مشاهدات من إسطنبول.. أسئلة ما بعد الإنتخابات وإردوغان!

ليس من المبالغة القول إنّ احتفالات فوز "غالطا سراي" ببطولة الدوري التركي بكرة القدم، هنا في حي "شيشلي" في اسطنبول، تفوّقت على احتفالات أنصار الرئيس رجب طيب إردوغان بفوزه في الإنتخابات الرئاسية. فلنفترض، وهي فرضيّة ممكنة، أنّ اسطنبول التي انقسمت بشكلٍ حادٍ وعامودي في الإنتخابات، عادت لتتوحّد خلف ناديها العريق اليوم، ولعلّها من المرّات النادرة التي يجتمع فيها إردوغان وكمال كليتشدار أوغلو على تهنئةٍ هذا النادي على إنجازه الكبير.

هذا مدخلٌ للتأكيد على ما كنت أعتقده، وهو أنّه مهما أتت نتائج الإنتخابات، فإنّ تركيا كانت ستظلّ بمأمنٍ عن أيّ اهتزازٍ يُهدّد استقرارها، وذلك انطلاقًا من نقطتين أساسيّتين: الأولى، أيُّ اصطدامٍ داخليّ يحتاج إلى أطراف خارجيّة تُغذّيه، خاصّة للذين هم خارج السّلطة، وهذا يُحيلنا مرّة جديدة إلى موقع ودور تركيا في المنطقة والإقليم. دورٌ هجينٌ ومركّبٌ يحتاج له الجميع، تحديدًا المتضادين، كموسكو وكييف، مثلًا.

والثانيّة، يأس الجماهير من قدرتها على التغيير بطريقةٍ سلميّة وديموقراطيّة، وفقدانها لهويّة (أو نواة هويّة) جامعة لكلّ مكونات الأمّة، وهما على النقيض تمامًا ممّا يشعر به الأتراك هذه الأيّام. فنسبة التصويت المرتفعة جدًا في كلا الدورتين، تعكس ثقة كلّ فردٍ بقدرته على التأثير في مجرى السلطة والأحداث في بلده. أمّا الأهم، فهو الإنتماء “المتطرّف” والحاد للفرد التركي لوطنه، أمرٌ لن يتفهم أسبابه المراقب إلّا بعد أن يزور منطقة “السلطان أحمد” و”الباب العالي” (TopKapi) هنا في إسطنبول، أو، أن يكون متواجدًا في نفس اليوم والّلحظة التي توفي فيها مصطفى كمال أتاتورك، ليشاهد ردّة فعل الأتراك من كلّ الأطياف والإتجاهات السياسيّة.

مشاهدات زائر

يمكن اختصار مشاهدات ما قبل الإنتخابات بأنّ الدولة قويّةٌ وحازمةٌ وقادرةٌ. هناك انتخابات هي الأشدّ انقسامًا والأكثر تحشيدًا والأعلى مشاركةً في تاريخ تركيا، ومع ذلك، أنت كزائرٍ لهذه الدولة، لا تشعر في كلّ هذا الحدث، إلّا في حال قرّرت أنت أن تنخرط فيه.

الحياةُ نهار بدء الإقتراع، حيث قرّرنا أن نقوم بجولةٍ سياحيّة، تسير بكلّ هدوءٍ وتنظيمٍ كالمعتاد، إذ توجهنا إلى الجزء الآسيوي من إسطنبول، ذهابًا عبر البحر إلى منطقة إسكودار، حيث يقترع الرئيس إردوغان (ولولا استعجالنا كان من الممكن أن نشاهده حين أتى للإنتخاب)، ثم العودة من خلال قطارٍ يعبر تحت المضيق إلى إسطنبول الأوروبيّة من جديد. بإمكانك تلَمُّس الفارق بين الجهتين، حيث تبدو إسكودار أكثر محافظة من الجانب الأوروبي.

ثمّ أكملنا إلى مركز إقامة سلاطين الدولة العثمانية في “طوب كابي” لأربعة قرون، من عام 1465 وحتى 1856م، أي العام الذي انتقل فيه السلطان عبد المجيد الأول إلى قصره الجديد “دولمه باهتشه”. زيارة استغرقت أكثر من خمس ساعات، للتجوّل والتعرّف على مقرّ السلطة لواحدةٍ من أعظم الإمبراطوريّات التي حكمت جزءًا كبيرًا من العالم، تَتَنقل بين الحدائق والغرف التي سكنها السّلاطين، غرف النوم واستقبال السفراء والموفدين، والإحتفالات حيث كانت تُقام في مراسم تعيين وليّ العهد، أو الإحتفال بمولودٍ جديد، والأكثر تشويقًا، قسم الحرملك (مكان إقامة أمّهات وزوجات وجواري السلاطين) الذي كان مُحرّمًا على أيّ رجلٍ الوصول إليه، باستثناء السلطان وعائلته، وعددٍ من الخدم المخصيّين.

