المكان مهمّ جدّاً وذو رمزيّة فكريّة إسلاميّة وفلسفيّة معاً، والموضوع يُمكنُ اعتبارهُ بلا مبالغة: من العيار الاستراتيجيّ والثّقيل، خصوصاً إذا ما أخذنا بالاعتبار النّوعيّة النّادرة – والجامعة معاً – للحضور (في ما عدا هذا العبد الفقير طبعاً).
أعتقد بصدق أنّ اللّقاء هذا كان فريداً، إنْ من حيث الموضوع، أو من حيث نوعيّة وتنوّع آفاق المشاركين. وقد تمّ اعلامنا بأنّ بعد هذه المقدّمة الممتازة جدّاً: مواعيد مدروسة إن شاء الله، وخطط عملٍ متوقّعة، وأبواب بحثٍ، وتوجّهات عمليّة، وسنكون بتحقّق ذلك – إن شاء الله – لَمن المسرورين.
وقد حاولتُ في الجلسة، بما أمكن لي من الوقت والظّرف طبعاً، أن أقدّم مختصراً سريعاً عن مقاربتي وخبرتي المتواضعَتَين حول الموضوع. ولأهمّيّة القضيّة برأيي، ولعملي على جوانب متعدّدة منها في السّابق من أبحاثي وكتاباتي، قرّرتُ أن أشدّد على النّقاط التّالية ضمن هذا الإطار، لعلّني أساهم بما أستطيع إليه سبيلا، أقلّه على المستوى المَعرفي والمنهجيّ العام:
طرح النّموذج الحضاريّ – الكُلّي – البديل
عملتُ وكتبتُ حول هذا الموضوع بشكل معمّق في ما سبق، وفي ما أُتيحَ لي من المناسبات والإمكانات والوقت. ودون عودةٍ إلى التّفاصيل، يمكنني اختصار فكرتي ضمن هذا العنوان كما يلي: الاشكاليّة الفكريّة الأساسيّة التي تُواجه ما يُسمّى بالفكر الإسلامي المعاصر (أو “بالعقل” الإسلامي المعاصر إن شئت)، تكمن في تمكّنه – أو عدم تمكّنه واقعاً وإلى الآن – من طرح نموذجٍ أو نماذج حضاريّة تكون بديلةً (بمعنى Alternatives) عن النّموذج أو النّماذج المطروحة من قبل الثّقافات والحضارات الأخرى لا سيّما من قبل الثّقافات والحضارات الغربيّة.
ولكي نستطيع التّحدّث إذن عن: (أ) طرحِ / (ب) نموذجٍ / (ج) حضاريٍّ / (د) بديل، يتوجّب برأيي أن يكون هذا النّموذج وباختصار (بشرط أن يكون هناك من يطرحه أصلاً، وهذا بحثٌ آخر):
١/ كُلّياً، بحيث لا نكرّر الوقوع في فخّ الجزئيّة و/أو الانتقائيّة و/أو النّقصان كما يحدث معنا على الدّوام. ومن مَثَل ذَلِك تركيز بعض – أو أكثر – التّيّارات الإسلاميّة المعاصرة على الجانبَين السّياسيّ-التّحرّري والعسكريّ-المقاوم.. دون تقديم أيّ طرحٍ جدّيّ – وفي الأعم الأغلب: حول الاقتصاد مثلاً، أو الاجتماع.. أو حتّى حول بناء الدّولة المُعاصرة والمؤسّسات التي تسندُها وتقومُ بها (وما إلى ذلك من مواضيع.. شائكة ومتفجّرة حتّى إشعار آخر). لا يقدّمُ البديلَ الحضاريَّ واقعاً: من يكتفي بالضّربات الجزئيّة هنا وهناك، ولو كانت محمودةً ومقاوِمةً وضروريّةً في أعمّها الأغلب.
من يريدُ أن يطرحَ بدائل حضاريّة، عليه برأيي أن يطرحها أمام العالَمين.. لا أمام قومه أو أمام أهل دينه أو أمام أهل طائفته. نتحدّث دوماً عن تموضعاتنا تجاه الطّروحات “الحضاريّة” الغربيّة، ولطالما ننسى أنّ من نقاط قوّة هذه الأخيرة.. عالميّتُها!
