القتال بين أهل السلطة في السودان يبدو أنه سيكون طويل الأمد، بدليل أن مختلف دول العالم تنظّم رحلات إجلاء لرعاياها. ربما يعرف حكام هذه الدول أشياء لا نعرفها حول مستقبل السودان. لكن الواقع هو أن القتال هذه المرة بين جنرالات وعسكرهم دون اكتراث لرفع شعارات تتعلّق بالناس ومطالبهم وحاجاتهم، ولو على سبيل الحجّاج الكاذب كما تعودنا سابقا من أصحاب السلطة في البلدان العربية عندما يخوضون صراعات مسلحة أو غير مسلحة فيما بينهم.
فقد النظام العربي صلته بأرضه وشعبه. هو، بسبب جرائمه التي ارتكبت ضد الناس، يبتعد أكثر فأكثر عن واقعه. تعقد السعودية اتفاق صلح مع إيران، بدعوة من الصين، بينما هما دولتان متجاورتان. يخوض النظام العربي صراعاً داخل السودان حول موارد الأرض، إذ أن كل طرف مدعوم من أطراف دولية. لم يعد الجيش الرسمي قادراً على السيطرة على الأرض في مواجهة الجيش الموازي. هذه ليست حرباً أهلية. السلطة تقاتل نفسها.
الحرب حرب مرتزقة حتى لو كان الجيش طرفاً فيها. التفسّخ في الداخل جليّ. وهذا لا يمنع أن التدخلات الخارجية معطوفة على الدعم بالمال والسلاح تفعل فعلها، إضافة الى وجود قوات أجنبية (فاغنر الروسية). بعد أن كانت السودان تبعث جنوداً لغير دول عربية للقتال أو لحماية نظامٍ ما، يرتد الأمر فنرى جنوداً غير سودانيين، مرتزقة أو غيرهم، أو ما يُسمى شركات عسكرية في السودان تدافع عن هذا أو ذاك من أهل السلطة، أو بالأحرى تسعى من أجل مكاسب مادية مجردة عن أي اعتبار أخلاقي. اكتشاف مناجم الذهب في الشمال يجذب الجميع للتنافس من أجل المعدن الثمين. يضاف إليهم القوات العربية وغير العربية المتورطة مع هذا الفريق أو ذاك. حتى الجيش الرسمي المنوط به الدفاع عن “الوطن”، والذي لا مهمة له غيرها، والذي تتوقف وحدة البلد واستمراره عليه، أمضى سنوات في المماحكة لرفض الحكم المدني، ولم يستطع التعايش مع حكم مدني في السلطة. واضح أن لديه رغبة في بقاء الحكم عسكرياً.
يبدو الجميع فاقدي الشرعية، ولم يفعل أي منهم شيئاً لاكتسابها. على كل حال، أصبح صعباً على أي منظومة اكتساب الشرعية منذ اتفاقيات كامب دايفيد ووادي عربة، ثم التطبيع. والجيش الرسمي السوداني المؤهل أكثر من غيره ليكون شرعياً ورث التطبيع عن عمر البشير ولم ينكره. لذلك برغم رغبة كل واحد منا في أن يكون الحكم شرعياً، والأمر لا يكاد ينطبق إلا على البرهان وجيشه الرسمي، إلا أنه يصعب التعاطف مع أي من الأطراف، حتى عبد الفتاح البرهان.
تلاعب نظام السودان بشعبه. أهانه مرحلة بعد الأخرى، رئيساً بعد الآخر. لم يعد قادراً على تحمل مسؤولية السلطة. حوّل السودان الى شركة، وهذه يتنافس فيها أعضاء مجلس الإدارة بالدم والسلاح. لا نفهم الكثير عن بواطن ما يجري لأن معظم الأسهم ليست اسمية بل هي لحامله. صاحب المال هو المالك الوحيد. وهو متعدد الأطراف. أما المقاتلون على الأرض فهم مرتزقة لدى الأصحاب الحقيقيين للأسهم
سقطت ورقة التين عن جميع الجيوش العربية تقريباً. هي إما أنها دون وطنية، أو دون عقيدة قتالية ضد الأعداء، وفي الغالب لديها استعداد كامل للتحالف مع القوى الامبريالية الأجنبية، وبقية أعداء الشعوب العربية. فهذه الجيوش إن لم توصف بالمرتزقة، فهي أشبه بها. لقد ساهمت الأنظمة السياسية العربية في عدائها لشعوبها واستعدادها الدائم للتحالف مع الامبريالية (وإسرائيل في معظم الأحيان) في تحويل جيوشها الى مرتزقة يقاتلون دون قضية، بالأحرى دون دافع وطني وقومي.
