رافق حقان فيدان الرئيس التركي منذ عام 2003، تاريخ ترؤس إردوغان الحكومة للمرة الأولى. من حينها، زاد نفوذ فيدان بشكل كبير، وبات مؤثراً جدياً في مجريات الحياة السياسية والأمنية في تركيا وحتى خارجها.
“الرجل التركي الأخطر” أو “رأس الجاسوسية” التركية كما تصفه المجلات الأجنبية، تنقل من ميدان أمني إلى آخر، دون أن يُهمل السياسة والدبلوماسية بأي شكل من الأشكال.
شيشرون الألباني.. جاسوس العبرة
قلة تعرف جاسوساً مشهوراً في تاريخ تركيا، إذ لا تشتهر هذه “الحِرفة” كثيراً في تلك البلاد. لكن رجلاً واحداً شكّل استثناءً على هذه القاعدة، وهو “إلياس بازنا” (من أصول ألبانية عثمانية) الملقب بـ”شيشرون”. هذا الرجل جنّدته ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وكان مُكلفاً بالوصول إلى أوراق المعاهدات السرية ومؤتمرات الحلفاء في موسكو، طهران، والقاهرة عام 1943، وإرسالها إلى الأتراك والألمان في آن واحد.
“شيشرون” هذا بات مصدر إعجاب حقان فيدان، على ما قال مرّة، وربما يأخذ من أعماله عبرة يستمد منها الإلهام. فكل “رجل خطير” بحاجة إلى ملهم أخطر منه، يأخذ من أعماله إلهاماً وأفكاراً تدفعه للعمل الدؤوب في تحقيق مبتغاه.
غير أن وصول فيدان إلى موقع وزير خارجية تركيا في هذا الزمن بالتحديد، لم يكن سهلاً، إذ أن الرجل مرّ بالكثير من الخبرات والتجارب، كما الأحداث والأعمال والمهمات الأمنية. فيما الأهم كان تسيّده على الأجهزة الأمنية التركية وإعادة هيكلتها وإصلاحها وتعزيز أدوارها، كما الوقوع وسط حلبة التنافس بين إردوغان ورئيس الحكومة التركية السابق أحمد داود أوغلو عام 2016.
بات فيدان في صلب الأزمة بين الحليفين القديمين. اختار فيدان الولاء لإردوغان على الولاء للدولة والنظام أو لداود أوغلو، كما زاد من عملياته الأمنية في الخارج وتحديداً في سوريا، بشكل أحرج رئيس الحكومة وأظهره غير مُمسكٍ بزمام السلطة والمبادرة والفِعل في تركيا
البداية.. علم ودبلوماسية وأمن
ولد فيدان في مدينة أنقرة عام 1968، وهو من أصول كردية يتنكر لها. حصل على إجازات في الإدارة والعلوم السياسية من الولايات المتحدة الأميركية والدكتوراه من جامعة “بيلكنت” التركية المرموقة، حيث حملت أطروحته عنوان “دور المخابرات في صناعة السياسة الخارجية”. خلال سنواته دراسته الجامعية ثم ممارسة التعليم، ترأس شعبة استخباراتية مدنية صغيرة تابعة للجيش التركي إلى حدود عام 2001، كانت مهمتها رصد من يعمل “ضد المصلحة القومية للدولة والنظام والشعب”.
مع وصول إردوغان إلى الحكم، أصبح فيدان، بدءاً من عام 2003، رئيساً لـ”الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا)”، وهي الوكالة الرسمية الأكبر التي تقدم المساعدة الإنسانية والتنموية لدول العالم. سمح هذا المنصب لفيدان في إقامة شبكة علاقات مع منظمات دولية كما مع مسؤولين دوليين عديدين. ازدهرت علاقاته الشخصية في العراق ونيجيريا، كما في فلسطين وآذربيجيان، إضافة إلى بلغاريا وجمهورية قبرص الشمالية وغيرها من الدول.
مع تضخم أعمال “تيكا”، وإدخاله إصلاحات عليها جعلتها الذراع الدبلوماسية التركية الأهم، تم نقل فيدان إلى مجال الأمن والمخابرات. في العام 2007، أسند إليه منصب شكلي (نائب لوكيل وزارة الخارجية) كان بمثابة غطاء لعمله الأهم، كمسؤول عن الأمن الدولي الخاص بالجمهورية التركية. كانت مهمة فيدان مراقبة ورصد كل التحركات الأجنبية المعارضة للمصالح التركية، إضافة إلى عمله كموفد دبلوماسي خاص لرئيس الحكومة في حينها رجب طيب إردوغان.
خلال مهمته هذه، ركّز فيدان على تحركات الأكراد في أوروبا والعراق وسوريا وإيران، وعلى التجمعات الأرمنية في دول العالم. ثم ما لبث أن عيّنه إردوغان رئيساً لـ”جهاز الاستخبارات الوطنية التركية (MIT)” عام 2010، وهو الجهاز الإستخباراتي الأهم في تركيا، والذي يعمل على جمع المعلومات لرئاسة الجمهورية والقوات المسلحة حصراً حول التهديدات الداخلية والخارجية، وهو الجهاز الذي يملك، كذلك، صلاحيات تنفيذ عمليات أمنية في الخارج إن دعت الضرورة.