٢/ مُحكَماً من الزّاوية المفاهيميّة، وقابلاً للتّطبيق من الزّاوية العمليّة والتّجريبيّة (وفي زماننا هذا). أمّا في ما يخصّ الزّاوية المفاهيميّة فنحيل إلى كتاباتنا السّابقة حول “بناء المفاهيم” وإلى ما يلي من عنوان. وأمّا في ما يخصّ التّطبيق، فمن الضّروريّ التّشديد على أنّ أيّ طرحٍ إسلاميّ، وفي أيّ مجالٍ كان: لا بدّ وأن يكون قابلاً للتّطبيق العمليّ، مع إمكانيّة اخضاعه – قدر الإمكان – للتّجربة الجدّيّة والموضوعيّة. لا يمكن أن نستمرّ في التحرّك ضمن عقليّة انفصاميّة بين النّظريّة وبين الواقع.. كما يحصل مثلاً ضمن ما يُسمّى بالاقتصاد الإسلاميّ أو بالماليّة الإسلاميّة. خصوصاً في ما يخصّ هذه الأخيرة، فقد سبقَ وبيّنتُ بالتّفصيل المملّ كيف أنّ النّظريّة في واد، والتّطبيق في واد.. بل في كوكب آخر ربّما! (نحيل إلى بعض المراجع المذكورة في ما يلي على سبيل المثال لا الحصر).
٣/ عالميّاً بحيث يتوجّه إلى جميع الثّقافات، وليس فقط إلى المسلمين أو إلى طوائف معيّنة من المسلمين (أو إلى الثّقافات الإسلاميّة بشكل عام). من يريدُ أن يطرحَ بدائل حضاريّة، عليه برأيي أن يطرحها أمام العالَمين.. لا أمام قومه أو أمام أهل دينه أو أمام أهل طائفته. نتحدّث دوماً عن تموضعاتنا تجاه الطّروحات “الحضاريّة” الغربيّة، ولطالما ننسى أنّ من نقاط قوّة هذه الأخيرة.. عالميّتُها! هل ادّعت فرنسا اليعقوبيّة الثّوريّة مثلاً أنّها تنشر قِيم حقوق الإنسان على الغالِ والفرنجةِ ومن تبعهم فقط؟ هل بنى ديكارت فلسفته على العقل الفرنسيّ الكاثوليكيّ فقط مثلاً؟ وكذلك هيوم وكانط وسبينوزا ولايبنيتز وهيغل وماركس ونيتشه وفرويد وغيرهم؟ ما هي نسبة اللا-عالميّ ضمن مدارسهم الفلسفيّة والفكريّة؟ هل تدّعي أميركا مثلاً أنّها تسوّق رأسماليّة-ليبراليّة تصلحُ فقط في بلاد الإنكليز والأمريكان؟ هل يُقدّم المفكّرون الغربيّون مفاهيم حول الأُسرة والعلاقات الأسريّة والجنس وما إلى ذلك: على أنّها مفاهيم تصلح فقط في بيئاتهم؟
من يريد أن يطرح بديلاً حضاريّاً على أهل الأرض، عليه برأيي أن يبحث عن/ أو يبني: مفاهيم (Concepts) ذات بعدٍ عالميّ في أعمّها الأغلب.
٤/ براغماتيّاً بمعنى إيجابيّ دقيق ألا وهو: أن يُقدّم قيمة مُضافة (Ajoutée) ومُقارَنة (Comparative) تكون ملموسة ويُمكن التّأكّد منها بالملاحظة و/أو بالبيان العلميّ و/أو بالتّجربة الأمبيريقيّة (قدر الإمكان وكما سبق ورأينا في ما سبق). فما نفَعَنا أن نُقدّم “بديلاً” يجلب المنفعة ذاتَها، أو دون ذلك أو أعلى قليلا؟ البديل الذي لا يأتي بمنفعة روحيّة و/أو مادّيّة تكون مُضافة ومُقارنة.. لا يعوّل عليه! من يريدُ أن يقدّم بديلاً حضاريّاً عليه، أيضاً وبرأيي: أن يتمكّن من إثبات القيمة المُضافة والمُقارَنة بشكل علميّ ومبنيّ على المُعطيات والوقائع (وهذا بابٌ من الأبواب المهمّة في العلوم البيانيّة والتّجريبيّة الحديثة، وليس بموضوع نقاشنا هنا طبعاً).
من الواضح ممّا سبق أنّ العمل على تقديم طرحٍ كلّيٍّ كهذا لا بدّ وأن يعتمد على العمل النّظريّ والتّجريبيّ التّراكميّ وبعيد الأمد من جهة (أي على صبرٍ استراتيجيٍّ جميل أيضاً)؛ ومن جهة أخرى، على تقسيم العمل والمجهود والحركة على أساس المجالات والمواضيع والتّخصّص (فمنهم من يعمل على العلم السّياسي مثلاً، ومنهم من يعمل على الاجتماع أو الأسرة، ومنهم من يعمل على الأخلاق والفلسفة والاقتصاد والأسواق الماليّة والعلوم العسكريّة إلخ.).