استرحنا بعدها في “مسجد آيا صوفيا” (التسمية الرسمية)، لكن دون أن تستريح مخيّلتي مع كلّ هذا المخزون الذي قرأته عن فتح القسطنطينيّة وسقوط الكنيسة درّة الإمبراطوريّة البيزنطية، فظلّت المخيّلة تعمل: كيف وأين تجمعت الجيوش العثمانية؟ ومن أين بدأ الهجوم؟ وكيف ولماذا سقطت أخيرًا؟ بكل الأحوال هذا حديث يحتاج إلى مقالٍ منفصل، لكن مع كلّ ذلك، لم نرَ مركزًا اقتراعيًا واحدًا، أو أيّ مظهر إنتخابي.

عودةٌ للإنتخابات

أخيرًا توّقف قطار مفاجآت الإنتخابات التركيّة، ليلة التاسع والعشرين من أيّار/مايو. كان يكفي الرئيس إردوغان أن يحوز على نصف نقطةٍ كي يُصبح من جديد الرئيس الثاني عشر لتركيا، بينما كان منافسه بحاجة إلى خمس نقاط. إذًا تغلّبت الإحتمالات المنطقيّة وفاز إردوغان، لكن ماذا خلف هذا الفوز؟

هي المرّة الأولى منذ وصوله للسلطة التي يشعر بها حزب العدالة والتنمية تحت قيادة إردوغان بمنافسة حقيقية، وهي المرّة الأولى كذلك التي يحتاج فيها إلى جولةٍ ثانية، لكنّه في النهاية حسم هذا الصرّاع من جديد لصالحه. مجموعة من التحديات الكبيرة التي واجهته، بدءًا من تراجع الأداء الإقتصادي وزيادة التضخم، مرورًا بالزلزال الأخير الذي ضرب تركيا، وصولًا إلى الإنقسام الدولي بسبب الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وحنق الغربيين عليه بسبب موقفه البراغماتي من هذه الحرب.

تؤشّر الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة إلى تغيّرٍ في مزاج النّاخبين، يُظهر تقدّم وصعود التيار القومي، وتحوّله إلى القوة الحاسمة على صعيد الأغلبية. هذا التحوّل أعطى ثقلًا وازنًا للقوميين على الساحة السياسيّة، وبدا قادته وكأنّ بيدهم قرار حسم النتائج، وهذه في الحقيقة مسألة تحتاج إلى التدقيق. فكثرة توالد الأحزاب القوميّة من رحم بعضها البعض، وتشتت أصوات جمهورها، يجعلها في موقف المُستعطي أمام التيارين الكبيرين على الساحة التركية، أي حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري. ولو أن الزعماء القوميّين توحدّوا في ما بينهم، وأنشأوا تحالفًا مشتركًا، لكنّا أغلب الظن، أمام مشهد إنتخابي مختلفٍ تمامًا.

إقرأ على موقع 180  "من شارع الهرم إلى.." تبرئة الخليج العربي!

في انتخابات الإعادة لم يكن أمام التحالفين المتنافسين من خطاب يستعملانه، بعدما استنفدا كلّ وعودهما الإنتخابيّة في الجولة الأولى، سوى الخطاب الشعبويّ. والمادّة الرئيسة لهذين الخطابين هما الأكراد والنزوح السوري، أيّ أعقد مسألتين تهدّدان الإستقرار الداخلي، وهما أكثر قضيتين تحتاجان إلى مقاربةٍ بعيدةٍ عن الإنفعال والإعلام، لكنّ احتدام السباق جعل استعمال جميع الأسلحة مباحًا، وهو ما قد يترك أثرًا للمرحلة القادمة فيما لو لم تقارب السلطة، كونها مالكة السلطة والقرار، الموضوعين بعناية وحكمة.

ما بعد النتائج

لنبدأ بحزب العدالة والتنمية. مجموعة من التحديات الكبيرة تنتظره، وهو بات يُدرك بأن إمكانيّة الخروج من السلطة أصبحت جديّة وواقعيّة، ولأجل ذلك سيعمل خلال السنوات القادمة على فكفكة العقد التي ساهمت بتآكل شعبيّته.

أوّلًا؛ سيحاول حزب العدالة تخفيض منسوب الإستقطاب السياسي الحاد، من خلال توسيع حجم مظلّته لتسع الكماليين، خاصّة الشباب منهم، إلى جانب الإسلاميّين والقوميين والّليبراليّين، وقد ظهرت أولى بوادره يوم الفوز بالإنتخابات، حيث تدلّت صورة كبيرةٌ لأتاتورك من على شرفات القصر الجمهوري، ما شكّل مفاجأة للصحفيين المقربين من المعارضة.

