إردوغان وكليجدار.. آخر المعارك!

من يود أن يفهم حجم التحوّل الذي أحدثه حزب العدالة والتنمية في المجتمع التركي خلال عشرين سنة مضت من إمساكه بالحكم، عليه أن يتابع أجواء التنافس الإنتخابي، عشية الإنتخابات الرئاسية والتشريعية المقررة يوم الأحد في 14 أيار/مايو المقبل.

ثمة تحولات كبيرة على مدى عقدين من الزمن، بات معها من الصعب تجاوز ما أرساه رجب طيب إردوغان وحزبه في موقع تركيا الإقليمي والدولي، لكن الأهم في الداخل، سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً وثقافياً. وحتى لو لم يفز حزب العدالة والتنمية في هذه الإنتخابات، فإن أيام بلاد الترك القادمة، ستبقى أسيرة ظلّه لسنوات عديدة ومديدة.

أبرز نقاط قوّة أردوغان الخارجيّة

لنبدأ بالعوامل الخارجيّة. أولًا؛ بالنسبة لفلاديمير بوتين هي معركته الشخصيّة أيضًا. كنت قد كتبتُ بعد أيّامٍ من اندلاع الحرب الروسيّة الأوكرانية، بأن أهم إنجازات بوتين الخارجية، أنّه فهم دور وموقع وتأثير تركيا، مستفيدًا من تجربة الحرب الباردة وتأثير تركيا، فقام بنسج شبكةٍ واسعةٍ ومُحكمةٍ من المصالح الحيوية والإستراتيجيّة مع جارته، وأدار لعبة إرضاء شخصيّة إردوغان الطموحة بطريقة ناجحة، أمّا ثمن الموقف التركي، فستكون فاتورته من خلال الغاز الروسي. بوتين اليوم أكثر حاجة لإردوغان، وهناك حديثٌ بأنّ وعد الغاز المجاني الذي تحدث عنه أردوغان، هو في الحقيقة غاز روسيا وبوتين، والرسالة الواضحة من ذلك، هي أنّه يجب أن ينجح أردوغان مهما كلّف الأمر.

ثانيًا؛ بالنسبة إلى إيران جارة تركيا، حاجتها لإردوغان لا تقلّ أهميّة عن حاجة روسيا أيضًا. لولا أردوغان لأمكن للسعودية أن تعزل طهران عن العالم الإسلامي السني، إلا أن براغماتية إردوغان أفادت الجمهورية الإسلامية. في المقابل، لم تكن أنقرة أقل فائدة، طهران المحاصرة أميركيًا، تعني أنّ عشرات المليارات من الدولارات المهرّبة من إيران أو إليها ستمرّ عبر أنقرة. هي مسألة تخادمٍ متبادلة، جاءت نتيجة نسجٍ دقيق لطبيعة العلاقة بين البلدين، فمن جهة اشتباك دموي في ساحات الإقليم، ومن جهة ثانية، تبادلٌ للقبل والمصالح في ساحاتٍ أخرى.

أمّا العامل الخارجي الثالث، فهو نفور الغرب من شخصيّة أردوغان إلى حدّ العداء. البعض يُصنفها كعاملٍ سلبي ضدّه، لكن من يفهم المزاج القومي التركي العميق، والشعور الملتهب بالإنتماء للأمّة، والإرث العثماني السلطاني العظيم الممزوج بالعداء لأوروبا، سيدرك سريعًا أنّ عداء الغرب بقيادة الولايات المتحدة سيجعل من إردوغان، ولو شعبويًا، محمد الفاتح الجديد، وكلّما زاد قادة الغرب وإعلامهم في مهاجمة إردوغان، كلّما ارتفع منسوب الرضا الوطني عليه عند القوميين الأتراك.

أخيرًا لا يُمكن إغفال النقلة النوعيّة التي أحدثها حزب العدالة والتنميّة في سياسة تركيا الخارجيّة. أولاً؛ إعادة أنقرة إلى حاضنتها الإسلامية من موقع ريادي وقيادي. ثانيًا؛ التمدّد العسكري والسياسي النشط لتركيا في المحيط والإقليم، ثالثًا؛ حاجة جميع الفاعلين الإقليميين والدوليّين، طوعًا أو كرهًا، لموقع تركيا ووزنها في الصراعات الإقليميّة والعالميّة. تكفي الإشارة فقط، إلى أنّ أحد أسباب إعدام عدنان مندريس عام 1961 كان تخطيطه لتدخل الجيش التركي في العراق لمصلحة حلفاء أنقرة، بينما لم يتردّد إردوغان من احتلال مناطق من سوريا والعراق تحت حجة حماية المصالح التركية.

هي معركة مصيرية لإردوغان، إمّا أن يحفر إسمه بشكلٍ عميقٍ وراسخ في سِجلّ تركيا، وإمّا أن تكون هذه الإنتخابات لحظة أفول نجم الطيّب. ولكي تكتمل الصورة، فإنّ هذه الإنتخابات هي في الوقت نفسه مصيريّة لكمال كليجدار أوغلو، زعيم المعارضة ومرشحها، إمّا أن ينتصر بعد نضالٍ طويل للعودة إلى السلطة، أو ربما، ستكون المرّة الأخيرة التي نراه ونسمع بها عنه

أبرز نقاط قوّة أردوغان الدّاخلية

أن تخوضَ الإنتخابات وأنت على رأس دولة أحكَمْتَ قبضتك عليها خلال عشرين عامًا، وأعدتَ هندسة وتشكيل بُناها الإداريّة والخدماتيّة وفقًا لأهدافك ومصالحك، فهذا يعني أن كلّ بنية الدولة وإمكاناتها وقدراتها مسخّرةٌ لخدمة حملة حزب العدالة والتنمية، لا مجال هنا للتفصيل، لكن لا يكاد يمرّ يومٌ دون أن يفتتح أردوغان مشروعًا، أو أن يضع حجر أساسٍ له: سيارة “TOGG”، حاملة الطائرات المسيرة، المقاتلة الحربية، بدء استخراج الغاز، الخ..