أما مهماته الأبرز خلال رئاسته للـMIT، فكانت الدخول في مفاوضات سلام مباشرة مع “حزب العمال الكردستاني” المصنّف “منظمة إرهابية”، كما مع رئيسه عبدالله أوجلان المسجون في تركيا. إضافة إلى التشبيك مع المخابرات الإيرانية، وذلك في إطار ما عُرف بـ”التسويق الأسود”، أي الصفقات التجارية السرية بين إيران وتركيا وأساسها نقل المشتقات النفطية الإيرانية براً إلى السوق التركي مقابل دفع أنقرة بعملة الذهب وبقية المعادن (لكي لا تمر في النظام المصرفي العالمي)، وذلك تخطياً للعقوبات الدولية المفروضة على طهران. هذا وبات جهاز الـMIT، في عُهدة فيدان، المؤسسة الرسمية الوحيدة التي أبقى إردوغان على صلاتها مع إسرائيل، وذلك في فترة الأزمة الدبلوماسية الجدية بين البلدين بين العامين 2010-2016.
عمل فيدان في كل شيء تقريباً. في التعليم والمخابرات، في الجيش والأجهزة الأمنية، في الدبلوماسية والمفاوضات والعمليات الأمنية، أكان في الداخل أم في الخارج. هو رجل تميّز بالعلم والدبلوماسية والأمن، لكن أكثر ما ميّزه كان الولاء لإردوغان.
إحراج أحمد داود أوغلو.. وإخراجه
في العام 2016، وقعت أزمة داخلية بين رئيس الجمهورية رجب طيب إردوغان ورئيس حكومته أحمد داود أوغلو. اختلف “الحليفان” و”الصديقان” على ثلاث مسائل. الأولى؛ سعي إردوغان إلى تغيير النظام البرلماني وجعله رئاسياً بصلاحيات شبه مطلقة. الثانية؛ الدخول العسكري إلى سوريا، وهو الأمر الذي لم يكن داود أوغلو يُحبّذه. الثالثة؛ تخطي حقان فيدان لرئيس الحكومة وقيامه بتنفيذ أعمال أمنية في الخارج من دون موافقته أو حتى معرفته ومعرفة الجيش، إنما بتنسيق مباشر مع إردوغان حصراً.
بات فيدان في صلب الأزمة بين الحليفين القديمين. اختار فيدان الولاء لإردوغان على الولاء للدولة والنظام أو لداود أوغلو، كما زاد من عملياته الأمنية في الخارج وتحديداً في سوريا، بشكل أحرج رئيس الحكومة وأظهره غير مُمسكٍ بزمام السلطة والمبادرة والفِعل في تركيا.
في نهاية الأمر، أطاح إردوغان بحليفه القديم وأخرجه من السلطة، وذلك بالتعاون مع فيدان. كسب هذا الأخير وداً إضافياً من رئيس الدولة والحزب الحاكم، كما نفوذاً أكبراً داخل الأجهزة الأمنية التي قام بإصلاحها وزيادة عديدها وترقية من يواليه فيها.
في العام نفسه، قادت بعض القوى المسلحة محاولة إنقلابية في تركيا. إتُهمَ في حينها الداعية الإسلامي فتح الله غولن بتنفيذها بالتعاون مع فرق عسكرية وأمنية وقضاة ورجال أعمال. في حينها، لعب فيدان كما رئيس هيئة الأركان التركية الجنرال خلوصي أكار، أهم الأدوار في إحباط الانقلاب. إضطر فيدان لإنزال رجاله إلى الساحات العامة للدفاع عن حكم إردوغان في وجه فصائل من الجيش، كما الضغط على رجال الدين لدعوة الناس عبر مكبرات المساجد “للدفاع عن الشرعية في وجه العملاء”.
هذا الولاء من فيدان أثمر في نهاية الأمر. أنقذ رأس إردوغان من العسكر الإنقلابي، فيما بات فيدان الرجل الأكثر موثوقية من قبل رئيس الدولة والمرافق الدائم له في كل زياراته الخارجية.
عمل فيدان في كل شيء تقريباً. في التعليم والمخابرات، في الجيش والأجهزة الأمنية، في الدبلوماسية والمفاوضات والعمليات الأمنية، أكان في الداخل أم في الخارج. هو رجل تميّز بالعلم والدبلوماسية والأمن، لكن أكثر ما ميّزه كان الولاء لإردوغان
وزير خارجية لـ”سياسة وطنية مستقلة”
مع تعيينه وزيراً للخارجية، ألقى إردوغان على عاتق فيدان مسؤليات كبيرة، في وقت تشهد الدول المحيطة بتركيا حراكاً عسكرياً ودبلوماسياً يفترض أن تعلب فيه أنقرة دوراً رائداً. الحرب تستعر بين روسيا وأوكرانيا، فيما عملية السلام تتقدم، ولو بشكل بطيء، في سوريا، كما تجنح أنقرة لإصلاح علاقاتها مع القاهرة والرياض وغيرها من الدول الإقليمية المؤثرة.
في خطابه الأول والمقتضب بعد تعيينه وزيراً للخارجية، أعلن فيدان شكره لإردوغان وثقته به، كما أكد أنه سوف يتبع “سياسة خارجية وطنية ومستقلة، قائمة على تعزيز مكانة تركيا في جهات العالم الأربع”، وذلك في إشارة إلى استمراره على النهج الذي أرساه إردوغان في الحكم، وهو تعزيز مكانة تركيا من خلال الدبلوماسية النشطة في المنطقة. كما عدم الوقوع في فخ الاتكال على الغرب، أكان في المجال الدبلوماسي أم الأمني، واتباع سياسة خارجية قائمة على تحقيق مصالح تركيا فقط لا غير.
مع تعيين رجل استخبارات متمرس على رأس وزارة الخارجية، تبدو تركيا أكثر اقتناعاً بتلازم مسار العمل الاستخباراتي مع السياسة الخارجية، وهو الأمر الذي يمكن أن يُوفّر فرصاً دبلوماسية أكبر لتركيا، بعدما صارت متيقنة أن الأبواب مع روسيا وإيران والمشرق العربي مفتوحة، فيما يستمر إقفال الباب أمام إنضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي.