هل عقوبة الإعدام عادلة حقاً (2/2)؟

لا تزال عقوبة الاعدام محل الدراسة تواجهُ تبايناً شديداً في الآراء، تتداخل في تضاعيف الاختلاف والاتفاق مستويات عدّة. والحال أنّ هذا التباين ليس ظرفياً أو محلياً أو مقتصراً على تخوم المكان وشروط اجتماعه المحلّي والأهلي، بل ثمة تضاربٌ عالميّ على مستويات اجتماعيّة مختلفة حول سؤالين هامين يتعلّقان بمفهوم العقوبة في حدّ ذاتها: شرعيّة التنصيص، وجدوى التنفيذ.

قدّم د. محمد حبش دراسة وافية نشرتها جامعة أوسلو (تمّ تعريبها لاحقاً ونشرها في كتاب تحت عنوان “أساليب الشريعة في مناهضة عقوبة الإعدام”) قدّم فيها طرحاً شجاعاً حاول من خلاله دفع التعارض بين إلغاء عقوبة الاعدام وأحكام الشريعة الاسلاميّة. وطّأ حبش بكثير من الرغبة في الانتصار إلى العقل النقدي من دون تقديم تنازلات دينيّة لمطلب الإلغاء من دون التحسّس من تكاليف هذا التعارض. الأمر الذي ساهمَ في تشجيع جمعيّات حقوقيّة على السير قُدماً في مطالب الالغاء في وقتٍ لاحق.
هنالك منظمات عربيّة جاهرت بضرورة إلغاء العقوبة: ففي 10 كانون أول/ديسمبر 1990 أعلنت خمس جمعيّات حقوقيّة مغربيّة مطلبها الوضح بضرورة الإلغاء، ونصّصت على ذلك في ميثاق رسميّ حرّرته الجمعيّات التاليّة الذكر في التاريخ المذكور. هذه الجمعيات هي: جمعيّة هيئات المحاميين، جمعيّة الحقوقيين المغاربة، العصبة المغربيّة لحقوق الإنسان، المنظمة المغربيّة لحقوق الإنسان والمرصد المغربي لحقوق الإنسان. يعتبر هذا الزخم الحقوقي الجمعوي المغربي هو أكبر تكتّل عربي في بلدٍ واحدة وفي سنة واحدة وبصيغة واحدة في ميثاق واحد.

***

ما أشعل النقاش حول عقوبة الإعدام في الجزائر هو واقعة إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين سنة 2006، أيّ أنّ الدولة بتجميدها للعقوبة سنة 1993 (آخر تنفيذ لها) كانت سابقة على النقاش حول جدوى العقوبة، الأمر الذي يعكس رثاثة الجمعيّات الحقوقيّة في هذا البلد ونقص شجاعتها في التعبير عن مطالبها، فضلاً عن ضبابيّة الرؤية تجاه العقوبة وضعف الحجج وتذبذب البراهين في الدفاع عن ضرورة الإلغاء بدلاً عن التجميد.

هل نحن نعاقب الجاني حتى ننتقم منهُ ونحدث به ألماً حتى يشعر بنفس الألم الذي أحدثه في ضحاياه، كما تعتقد بعض المجتمعات والأديان؟ أمّ أنّنا نعاقب المجرم حتى نعيد تأهيله وتحويله من شخص سيّء وعالة أخلاقيّة ضارّة على المجتمع السويّ إلى فرد منتجٍ وصالح ومساهم في بناء الحياة داخل الكيان الاجتماعي؟

في لبنان، وبرغم هامش حريّة التعبير المتاح مقايسةً بجيرانه (الحريّة في لبنان تشبه منطق حسني مبارك في الألفينات أيام “حركة كفاية”: “خلّوهم يتسلّوا”. وفي رواية أكثر بلاغةً تُنسب لرئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزوري: “انتو قولو لي انتو عوزينو والحكومة تعمل لي هي عوزاه”)، إلا أنّ المجموعات الحقوقيّة تبدو ضعيفة جداً، بسبب اختلاط القانون بالسياسة وتداخل النضال الحقوقي بالعمل السياسي، ولأنّ الكثير من القانونيين في لبنان أراءهم السياسيّة تستحوذ على اهتماماتهم الحقوقيّة، فإنّهم ـ كأفراد ـ يتمظهرون أكاديمياً في شكلٍ مستقل وجذّاب ولكن بمجرد انخراطهم في جماعاتٍ وتكتّلات وعُصبٍ وزُمر؛ يتحوّلون إلى مشروع ساسة أو (في الغالب الأعمّ) إلى مشعوذين!