وبعد أن حرّر “العدالة والتنمية” البُنية المؤسساتية التركية من قبضة الجيش والقضاء، بات الجميع يُزايد على رفع سقف الحريّات ودور الناس وتأثيرهم في صناعة القرار. أمّا الأهم والأبرز باعتقادي، فهو تحوّل الخطاب الديني إلى مادة تنافسية بين جميع المكونات والفئات والأحزاب التركية. من كان ليُصدّق أن كمال كليجدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري العلماني الحامل والحامي للفكر الأتاتوركي، يفتتح مسجدًا في إسطنبول، ثم يلقي بعد الإفطار محاضرة دينية عن أهميّة ليلة القدر، وعن أسماء الله الحسنى وبعض معانيها. أمّا ميرال أكشينار، فقد وقفت تُباهي بين جمهورها أنّها امرأةٌ تُصلّي مذ كانت في السابعة من عمرها.

لقد قامت القوميّة التي أرساها أتاتورك على أنقاض الإنتماء الديني الذي أُقصي قهرًا عن الساحة السياسيّة التركيّة، لكنّه ظل يتفاعل بأشكال ووجوه مختلفة، إلى أن استطاع حزب العدالة والتنمية الجمع بين البعدين القومي والديني بطريقة ذكية، فيرفع راية القوميّة عاليًا حيث تدعو الحاجة، وراية الإسلام حين يستدعي الموقف خطابًا دينيًا. في الحقيقة، لا يوجد انقطاع بين مسار الكمالية ومسار الإردوغانيّة، بل يمكن ملاحظة خطٍ مُتعرّجٍ بين النقطتين: في أماكن هناك نقاط تواصل والتقاء، وفي أماكن أخرى هناك نقاط تباعد وافتراق.

إقرأ على موقع 180  هل يُشعِل الديموقراطيون حرباً جديدة؟

العامل الآخر هو إقتصادي ـ إجتماعي، درّة تاج حزب العدالة والتنمية. يكفي أن نرصد الوعود الإقصادية التي يُطلقها إردوغان وخصومه (ميرال أكشينار وعدت برفع الأجور ومعاشات التقاعد؛ أما إردوغان فقد وعد الناخبين بغازٍ مجاني)، لندرك حجم التحوّل الإقتصادي في ظل حزب العدالة والتنمية. خلال 17 عامًا فقط، أي من عام 2002 حتى عام 2019، سجلّت تركيا نموًا بمقدار ثلاثة أضعاف ونصف الضعف، ما جعلها في مصافي الدول العشرين الكبار اقتصاديًا. كما استطاعت تُركيا أن تفتح خطوطًا انتاجيّة في مجال التصنيع العسكري، وهو عنصرٌ حاسمٌ في رفع مستوى استقلاليّة أيّ بلد، إذ يكفي ذكر مُسيّرة “بيرقدار” للإشارة إلى التقدّم الذي وصلته الصناعة العسكرية. أضف إلى ذلك، مسألة التأمين الصحي التي تعتبر واحدة من أعظم إنجازات حزب العدالة والتنمية. المسألة المهمة أيضًا في المجال الإقتصادي والإجتماعي، هو أن حزب العدالة والتنمية أدخل وسط الأناضول، وهي منطقة وازنة، إلى قلب السلطة ومراكزها، بعد أن كانت إلى درجة ما مهمشةً أيّام السيطرة الكماليّة بسبب ميولها الإسلامية، وبالتالي ستسعى تلك المنطقة إلى المحافظة على مكتسباتها وعدم التفريط بها.

معركة إردوغان.. من معه ومن ضده!

ما يجعل هذه الإنتخابات فريدة وغير مسبوقة، هو انقساماتها العامودية والأفقية. ففي هذه الجبهة، يتوحّد الليبرالي مع الإسلامي مع القومي، وفي الجبهة المقابلة، ستجد العلماني واليساري والقومي والكردي ومن يعتبر نفسه أبَ الإسلام السياسي. في هذه الإنتخابات ستحتاج إلى المزيد من المراقبة والمتابعة، كي تفهم طبيعة ونوعيّة الإصطفافات، لكن لو شئنا تبسيط القضية بكثير من الواقعية والتسامح في آنٍ معًا، لقلنا أنّ هذه المعركة يمكن اختصارها بالتالي: ما يجمع المعسكرين هو إردوغان، هنا من أجل تثبيته، وهناك من أجل خلعه.

إذًا هي معركة مصيرية لإردوغان، إمّا أن يحفر إسمه ومشروعه بشكلٍ عميقٍ وراسخ في سِجلّ تركيا، وإمّا أن تكون هذه الإنتخابات لحظة أفول نجم الطيّب. ولكي تكتمل الصورة أكثر، فإنّ هذه الإنتخابات هي في الوقت نفسه مصيريّة لكمال كليجدار أوغلو، زعيم المعارضة ومرشحها، إمّا أن ينتصر بعد نضالٍ طويل للعودة إلى السلطة، أو ربما، ستكون المرّة الأخيرة التي نراه ونسمع بها عنه. إنها انتخابات مصيريّة بين الأتاتوركية والإردوغانية.. والدرسُ التركي يشي بأنّ هذا البلد قابليته عالية على التغيّر والتبدّل والإنقلابات والزلازل على أنواعها.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  أيها الغربيون.. ألا تخجلون من معاييركم؟