هل تحوّلت الشعبوية إلى أيديولوجيا؟

لم يرَ بعض الرؤساء والقادة العرب غضاضة في نقل الخطاب الشعبوي إلى القمة العربية التي عقدت في مدينة جدة، في 19 مايو/ أيار الماضي. لكأنهم تبنوا هذه الشعبوية قبل وصولهم إلى الحكم، واستمروا على دينهم هذا حتى بعد أن استتب لهم الحكم وأعملوا قبضاتهم الحديدية في شعوبهم.

لم يعد خطاب القادة الشعبويين يخص فئة سياسية أو حزبية. صار ظاهرة عالمية. ثمة قادة لهم تأثيرهم العارم في الحياة السياسية سواء في دولهم أم في المحيط. ففي حادثتي هجوم أنصار الرئيس الأميركي السابق، ونالد ترامب، على مبنى الكابيتول قبل حوالي السنتين، وهجوم أنصار الرئيس البرازيلي السابق، جايير بولسونارو، على البرلمان والقصر الرئاسي والمحكمة العليا في العاصمة برازيليا بداية العام الجاري، الدليل والبرهان على تكرُّس الشعبوية سلوكاً في العديد من الدول.. والقارات!

والحال مع هذه الهجمات المرجح أن تتكرر، أنها مرشحة لأن تصبح استراتيجية سياسية تتصاعد معها روح التطرف الشعبوي، وصولاً إلى أن تصل إلى مرحلة الأيديولوجيا. لذلك، فإن ما جاء في تقريرٍ نشرته صحيفة “الغارديان” البريطانية بداية هذه السنة، وربط بين خروج رموز الشعبوية من السلطة في بعض الدول وبين تراجع الظاهرة، ربما يعد استنتاجاً متفائلاً إلى حدٍّ ما، كونه لم يدرس الظاهرة في كليتها، على ما يبدو، على الرغم من أنها تجذرت وتمأسست وصار لها أتباع، وتكرست استراتيجية سياسية لأحزاب وشخصيات، مثلها مثل أي ظاهرة أخرى تتكئ على أيديولوجيا متكاملة أو هي في طور النضوج.

استند تقرير صحيفة الغارديان[1] الذي صدر، في 5 يناير/كانون الثاني الماضي، على بحثٍ تحليلي لمركز توني بلير الاستشاري الذي يرتكز في استنتاجه حول تراجع الشعبوية نحو أدنى مستوى لها من 20 سنة، على واقعة هزيمة بعض الرؤساء الشعبويين من اليمين في أوروبا والبرازيل وخروجهم من السلطة. ويرتكز كذلك على انخفاض عدد السكان الذين يعيشون في ظل حكم شعبوي بمقدار 800 مليون نسمة؛ إذ كان العدد يُقدر بنحو 2 مليار و500 مليون نسمة سنة 2020، وأصبح ملياراً و700 مليون نسمة سنة 2023. لكن، وفي سياق التعريف، فرَّق التقرير بين الشعبوية الثقافية والشعبوية المناهضة للمؤسسات التي تركز على استهداف النخب. إلا أنه لم يتوسع في ماهية الشعبوية الثقافية، ولم يحدد احتمال أن تكون الذراع التي تكرِّس عبرها الشعبوية مبادئها ومفاهيمها لتصبح أيديولوجيا، على الرغم من استنتاجه أن هزيمة رافضي الديموقراطية من الترامبيين في انتخابات التجديد النصفي الأميركية، لا يدل على هزيمة طويلة الأمد للشعبوية الثقافية في الولايات المتحدة، مع ترجيح بقائها قوية داخل الحزب الجمهوري الأميركي.

ربما يفتقر مفهوم الشعبوية إلى أسس نظرية تجعل منه أيديولوجيا قائمة بذاتها، أسوة بالأيديولوجيات المعروفة التي حكمت دولاً لعقودٍ أو سنواتٍ

تظهر الشعبوية كأيديولوجيا محتملة نتيجة غياب أو تراجع حضور الأيديولوجيات التقليدية التي كانت السياسة ركناً من أركانها. كما تظهر نتيجة الحاجة لأيديولوجيا فاعلة قادرة على الرد على التساؤلات التي يطرحها الشباب وغيرهم من فئات المجتمع، على الرغم من ضحالة تلك الأجوبة.

وقد اقترن مفهوم الشعبوية بالأيديولوجيا اليمينية في ثلاثينيات القرن الماضي، مع بروز شخصية الزعيم النازي الألماني، أدولف هتلر، وهيمنته الفكرية والسياسية والعسكرية على المجتمع الألماني، واحتقاره الثقافة والفنون والحقوق والحريات، و”تعقيمه” المجتمع من الفكر اليساري والوسطي، من أجل السيطرة على عقول العامة، خصوصاً الشباب منهم، مقدمةً لاستخدامهم وقوداً في غزوه الدول الأوروبية وروسيا، في الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى تدمير القارة الأوروبية. وفي حالتنا الآن، نجد أن تأثير سياسة ترامب قد تعاظم خلال فترة حكمه البيت الأبيض، وبلغ ذروته مع اقتحام أنصاره الكونغرس، ولكن تأثيره لم ينتهِ مع مجرَّد خروج الرجل من الحياة السياسية، كما كان يأمل كثيرون.

