الدول العربية الهشة.. بين المظالم والمطامع!

ما زال لبنان ينتظر توافقات إقليميّة ودوليّة كي يتمّ انتخاب رئيسٍ له وتشكيل حكومةٍ وتعيين حاكمٍ لمصرفه المركزي. وهذا يلقي بالتأكيد إضاءات على العلاقات بين الداخل والخارج عندما تتداعى الدولة كمؤسّسة. هكذا تزداد تدخّلات الخارج بشكلٍ كبير عندما تصبح الدولة "هشّة"، أساساً على خلفيّة تداعي الروابط بين مجتمع البلد والسلطة التي تدير دولته.

هذا الأمر ليس حكراً على البلدان ذات النظام “البرلماني”، حيث يتدخّل الخارج عبر دعم قوى سياسيّة معيّنة وتمويل أحزاب ومجموعات ضغط “وجمعيّات مدنيّة”، تجعل النجاح صعباً في الانتخابات على من لا يمتلك قدرة توزيع منافع ومال انتخابي، أو لا يرغب في الخوض فيها. ومثال تونس بُعَيدَ “ثورتها” جليٌّ على هذا الصعيد. لكن ليس أقلّ سواداً وضع البلدان التي تدخُل في صراعات أهليّة من جرّاء “الاستبداد” وانهيار علاقة المجتمع مع السلطة كليّاً، حيث تتدخّل دولٌ مختلفة في هذا الصراع الداخلي، بالمال و/أو السلاح و/أو المساعدات و/أو العقوبات. وما يولّد ديناميّة نفوذ في هذه البلدان. كي يضحي الخروج من الصراع، كما كان الدخول فيه، مسرحاً للتنافس بين هذه الدول الخارجيّة التي يبحث كلٌّ منها عن “عائدٍ على استثماره”، بصورة نفوذ على المدى البعيد.

إنّ غياب الحلّ لمثل هذا التنافس، حلٌّ تغطّيه الأمم المتحدة عبر آليّاتها، يُبقي الاستعصاء طويلاً كما هو الحال في ليبيا وسوريا واليمن. أمّا في حالة السودان اليوم فما زال التنافس يجد ترجمته بمعاركٍ مفتوحة على حساب المجتمع والبلاد.

ولكن ليس الخروج من الاستعصاء “السياسيّ” سهلاً حتّى حين يتوقّف الصراع المسلّح. إذ سيدعم اللاعبون الخارجيون قوى وأحزاباً وشخصيّات سياسيّة باعتبارها أقطاب لنفوذهم على الصعيد المحليّ. ولا تستعيد الدولة دورها وعملها إلاّ إذا كان هناك منتصِر بين هذه القوى الخارجيّة أو حصل على الأقلّ توازنٌ في التنافس الخارجيّ يسمح بإنهاء الاستعصاء. هكذا كان دور المرحوم رفيق الحريري على صعيد خروج لبنان من حربه الأهليّة. وفي ظلّ توافقٍ إقليميّ ودولي واسع نظراً لتاريخه الشخصيّ، ليس في الخارج بل أصلاً وخاصّةً على الصعيد المحليّ. لكنّه بالمقابل هو الذي وضع أسس توافق “أمراء الحرب”، الذين يلقى كلٌّ منهم الدعم من خارجٍ معيّن، على نهب البلاد. وما أخذ في النهاية إلى الانهيار المالي الحالي. واليوم هناك كثرٌ يحلمون في ليبيا وسوريا واليمن بدورٍ كدوره لما بعد الصراع والاستعصاء في بلادهم.

على السلطة التي ستخرج البلاد من الفوضى والاستعصاء أن تترفّع عن منطق الصراعات الداخليّة وتتعامل بحكمة مع المظالم.. كما المطامع. لا كي تبقى سلطة “للأبد” بل كي تعود للدولة ولمؤسساتها ذات القدرة

وفي البلدان العربيّة التي أضحت “هشّة” منذ تفجّر “الربيع العربيّ”، من الواضح أن استمرار الصراع أو الاستعصاء طويلاً يدلّ على تعذُّر نجاح منتصِرٍ خارجيّ عبر قوّةٍ محليّة. وبالتالي، نهايات الصراعات والاستعصاءات، عبر توافقاتٍ خارجيّة، تنتظر تغيّرات ملحوظة في اللعبة الإقليميّة والدوليّة، أو بدقّةٍ أكثر تغيّرات متتابعة.

حدث التغيّر الأوّل في خروج روسيا عن “حيادها” حيال صراعات المنطقة بعد تفجّر ليبيا وانخراطها مباشرةً وعسكريّاً في الصراع السوري. ثمّ جاء تحوّل الدور التركي من التنسيق الفاعل مع الدول الأوروبيّة والولايات المتحدة إلى تنافسٍ معها وتنسيقٍ أكبر مع روسيا وإيران. وذلك برغم تواجدها في حلف الأطلسي. ثمّ جاء التغيُّر الأهمّ حديثاً عبر الاتفاق السعوديّ-الإيراني برعايةٍ صينيّة. ولا تنبغي الاستهانة بهذا التحوّل الأخير، إذ أنّه يُقوَض في جوهره آليةً رافقت “فوضى” دول المتوسّط العربيّة لدفع اتفاقيات “أبراهام” نحو تطبيع العلاقات الرسميّة بين الدول العربيّة الخليجيّة وإسرائيل، كي ينتهي الأمر بالسعودية ذاتها. كذلك يضع هذا التحوّل الأخير أسس إنهاء الصراع المزعوم (السنيّ-الشيعيّ) الذي أخذ المنطقة إلى الدمار.