***

يتمسّك الحقوقيون عادةً بسؤال الجدوى من التنفيذ أكثر ممّا يتمسكون بسؤال الشرعيّة الدينيّة. والحقّ أنّ مردّ هذا التداخل المُكلّف يعود إلى الحسم الكسول الذي (لم يـ) حصل حول الغاية من العقوبة في حدّ ذاتها؛ فهل نحن إزاء هدف واضح ومعلن من العقوبة بحيث نُحدِّد المغزى منها؛ أم نحن نعتقد بأنّ العقوبة مجرد جزاء تفرضها السلطة العامة وفقاً لتوليفة بديهيّة: العقوبة على السوء تقابله المكافأة على الحسن!
لماذا نُعاقب المجرم أساساً؟
هل نحن نعاقب الجاني حتى ننتقم منهُ ونحدث به ألماً حتى يشعر بنفس الألم الذي أحدثه في ضحاياه، كما تعتقد بعض المجتمعات والأديان؟ أمّ أنّنا نعاقب المجرم حتى نعيد تأهيله وتحويله من شخص سيّء وعالة أخلاقيّة ضارّة على المجتمع السويّ إلى فرد منتجٍ وصالح ومساهم في بناء الحياة داخل الكيان الاجتماعي؟
الحقوقيون المتحرّرون من التفكير النمطي لمجتمعاتهم اختاروا القسم الثاني من الافتراض/ السؤال: ذلك أنّهم ينظرون في الجرائم التي ترتكب من خلال الظروف التي تصاحب الفعل الجرمي. فيما يعتقد التقليديّون بأنّ الحقوقيين إذ يذهبون إلى ما ذهبوا إليه إنّما هم بذلك، عن قصدٍ أو من دونه، يهملون الضحيّة ويقفزون عن معاناتها. هل بهذا التصوّر نقايض اهتمامنا بالضحيّة وهو واجب وضرورة بتحويل الجاني إلى ضحيّة أخرى؟
ينبغي فهم التالي: في القانون، يجب أنّ تكون العقوبة متناسبة تماماً مع حجم الفعل المرتكب. هذه القاعدة ليست قاصرة على القانون فحسب، فقد كرّستها الأديان أوّل الأمر بغض النظر عن تغليظ العقوبة أو تحجيم الذنب. ولم تكن عادلة في التاريخ البعيد، ففي شريعة حمورابي على سبيل المثال: عندما يُقدم شخص على قتل طفلة/ طفل شخص ما، يحكم القاضي بموجب هذه الشريعة بالمثل، أيّ قتل ابن/ ابنة الجاني. في الظاهر المجرّد، يبدو هنالك تساوٍ بين ندّين في مركزين عاطفيين واجتماعيين متوازيين، بيد أنّهم خلقوا بذلك ضحيّة أخرى توازي الضحيّة الأولى في المكانة، بقصد الوصول إلى نوعٍ من التكافؤ الظاهري من خلال “تنسيخ” الضرّر الحاصل بين الاثنين. ليس هذا عدل بالتأكيد، لكن بالمنطق الآلي الذي يتصوّره الآخرون من غير الحقوقيين هذا الجزاء الأوفى ولو شنّعوهُ من دون أن ينتبهوا بأنّ رؤيتهم للعقوبة تقود إلى هذا المنطق بالضرورة.
الغرض من العقوبة ليس تطهيرياً يهدف إلى تخليص الجاني من أبعاد لاهوتيّة للفعل الجُرمي، هذه أشياء عقائديّة يختلف البشر في تقييمها، والقانون إذ يفرض العقوبة لا يمكن أن يخضع لأهواء الناس في تقييم اللاهوتيّات، لذلك حسمَ العقوبة يكون دنيوياً بحسب الجُرم عن طريق الاستعانة بالتعديل المتواصل لنصوص العقوبة بحسب الظروف المجتمعيّة التي تقتضي نوعاً من المرونة. وفي الوقت نفسه، يجب النظر إلى الظروف المخففة أو المشدّدة للزمن والبيئة التي جرى فيها اقتراف الجرم. خذّ مثلاً الجزاءات التي تُوقّع ضد المجرمين في الحالات الطارئة (سرقة في زلزال، الاحتكار في وقت العُسر، والتلاعب بالأسعار في زمن الحروب..) لا تتوازى في غِلظتها وتشدّدها مع نفس الجرائم لو ارتكبت في زمن اليُسر وأثناء الظروف العاديّة.
إنّ العقوبة في غايتها هي تأنيب قاسٍ للمقترف بسبب خرقهِ للطبيعة المنطقيّة لسيطرة العقل على أنماط العيش. الجريمة هي خرقٌ كبير في تنظيم العقل (يسميّه الأصوليون: مناط التكليف) لشؤون الحياة بشكل عام.
هل الحلّ لإيقاف القتل، أنّ تعمد إلى قتل القاتل بعدما يفرغ من قتله ضحيّته! ألا تبدو الصورة لو حدثت أمام ناظريّنا نوعاً من التزاوج الفعليّ لا تختلف فيه الجهتان عن بعضهما البعض؟

إقرأ على موقع 180  ميقاتي إنْ كُلّفَ: التأليف قبل التكليف.. وإلا سيناريو الحريري!