ما يجري في السودان هو صراع على السلطة. سلطة في سبيل السلطة. قتل في سبيل القتل. عنف متزايد في سبيل مكاسب مادية، صارت هي الهدف، ربما الهدف الوحيد، بدل أن تكون وسيلة. لا يستطيع أي جيش أن يقاتل من دون حكومة خارجية تزوده بالمال والسلاح. لكن أن يصير المال عقيدة قتالية فهذا الأمر يُحوّله الى مرتزقة وحسب. وقد صارت الاستعانة بالمرتزقة عادة لدى جيوش العالم. بلغت الاستعانة بها حد أنها تطغى على جيش الشرعية، أو تصير في موازاته، أو تنفرد بالامتيازات. صارت عادة لدى كثير من دول العالم، الذي كان ثالثاً وصار عاشراً، ومنطقتنا العربية في عداده.
ولا يغيب عن البال أن النيوليبرالية تدرج خصخصة الأمن والخدمة العسكرية في اولوياتها. وقد سمعنا وقرأنا الكثير عن الليبرتارية الذين يدعمون النيوليبرالية حول العالم. فكما أن النيوليبرالية تعادي حتى الليبرالية، هناك ليبرتارية تعادي الليبرالية، وفي جميع الأحوال تعادي الدولة وتدعو للقضاء عليها، وتدعو الى ما يشبه الأنارشية (الفوضوية اليمينية). تعادي الشعوب وتحتقر الديمقراطية، وتدعو للاستعاضة عنها بحكم الشركات الكبرى أو ما يشبه الشركات، حيث أن المواطنين ليسوا شركاء في الدولة بل حاملي أسهم فيها، ومعرضين لفقدان أسهمهم في حال سنحت الفرصة لمن يشتري الأسهم. يبدو الأمر وكأنه يوتوبيا خيالية. لكن قوى الرأسمالية التي تسعى في سبيل ذلك لا يستهان بها حتى في الدول المعتبرة أكثر تقدماً؛ أما دول المناطق التي نحن منها أو تشبهنا، فهي حقل تجارب على الصعيد السياسي كما العسكري، والسياسة تقود السياسات العسكرية وتقررها. والمعلوم أن السودان، حتى بعد انفصال الجنوب، ما زال واسع المجال الجغرافي. وهو مفتوح على دول كثيرة في الشرق والغرب والشمال والجنوب. وقد ساهمت الامبريالية الجديدة عن طريق النيوليبرالية والنظريات النيوليبرتارية في نسف أو تقويض ما نشأ من كيانات ودول في هذه المنطقة الافريقية أو تلك العربية.
لقد تلاعبت المنظومة العربية بدولها وشعوبها، وهي تملك الكثير من المال لتمويل ذلك. أما الشعوب العربية فهي تدفع مقابل ذلك خراباً ودماراً وقتلاً وتشريداً. وبعد أن قضت بواسطة الثورة المضادة على ثورة 2011 ومفاعيلها، أو هكذا تظن، لا ترى المنظومة في الشعوب العربية إلا عبئاً عليها. لديها المال وثروات ما في باطن الأرض. والشركات الكبرى تتولى ذلك، والشعوب لا لزوم لها إلا ربما للخدمة المنزلية أو خدمات أخرى. لا تستطيع هذه المنظومة العربية الخروج على منطق الرأسمالية في أعلى مراحلها المالية. هي جزء منها.
تلاعب نظام السودان بشعبه. أهانه مرحلة بعد الأخرى، رئيساً بعد الآخر. لم يعد قادراً على تحمل مسؤولية السلطة. حوّل السودان الى شركة، وهذه يتنافس فيها أعضاء مجلس الإدارة بالدم والسلاح. لا نفهم الكثير عن بواطن ما يجري لأن معظم الأسهم ليست اسمية بل هي لحامله. صاحب المال هو المالك الوحيد. وهو متعدد الأطراف. أما المقاتلون على الأرض فهم مرتزقة لدى الأصحاب الحقيقيين للأسهم.