وبالتأكيد أيضاً تشكّل الدول التي تدخّلت في الصراع السوريّ جزءاً من المشكلة، وهي بالتالي جزءٌ من الحلّ. بما فيها تلك الدول التي لها قواعد ومقاتلين في البلاد. سواءٌ روسيا والولايات المتحدة (وعبرها بعض القوى الأوروبيّة)، أو إيران وتركيا. وكذلك أيضاً الدول التي تتواجد بشكلٍ غير مباشر عبر المال، أكان إغاثةً أو تسليحاً لفصائل سوريّة، أو عبر الإعلام، من خلال القنوات الفضائيّة و”المنصّات” السياسيّة السوريّة، أو عبر تفجير التناقضات، قطر وفرنسا وبريطانيا وألمانيا.. وإسرائيل.
إلاّ أنّ أغلب الدول الإقليميّة لها مصلحة مباشرة في الوصول إلى “تسوية” في سوريا، ضمن إطار مسار إعادة ترتيب أوضاعها بما هو أبعد من سوريا ذاتها.
هكذا يحتلّ ملفّ اللاجئين أولويّة بين ملفّات حملة الانتخابات التركيّة، وجميع المتنافسين الجدّيين يعِدون بحلٍّ يُنهي تواجد أربعة ملايين لاجئ سوري على أراضي بلادهم، خاصّةً بعد كارثة الزلزال. كما يزيد اللاجئون السوريّون “الطين بلّة” في تداعيات الانهيار المالي اللبناني، لا حقّاً اقتصاديّاً بل أساساً في تشنّج “أمراء الحرب” حول ما سيأخذون إليه بلدهم. كما يُثقِل اللاجئون على كاهل الأردن الذي يعيش أصلاً على المساعدات الخارجيّة. بالتالي، لا بدّ اليوم من وضع أسسٍ لـ”تسوية” بغية عودة كبيرة لهؤلاء اللاجئين بعد 12 سنة من اللجوء، وإلاّ تسير الأمور نحو استقرارهم نهائيّاً في بلدان لجوئهم كسكّانٍ من درجة ثانية وذوي حقوق متدنيّة ويخضعون للاستغلال اقتصاديّاً واجتماعيّاً.
لا بد من مشروعٍ منفتِحٍ على الصعيد الشعبي أيضاً. بحيث يتخطّى هو أيضاً منطق الصراع، والمظالم والأطماع. فما الذي يُبرّر أن تُدمّر سوريا كما دُمّرت اليوم؟ وما الذي يبرّر استمرار جوع وعوز السوريّين والسوريّات؟ هذا التخطّي ليس سهلاً لأنّ الصراع أسّس لمظالمٍ مؤلِمة وأنبت مظالم قديمة حقيقيّة أو متخيّلة
سوريا مقسَّمة أيضاً إلى مناطق نفوذ. وهذا التقسيم يتطوّر كي يُصبِح مستداماً. هذا في حين تختلِف مصالح الدول كثيراً حول ضرورة إعادة توحيد الأرض السوريّة، مهما كانت الخطابات الرسميّة. فهناك القواعد العسكريّة المتنافسة، وهناك سبل الاستفادة من صعود تيّارات شديدة التناقض بين السوريين لفرض النفوذ على المدى الطويل. والأمثلة على هكذا مسار تشهد به يوغسلافيا السابقة كما ليبيا والسودان واليوم.
كذلك أضحت سوريا بلداً يعيش، من جرّاء الصراع والعقوبات والتدخّلات، على الإعانات وعلى تحويلات المغتربين أساساً.. كما على اقتصادات ذات طابع إجرامي، وليس أقلّها شأناً المخدّرات كنتيجةٍ طبيعيّة. وواقع شيوع المخدّرات بدأ يُزعِج، بسبب حجمها، بعض دول الجوار. ولا سبيل لتقليصه سوى عودة الدولة القادرة في سوريا وتخليّها عن لعب الدور “المارق”.
لقد تغيّر المشهد الإقليمي لأسبابٍ لا تتعلّق بسوريا. وبات “الاستعصاء” السوري يشكّل عائقاً يفرِض إقليميّاً التعامل معه وإن كان على المدى المتوسِّط وليس الآنيّ. وربّما الأمر صعبٌ لأنّ كلّاً من اللاعبين يريد “عائداً” على استثماره. مع التساؤل حول إمكانيّة تذليل هذا العائق في ظلّ “لعبة الأمم الكبرى” القائمة عسكريّاً الآن في أوكرانيا واستفزازاً في المحيط الهادئ؟
إنّ تغيّرَ المشهد الإقليمي أنتجَ تفاعلات كبرى ضمن السوريين، بعد سنين من الانغلاق على الخطابات النمطيّة من الأطراف المتنافرة من جرّاء القمع والصراع والتقسيم. تفاعلات مشوبة بالقلق والأمل في آنٍ معاً.