***

إنّ الدول التي ما تزال تطبّق عقوبة الاعدام لم تقلّ فيها نسبة الجرائم البتة؛ لقد سجلت مدينة ممفيس (ولاية تينيسي)، ثالث أكبر المُدن الأميركيّة، أكبر عدد من جرائم القتل 2352 جريمة قتل لكل 100 ألف نسمة في العام الماضي (2022)، برغم أنّها تُطبّق الإعدام. تاريخياً ألغت تينيسي عقوبة الإعدام في عام 1915 وأعادتها في عام 1939، ثم استعادتها بالكامل بلا شروط بعد فورمان في عام 1974. وبرغم أنّ ولاية تينيسي ولاية جمهوريّة إلا أنّ موسيقى الريف (Country Music) فيها من أجمل أنماط الموسيقى العالميّة لكن هذه الرهافة لم تنتج ثمارها في السلوك البشري. تعجّ هذه الولاية بالبيض المتعصّبين وجلّ القاطنين فيها من المزارعين العنصريين والمسلّحين (ابن خلدون يعتبر أنّ المزارعين يبنون الحضارة. بدأ الانسان يفكّر عندما بدأ يتعلم كيف يزرع)، ووصل التعصّب إلى درجة أنّ الشرطة ألقت القبض على مجموعة متشدّدة وصفت نفسها بـ”النازيّة” كانت تخطط لاغتيال المرشح الرئاسي وقتذاك باراك أوباما قبل أسبوع في بداية الانتخابات الرئاسيّة.

***

قد نواجه أيّ قاضٍ ينطق بعقوبة الاعدام بالسؤال التالي: أيّهما تفضّل لراحة ضميرك؛ أن تحكم بالخطأ على مذنب بالقتل، بالسجن بدلاً من الإعدام، أو تحكم بالإعدام على بريّء من جرم القتل بدلاً من السجن

لم يثبت أنّ عقوبة الإعدام حدّت من جرائم القتل كما لم يثبت أنّ إلغاءها قد ساهم في ازديادها. لقد دفعُ كلُّ من Walter Laqueur وBarry Rubin بالكثير من الشواهد والأدلة المسحيّة حول انعدام الشواهد القويّة والمقنعة لأثر الإلغاء أو الاستمرار في تنفيذ العقوبة على انتشار أو انحسار وقوع الجرائم المقترنة بالحكم السالب لـ الحق في الحياة في دراستهما الشهيرة. Anthologie des droits de l’homme /textes réu.
يذُكر أنّ ولاية تكساس الأميركيّة تشهد جرائم قتل كثيرة متواصلة برغم سريان العقوبة؛ لقد رُفعت قضية على مستوى إحدى محاكمها تطالب بإيقاف الإعدام سنة 1976، لكن باءت بالفشل كما هو متوقّع حتى في ذلك الزمن. كان جورج بوش الابن يترأس جلسات الاعدام بنفسه، وشهدت فترته (1995-2000) أعلى حالات الإعدام في تاريخ الولاية بمعدل إعدام كل 4 أيام. عبّر كارلسون المؤيّد للعقوبة في CNN عن ذهوله الشديد عندما شاهد بوش يقلّد سجينة ترجوه وهو العمدة للولاية تأجيل الحكم متضرّعة بالقول: “أرجوك أيها العمدة لا تقتلني في هذا اليوم”. قام بوش بزمّ شفتيّه وتحريكهما متشبّهاً بارتعاش المرأة. (ذكرها ريتشارد دوكنز في The God Delusion، الفصل الأخير).

***

هنالك مشكلة أخرى في مسألة الحكم بالإعدام غاية في الأهمية، وهي استحالة مراجعة الحكم بعد تنفيذه. وتعدّ قصة تيموثي إيفانز من أشهر القصص في بريطانيا (1966) التي جعلت الحكومة تلغي العقوبة بعدما نما إليها وإلى البريطانيين والعالم من بعدهم براءة تيموثي من جرائم القتل التي ساهم حظّه العاثر في تسلسل الشواهد والقرائن ضده. وفي الهند تمّت تبرئة 166 شخصاً أدينوا خطأ وحكم عليهم بالإعدام في عام واحد فقط! وغير هذه الشواهد هنالك قصص كثيرة.
قصارى القول قد نواجه أيّ قاضٍ ينطق بعقوبة الاعدام بالسؤال التالي: أيّهما تفضّل لراحة ضميرك؛ أن تحكم بالخطأ على مذنب بالقتل، بالسجن بدلاً من الإعدام، أو تحكم بالإعدام على بريّء من جرم القتل بدلاً من السجن؟

(*) راجع الجزء الأول: قراءة في تقرير “أمنستي” حول عقوبة الإعدام

Print Friendly, PDF & Email
ضيف حمزة ضيف

كاتب وصحافي جزائري

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  ميقاتي إنْ كُلّفَ: التأليف قبل التكليف.. وإلا سيناريو الحريري!