هل قلتم مفاهيم (Concepts) بديلة (Alternatifs)؟
من الواضح أنّ الفكر الإسلاميّ يقوم بشكل أساسيّ، وبالمعنى العلميّ المعاصر: على فهم (Compréhension) وتأويل (Interprétation) موروثٍ نصّيّ-نقليّ. والنّص (والنّقل بشكل عام) يستخدم بشكل رئيس: الخطاب (إلى جانب الرّمز طبعاً، ومختلف أنواع الإشارات والإيحاءات، وكذلك الصّور، دون أن ننسى الطّرق السّرديّة وما إلى ذلك من تشعّبات نتركها إلى مناسبة أخرى).
من هنا، يُمكن اعتبار بناء نموذج “إسلاميّ” في أيّ مجالٍ من المجالات: قائماً، وفي جوهره، على عمليّة تأويل للمعاني وللمقاصد (المُمكنة) الكامنة خلف الخطاب بشكل رئيسيّ.
نحن إذن، وبالتّحديد كما تفهم ذلك العلوم الإنسانيّة والإجتماعيّة الحديثة: في عالم البحث الفهميّ-التّأويليّ وبشكل أساسيّ وبيّن.
- أمّا البحث حول “الوجود الحقيقيّ” لهذه المعاني والمقاصد في “الواقع الخارجيّ” (أو عدم هذا الوجود – مع دراسةٍ لطبيعتَي “الوجود” و”عدم الوجود” ضمن هذا الإطار بالتّحديد): فهذا من باب الأنطولوجيا، أي مباحث الفلسفة المعنيّة بدراسة الوجود وطبيعته. وقد يقودنا إسلاميّاً إلى أبواب الإلهيّات وعلم الكلام وما إلى ذلك (هل هناك “حقّاً” من وضع معانٍ ومقاصدَ خلف هذا النّصّ أو ذاك؟ هل هناك معانٍ “حقيقيّة” و/أو “إلهيّة” و/أو “مُحكمة” كامنة ما وراء النّصّ الإسلامي المنقول؟ إلخ.).
- لذلك، فقد نصحتُ في ما سبق من أبحاث باعتماد تموضعٍ أبستيمولوجيّ يخوّلنا – معرفيّاً ومنهجيّاً – أن نتجنّب الوقوع في نقاش الميتافيزيق والإلهيّات: وقد اقترحتُ أن يكون تموضعاً مستوحىً من الفلسفة النّقديّة للفيلسوف النّقدي الألماني الأكبر عمانوئيل كانط (تلك الفلسفة التي أوصلت في ما بعد إلى الفلسفة المنهجيّة التّأويليّة في علم الاجتماع، لا سيّما من خلال مدرسة عالم الاجتماع الألماني “التّأويليّ” ماكس فيبر).
- لما هذا التّموضع الأبستمولوجيّ (أي “المعرفيّ”) الكانطي الميول؟ باختصار: لأنّ عمليّة التّأويل هي عمليّة معرفيّة تستخدم “العقل المحض” كما يُعبّر عنه كانط. ويمكننا الادّعاء – بالأخصّ: غائيّاً ومنهجيّاً، وليس بالضّرورة أنطولوجيّاً وأبستمولوجيّاً – أنّ العقل هذا لا يُمكن له أن يؤوّل المعاني في ذواتها.. وإنّما لذواتنا. أي: لا يُمكنه أن يصل إلى إدراك المعاني والمقاصد في ذواتها، بل ضمن إطار وحدود ما تُتيحه له القوالب القَبليّة التي تؤطّر عمل هذا العقل “العارِف” (والمؤوِّل-الفاهِم) إذن.
إذا ما أردنا أن نطرحَ نموذجاً حضاريّاً بديلاً.. علينا أن ندرس كيفيّة تأويل تراثنا.. وبالتّالي أن نطوّر منهجيّة بناء مفاهيمنا الإسلاميّة. ومن المستحسن – بل إنّه لمن الضّروريّ – أن يتمّ ذلك بما يتوافق مع تطوّر التّقنيّات والعلوم الحديثة، وبما يتوافق مع الحياديّة العقائديّة والأيديولوجيّة
- ولذلك، وكنتيجةٍ منطقيّةٍ لاعتماد ما سبق، لا يُمكن للعمليّة العقليّة التّأويليّة إلّا أن تبنيَ.. مفاهيم عن المعاني والمقاصد (أي تصوّراتٍ هي برزخٌ: بين بُعد عالم العقل المحض من جهة، وبين بُعد المحسوس والحَدس الحِسّيّ من جهة ثانية). وهذه نقطة جوهريّة ومحوريّة: فأقصى ما يُمكن أن نصل إليه إذن من خلال تأويلنا وفهمنا هو تصوّرٌ أو مفهومٌ (بتعبير الكانطيّة) – أو نموذج-مُثُليّ (بتعبير فيبر) – حول هذه المعاني والمقاصد (المُمكنة الوجود) خلف هذا الخطاب أو ذاك.