في البرازيل تكرّر الأمر ذاته مع بولسونارو، بكل ما تركه من تأثير كبير على المجتمع البرازيلي، حيث صوّت له الملايين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. ولم تدفع شعبويته المدمرة وانفلاته من القواعد وتهوره الذي اتضح من خلال إنكاره خطر فيروس كورونا، ما سبب وفاة أكثر من 600 ألف برازيلي خلال الجائحة، إلى افتضاحه أو التأثير على شعبيته. ولم يفعل ذلك أيضاً احتقاره للمرأة وكراهيته للعمال والفقراء والصحافيين وعنصريته تجاه الملونين، إضافة إلى عدائه للمؤسسات والقانون والقضاء وحبه للسلاح والتعذيب.

كان الفارق بين بولسونارو المهزوم ولولا المنتصر حوالي النقطتين لا أكثر، على الرغم من تمكن لولا من انتشال ملايين البرازيليين من الفقر خلال فترتي رئاسته السابقتين. ويمكن القول إن خطاب بولسونارو وسلوكه خلال فترة حكمه، أحدثا شرخاً في المجتمع البرازيلي، عندما حوّلت مبادئه المعادية للديموقراطية، وتهديده بالعنف في حال خسارته، أفراداً من عامة الشعب إلى مستبدين على شاكلة زعيمهم، واندفعوا محاولين الانقضاض على المقار الحكومية بما يشبه الانقلاب؛ الانقلاب الذي هدّدوا به صراحةً قبل التصويت من أجل تخويف الناس. وقد زرعت تهديدات بولسونارو وأنصاره الخوف في قلوب البرازيليين، ما دفع جزءاً كبيراً منهم للتصويت لبولسونارو بدافع هذا الخوف، وهم المكتوون من الانقلابات والصراعات التي ضربت البرازيل والقارة الأميركية الجنوبية عقوداً من الزمن.

إقرأ على موقع 180  نهاية العقد الثاني للألفية الثانية: إلى أين نتجه؟

ربما يفتقر مفهوم الشعبوية إلى أسس نظرية تجعل منه أيديولوجيا قائمة بذاتها، أسوة بالأيديولوجيات المعروفة التي حكمت دولاً لعقودٍ أو سنواتٍ. ويعتقد البعض أن المرتكزات التي يستند إليها الشعبويون من أجل الحصول على الشعبية، ومنها تقديس الشعب وانتقاد النخب والمؤسسات وتحميلها المسؤولية عما آلت إليه أحوال بلدانهم وازدراء الآخر، المهاجر أو الملون أو صاحب الدين المخالف، ليست إلا مقاربات يستندون إليها للفوز بأصوات الناخبين. لكن انتشار الخطاب الديماغوجي الموحد بين أحزاب وشخصيات يمينية في أوروبا والأميركيتين وبعض الدول العربية، وطرح شعار “أميركا أولاً” و”بريطانيا أولاً” و”فرنسا أولاً” و”إيطاليا أولاً” و”لبنان أولاً” و”العراق أولاً” و”السعودية أولاً” إلخ.. ونشر ثقافة الخوف من الآخر المختلف، والخوف من تأثير المهاجرين على طريقة العيش الأوروبية والأميركية، والخوف على الهوية القومية والوطنية والدينية، والدعوة لاسترداد المؤسسات من مغتصب مجهول، من أجل عودة أميركا وعودة البرازيل وروسيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا ومصر وتونس وغيرها، ما هي إلا محاولات لوضع ملامح ثابتة وربما أسساً تتكرس أيديولوجياً.

تظهر الشعبوية كأيديولوجيا محتملة نتيجة غياب أو تراجع حضور الأيديولوجيات التقليدية التي كانت السياسة ركناً من أركانها

وبينما تكرس الشعبوية مفاهيمها، بلغت مرحلة التطرف لدى الشعبويين حداً لا يجدون فيه مانعاً من اقتحام أهم مقار رموز الدولة الوطنية وتدمير محتوياتها وسرقتها. وهذه هي مرحلة التطرف التي تحدث عنها مفكرون كثر، لكنهم حين تحدثوا عنها باكراً لدى وصول ترامب إلى السلطة، ربما لم يتصوروا أن يصل التطرف برئيس أقوى دولة في العصر الحديث حد دعوة الرعاع إلى اقتحام الكونغرس، ما يؤكد وصول تلك المفاهيم إلى مرحلة صار هناك جمهور يؤمن بها ويتخذها دليل عمل في حياته ونشاطه السياسي، كما أي أيديولوجيا أخرى.

ومع حادثة برازيليا أطل ستيف بانون، عراب الشعبوية في أوروبا والأميركيتين، ومستشار ترامب السابق، برأسه على المشهد البرازيلي فشجع من قال عنهم إنهم “مقاتلون من أجل الحرية”، لمواجهة لولا دا سيلفا لأنه “سرق الانتخابات”، على حد قوله. وقيل هذا الكلام ذاته عن الرئيس الأميركي، جو بايدن، وكان دافعاً لاقتحام الكونغرس. وبانون الذي تعهد بتأسيس بنية تحتية للحركات الشعبوية في العالم، ربما يعتقد أن الأيديولوجيا الملهمة لها تأسست ونضجت، وحان الوقت لكي تكشف عن وجهها الحقيقي في الميادين.

[i] https://www.theguardian.com/world/2023/jan/05/number-of-populist-world-leaders-at-20-year-low

Print Friendly, PDF & Email
مالك ونّوس

كاتب ومترجم سوري

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  إيران تُوحّد أوروبا وأميركا في مفاوضات فيينا!