وبالطبع يسود القلق كلُّ من يعتاش على “الاستعصاء” القائم من خلال طرفٍ إقليميّ أو دوليّ يسانده. أنّ هذا الطرف سيدفعه للانخراط في “التسوية” تبعاً للتحوّلات الإقليميّة. وهذا ينطبق على السلطة القائمة في دمشق، كما على “الإدارة الذاتية” أو “حكومة الإنقاذ”.. وعلى كلّ الفصائل المسلّحة. والخطاب الإعلامي الحالي لهذه الأطراف يفسّر ذلك.
كما يسود القلق اللاجئين السوريين في بلدان الجوار، الذين قد يتمّ دفعهم قسراً للعودة إلى بلادهم، دون تغيّرٍ في السياسات والأوضاع. هذا في حين يسود القلق بالمقابل لدى السلطة القائمة في سوريا لأنّها لا تستطيع استيعاب عودة كبيرة لهم. وهذا جزءٌ من التفاوض القائم.
في مثل هذا السياق، برز أملٌ لدى كثيرٍ من السوريين بأنّ الفقر والعوز الذي يعيشون فيه، في جميع المناطق السوريّة، يُمكِن أن يزول ولو تدريجيّاً لأنّ حلاًّ ما آتٍ. كما برز أملٌ عند النازحين في الداخل بنهاية ذلّ توزيع المساعدات وتسلّط “الموزّعين” عليهم، أيضاً في كلّ المناطق.
لقد تجسّد الأمل أيضاً مع إزالة حواجز مدينة دمشق أمام وزير الخارجيّة السعوديّ، وأبعد من ذلك أنّ تزال الحواجز في كافّة أنحاء سوريا وبين مناطقها. وبالتالي ظهرت دعوات للتخلّي عن “خطابات الكراهية والاصطفاف” بين السوريين التي تنامت مع “الاستعصاء” وبات الانفتاح على جميع الأطراف ضروريّاً. دعواتٌ نادرة وخافتة ولكن كبيرة المغزى.
إنّ تغيّرَ المشهد الإقليمي أنتجَ تفاعلات كبرى ضمن السوريين، بعد سنين من الانغلاق على الخطابات النمطيّة من الأطراف المتنافرة من جرّاء القمع والصراع والتقسيم. تفاعلات مشوبة بالقلق والأمل في آنٍ معاً
ويبقى تجسيد هذا الأمل إلى مشروعٍ على صعيد الدولة في سوريا والشعب مطلوباً. الدولة كمؤسّسة أوّلاً. فهي في النهاية المسؤولة عن الشعب السوري وعن مصيره. وهي تعرف أنّ “البهرجة” الإعلاميّة حول التطبيع مع رأس “السلطة”، هو في الواقع عودة للعلاقات معها كمؤسسة، وأنّ “البهرجة” ستتضاءل مفاعيلها تدريجيّاً أمام تحديات استحقاقات سوريا وشعبها. ما يعني أنّ على السلطة أن تتغيّر.. وتتخطّى منطق الصراع. وأن تغيّر سلوكها تجاه المواطنين في مناطق سيطرتها كما في المناطق الأخرى. وأنّ تغيّر سلوكها تجاه الفعاليّات الاجتماعيّة والاقتصاديّة عبر فرض دولة قانون تكبح تسلّط “أمراء الحرب” والفصائل المسلّحة على أنواعها وأجهزة الأمن. ويبقى العنصر الأهمّ في هذا الصدد هو ضمان حريّة الرأي، لأنّه لا يُمكِن أن يستوي أيّ تغيّرٍ في سلوك الدولة دون المحاسبة على النهج والأداء. فهل العلاقة القائمة بين السلطة والدولة يُمكِن أن تأخذ إلى هكذا تغيير؟
ولا بد من مشروعٍ منفتِحٍ على الصعيد الشعبي أيضاً. بحيث يتخطّى هو أيضاً منطق الصراع، والمظالم والأطماع. فما الذي يُبرّر أن تُدمّر سوريا كما دُمّرت اليوم؟ وما الذي يبرّر استمرار جوع وعوز السوريّين والسوريّات؟ هذا التخطّي ليس سهلاً لأنّ الصراع أسّس لمظالمٍ مؤلِمة وأنبت مظالم قديمة حقيقيّة أو متخيّلة. وليس التخطّي سهلاً أيضاً لأنّ أطماع المستفيدين من الصراع ثمّ من الاستعصاء غدت كبيرة لا ضابط لها. فهل من ذاكرة جمعيّة لسوريا لدى جميع بناتها وأبنائها لبعث الانفتاح، خاصّةً لدى الجيل الجديد الذي لم يعرِف سوريا ما قبل الصراع.. وبقوّة نقول لا لإعادة إحياء القديم بل لصنع مستقبل يتخطّى مآسي الصراع و”الاستعصاء”.