- وبالتّالي، بدل أن يدّعي كلّ واحدٍ منّا أنّه قد وصل إلى “المفهوم الإسلاميّ” أو إلى “المفهوم الإسلاميّ الحقيقيّ” أو إلى “المفهوم الإسلاميّ الحقّ” (وما إلى ذلك أو ما شابهه): حول الأسرة مثلاً، أو حول التّبادل الماليّ، أو حول الدّولة، أو حول الأخلاق أو ما إلى ذلك.. نُمسي في عالمٍ لا يدّعي أحدُنا فيه إلّا أنّه قد وصل إلى بناء مفهومٍ (“إسلاميٍّ) ما حول هذا الموضوع أو ذاك.. لا يُمكن إلّا نفيُ صحّته أو ترجيحُها من خلال مقابَلَته مع غيره من المفاهيم المبنيّة و/أو مع مُعطيات الواقع (الحسّي إن شئت).
- لا يجدر برأيي الاستهانة بالنّتائج المترتّبة على هذا الطّرح، ولن أعود إلى تفصيلها تاركاً القارئ مع ما استطعت ذكره من مراجع: فكما ساهمَ “المفهوم الكانطي” إلى حدّ بعيد في تأسيس العلوم التّجريبيّة الحديثة.. فمن الممكن ربّما أن يؤدّي “المفهوم التّأويليّ الإسلاميّ” هذا إن صحّ التّعبير إلى: تسهيل عمليّة تأسيس العلم الإسلاميّ (العالميّ) لبناء المفاهيم التّأويليّة من جهة وتسهيل عمليّة تأسيس العقل التّجريبيّ الإسلاميّ والعلوم التّجريبيّة الإسلاميّة من جهة أخرى.
- وكما أشرت في دراسات سابقة: لا بدّ في الخاتمة من التّذكير المتكرّر بأنّ محمّد باقر الصّدر ليس مفكّراً عابراً في هذا الإطار البحثيّ بالذّات – أي في ما يخصّ منهجيّة بناء المفاهيم “الإسلاميّة”. وقد سبق أن اقترحت تموضعاً معرفيّاً ومنهجيّاً يُناسب الباحثَين الاسلاميّ والعلميّ-الاجتماعيّ معاً، مستعيناً بأعمال الصّدر من جهة، وبأعمال ماكس فيبر من جهة ثانية (وأترك التّفاصيل إلى مواضع أخرى مناسبة إن شاء الله تعالى).
باختصار: إذا ما أردنا أن نطرحَ نموذجاً حضاريّاً بديلاً.. علينا أن ندرس كيفيّة تأويل تراثنا.. وبالتّالي أن نطوّر منهجيّة بناء مفاهيمنا الإسلاميّة. ومن المستحسن – بل إنّه لمن الضّروريّ – أن يتمّ ذلك بما يتوافق مع تطوّر التّقنيّات والعلوم الحديثة، وبما يتوافق مع الحياديّة العقائديّة والأيديولوجيّة (طالما أنّنا نضع أنفسنا ضمن إطار البحث الأكاديميّ والعلميّ.. وطالما أنّنا نريد ادّعاء الموضوعيّة وعدم قمع أو تكفير أو اقصاء بعضنا البعض). لذلك، أضع هذا المقترح (الذي طوّرته طبعاً، وحاولت تكييفَه في أعمالي السّابقة، وتجربتَه ومقابلتَه مع عدد من المعطيات): أضع هذا المقترح مجدّداً بين أيدي الزّملاء والأصدقاء المهتمّين، وأستغفر الله لي ولهم، وأحمد الله سبحانَه على كلّ أمرٍ.. وهو وحدَه وليُّ التّوفيق.
(*) أعمل حاليّاً، وبالاشتراك مع “دار النّهار” في لبنان، على إصدار طبعة جديدة ومحدّثة لعملي المركزيّ حول هذه المواضيع المعرفيّة والمنهجيّة المطبّقة على الإسلاميّات، والقائم على أطروحة الدّكتوراه التي قدّمتها في جامعة باريس عام ٢٠١٣ في العلوم الإداريّة الماليّة، بالإضافة إلى مجموع الأعمال الأخرى التي تم نشرها باللغة العربية.