ثانيًا؛ لن يتأخر إردوغان بالسعي لإيجاد حلول للأزمة الإقتصاديّة وسبل السيطرة عليها، معتمدًا على القوّة الذاتيّة التي باتت تمتلكها تركيا، إضافةً إلى قدرته على المناورة تجاه شركاء اقتصاديين متعددين. فهمُ إردوغان للخللِ الذي أصاب موازين القوى العالمي، سمح له بالمناورة خارج عباءة واشنطن، ليستفيد من خصومها، لكن من دون أن يخسرها. وفي السياق نفسه، سيكون تحدي إعادة إعمار المناطق التي ضربها الزلزال محلّ اختبارٍ للوعود التي قطعها، خاصّة أنّ هذه المناطق تحديدًا، كانت أهمّ سببٍ لفوزه.

ثالثًا؛ سيبدأ إردوغان التأسيس لما بعد مرحلة قيادته، وهي مسألة دقيقةٌ ومعقدةٌ. وباعتقادي أنّه من الآن وحتى حلول الإنتخابات القادمة، سيكون حزب العدالة والتنمية قد أصبح قادرًا على الإستمرار من دون أن يكون إردوغان على رأسه.

أما بالنسبة إلى حزب الشّعب الجمهوري، فإنّ التحديات التي تنتظره ليست صغيرة ولا بسيطة، بل يمكن القول بأنّها معقدة ومصيريّة.

أولاً؛ لا يمكن إنكار ما أنجزه كليتشدار لحزب الشعب، فهو استطاع المحافظة على حزبه في أوج قوّة إردوغان الداخليّة والخارجيّة، خاصّة بعد الإنقلاب الفاشل والذي أدّى إلى إزاحة خصوم العدالة والتنميّة بكلّ قسوةٍ وحزم.

ثانيًا؛ استطاع للمرّة الأولى في تاريخ التحالفات السياسيّة التركيّة جمع هذه المروحة الواسعة من التيارات تحت عباءة حزب الشعب، من اليساريّين إلى العلمانيين والقوميين والإسلاميين والّليبراليّين والأكراد، حتى لو قيل بأنّه تحالفٌ مليء بالتناقضات، فإنّ ذلك يزيد من عظمة الإنجاز وليس العكس.

ثالثًا؛ لقد استطاع في الإنتخابات الأخيرة، وبرغم صعود أحزابٍ وليدةٍ على أكتافه، من أن يزيد حصّته في البرلمان، وكذلك نسبة التصويت له، وهي نسبةٌ لم يستطع الزعيم التاريخي الرّاحل بولنت أجاويد الحصول عليها.

لكن مع ذلك، تبقى الخسارة خسارة، ويبقى لها ثمنٌ وتبعات. عُمرُ كليتشدار لم يعد يساعده على الإستمرار في المنافسة. الرجل يبلغ 75 سنة من العمر، وهو يعلم أنّ فرصته بعد خمس سنوات شبه معدومة، خاصةً مع رجلٍ رفع راية التغيير والشباب، وهو لذلك سيسعى للخروج بطريقةٍ مشرّفةٍ بدل الإستقالة وكأنّه السبب في الخسارة. هناك طامحون لوراثته، لو بقي محرّم إينجه لكان مرشّحًا للخلافة، لكنّه خرج وبات اليوم شديد البعد عن حزب الشعب، خاصّة أنّ انسحابه وما تلاه من مواقف، أضّر بحزبه السابق وأفاد خصومه. إمام أكرم أوغلو يبدو الاوفر حظًا، وعبارته في الأمس تشي ببدء تحرّكه نحو قيادة الحزب حيث قال: “لا تقلقوا، فالشيء الذي لا يمكن تغييره هو التغيير، كلّ شيءٍ بدأ من جديد”.

مع كلّ ما قلناه، تبقى الساحة السياسيّة التركيّة مليئة بالمفاجآت، ومفتوحة على الإحتمالات التي لا يمكن توقع حدوثها. فنّ السياسة أن تتعامل مع ما هو مستحيلٌ كأنّه ممكن، وإلّا قد تجد نفسك بلحظةٍ غير متوقعة خارج المعادلة. الجميل في السياسة التركية أنّها غير مملّة، أنت تتعامل مع ديناميّة متجدّدة ومتحركة، تجعلك عاجزًا عن إغماض عينيك، فقد تنام على حال، ثمّ تستيقظ على حالٍ آخر.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  إنها جاذبية التغيير.. نجح إردوغان غدًا أم فَشِلَ!