واضحٌ أنّ هذه التغيّرات لم تساهم فقط في القضاء على “فوضى الدولة الإسلاميّة” بل إنّها خلقت عناصر لإمكانيّة إنهاء “فوضى” الصراعات والاستعصاءات. مع ذلك ما تزال هناك معوّقات على صعيد اللعبة الإقليميّة والدوليّة أمام هذه الإمكانيّة. فهناك دولٌ تعتبر نفسها لاعبة بحجم اللاعبين المذكورين أعلاه ولا تجد “عائداً على استثمارها” في الصراعات والاستعصاءات القائمة. ليس أقلّها أهميّةً بالتحديد.. إسرائيل.

إنّ القائمين على السلطة في إسرائيل يواجهون مشاكل “داخليّة” خانقة، سواءً بين مستوطنيها القدماء الذين يبحثون عن الرخاء وأولئك الجدُد المتطرّفين الذين يتطلّعون إلى نهاية التاريخ، أو بين هؤلاء وأولئك والفلسطينيين في أراضي 1948 أو الضفّة والقطاع. وتجتاح هذه السلطة دوريّاً الرغبة في التغطية على صراعاتها الداخليّة عبر عمليّات قصفٍ أو اغتيالٍ هنا أو هناك، أو حتّى بالذهاب نحو مغامرة حربٍ مع الجوار، وخلق وهمٍ بالقوّة والانتصار. وذلك خاصّةً إذا ما بدا أنّ هناك بوادر إنهاء “الفوضى” في هذا الجوار. فوضى كانت إسرائيل هي أكبر المستفيدين منها، خاصّةً إذا استمرّت الهشاشة في تعميق نخرها في سوريا والعراق وغيرهما.

لا بدّ من عودة الدول المعنيّة إلى دورٍ قادرٍ في ترسيخ العدالة والقانون بين مواطنيها، أي إخراج مجتمعها من الفوضى، وأن تستثمر التوافقات الخارجيّة لوضع حدودٍ لنفوذ “الخارج” في أمورها

بالتأكيد ليست إسرائيل هي الوحيدة التي لا تجد “عائداً على استثمارها” في “الفوضى” بل هناك أيضاً دولٌ أخرى إقليميّة وكبرى، تعمل تحت غطاء استخدام وسائل.. “القوّة الناعمة”.

إقرأ على موقع 180  فورين أفيرز: عُمران خان "أكبر تهديد للجيش الباكستاني"!  

في المحصّلة، تبقى الإشكاليّة الأساسيّة في خروج الدول “الهشّة” من هشاشتها، وإعادة بناء مؤسّساتها واللُحمة والثقة بينها وبين مجتمعها، هي، أي الإشكاليّة، ذات طبيعة داخليّة. أي لا بدّ من عودة الدول المعنيّة إلى دورٍ قادرٍ في ترسيخ العدالة والقانون بين مواطنيها، أي إخراج مجتمعها من الفوضى، وأن تستثمر التوافقات الخارجيّة لوضع حدودٍ لنفوذ “الخارج” في أمورها.

هذا الأمر ليس سهلاً ولا يُمكِن أن يأتي بلحظة، خاصّةً في بلدانٍ حافظت تاريخيّاً على تنوّع هويّات في مجتمعاتها، وما يشكّل في الواقع سبيلاً لنفوذ الخارج، اليوم كما في زمن الاستعمار المباشر القديم. وما يعني أنّ على السلطة التي ستخرج البلاد من الفوضى والاستعصاء أن تترفّع عن منطق الصراعات الداخليّة وتتعامل بحكمة مع المظالم.. كما المطامع. لا كي تبقى سلطة “للأبد” بل كي تعود للدولة ولمؤسساتها ذات القدرة. والتعامل بحكمة لا يعني استخدام القوّة والاستقواء بخارجٍ ما. كذلك على هذه السلطة أن تتعامل بحكمة مع الخارج، بحيث تبني على التوافقات وتعالج المعوّقات. بناءً على أنّ جميع قوى الخارج لا تعمل “لترسيخ الديمقراطيّة” أو “لدرء المؤامرات”.. بل لمصالحها. هي جميعها جزءٌ من المشكلة كما جزءٌ من الحلّ. هذا في ظلّ ظروف صعبة من تعدّد الأقطاب الإقليميّة والدوليّة وصراعات عالميّة مفتوحة ونفوذٍ كبير لدولٍ فاعلة لا مصلحة لها واقعيّاً وأساساً سوى في استمرار الفوضى.

يتنطّح كثيرون للقيام بهذا الدور، سواءٌ أكانوا من ورثة سلطة ما قبل الصراع أو ممّن أفرز الصراع والفوضى أدوارهم. لكن السؤال الأساس يبقى أنّه إذا كان بين الذين يتنطّحون لهذه المهمّة من يتمتّع بالحكمة اللازمة للتعامل مع المظالم والأطماع الداخليّة وفي الوقت نفسه مع “لعبة الأمم” الإقليميّة والدوليّة. لا لمكاسب شخصيّة، لأنّها مهمّة خطرة وصعبة، بل من أجل مجتمعهم وبلادهم.. وفي النهاية من أجل ترسيخ الدولة التي ستقود البلاد والعباد إلى برّ الأمان.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  فورين أفيرز: عُمران خان "أكبر تهديد للجيش الباكستاني"!