارك ـ وما بين العدالة، يحيل العبادة بجميع مفرداتها إلى عامل فعّال ونشط لبناء الاجتماع العام بناءً صحيحًا، وإصلاحه بإصلاح النفس البشرية بالعدل، وقيامه على أساس من القسط والإنصاف على جميع مستوياته.

وبهذا المعنى لا تبقى العبادة حبيسة دُورِها، بل تصبح حاضرة في مختلف ميادين الاجتماع العام، وتأخذ دَورَها الذي يناط بها في بنائه، وتتجاوز جميع التباسات الفصل بينها وبين العدالة، بما يفضي إلى فهم الدين بجميع أضلاعه فهمًا متكاملًا وهادفًا، إنسانياً وحضاريًّا، يحيله إلى أن يكون في خدمة الإنسان، وإعادة تصحيح مساره الحضاري من الظلم والجور إلى القسط والعدل.

إقرأ على موقع 180  حرب أوكرانيا.. المحاربون لم يتعبوا حتى الآن!

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

أستاذ مادة الفلسفة في الجامعة اللبنانية، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  التاريخ في خدمة الأيديولوجيا.. ابن عساكر الدمشقي نموذجاً