التلفيق.. وسرديّات التاريخ الإسلامي!

التلفيق هو من الأدوات الفقهيّة التي استخدمها العلماء المسلمون منذ القدم في نقاشاتهم وتطبيقهم لأحكام الشريعة الإسلاميّة (على اختلاف المذاهب). وقد راج التلفيق بكثرة في العصر الحديث وتم اعتماده في تجديد الفكر الديني وأحكام الشرع، خصوصاً مع أمثال محمّد عبده (ت. 1905). لكنّ التلفيق ليس محصوراً فقط بالفقه، بل نجده في أصل سرديّات التاريخ الإسلامي أيضاً.

لُغويّاً، عبارة التلفيق مأخوذة من قاموس الحياكة. يقول إبن منظور مثلاً: “لَفَقْت الثَوْبَ ألفِقُه لَفْقاً: وَهُوَ أَن تَضُمَّ شَقَّةً إِلَى أُخرى فَتُخِيطَهُمَا، ولَفَق الشَّقَّتَيْنِ يلِفقُهما لفْقاً ولفَّقَهما: ضَمّ إِحْدَاهُمَا إِلَى الأُخرى فَخَاطَهُمَا”. إذاً، خياطة قطع متفرّقة من القماش نسمّيه “تلفيق”، وليس هناك من شرط أن تكون القطع من نوع القماش نفسه، بل يمكن أن نأخذ قطعاً من أنسجة مختلفة وألوان متفرّقة ونلّفقها مع بعضها البعض، فينتج عن ذلك أثواب بأشكال عديدة ترضي كافّة الأذواق.

من هنا أتى المعنى الشائع لكلمة “تلفيق”، وهو الكذب أو الخداع، لأنّ حياكة القطع المختلفة تخلق منها شيئاً لم يكن موجوداً من قبل.. كما أن مزج حقائق ببعضها البعض واختراع شيء جديد منها بغرض التضليل نسمّيه أيضاً “تلفيق”.

التاريخ هو عبارة عن تلفيق لما جرى في الماضي (من أحداث أو أشخاص). وكلّ رواية أو سردية تاريخيّة هي نوع من الكولّاج (collage) الأدبي إذا استخدمنا المصطلح العصري، حيث أنّ كلّ راوٍ للتاريخ يجمع أخباراً متفرّقة (بغضّ النظر عمّا إذا كانت هذه الأخبار صحيحة أم غير صحيحة)، ويضعها في سرديّة واحدة لم تكن موجودة قبله.

ويمكن أن نُعمّم ذلك ونقول إنّ التفسير القرآني (مثل تفسير الطبري) هو أيضاً تلفيق لأنّه يجمع تفاسير متفرّقة منسوبة إلى صحابة وتابعين لم تكن مجموعة من قبل. وكُتُب الحديث النبوي (مثل صحيح البخاري أو مسند أحمد بن حنبل) هي أيضاً تلفيق.

وهناك نوع من التلفيق نجده في كتب التراث يأخذ شكل خلط الأخبار الصغيرة ببعضها البعض وإنتاج أخبار طويلة منها. مثال على ذلك نجده في قصّة الإسراء والمعراج التي رواها لنا ابن إسحاق (ت. 767) في كتابه الشهير “السيرة النبويّة”. يقول ابن إسحاق:

كان من الحديث فيما بلغني عن مسراه صلى الله عليه وسلم، عن عبد الله بن مسعود، وأبي سعيد الخدري، وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ومعاوية بن أبي سفيان، والحسن بن أبي الحسن (البصري)، وابن شهاب الزهري، وقتادة وغيرهم من أهل العلم، وأم هانئ بنت أبي طالب، ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر من أمره حين أسري به صلى الله عليه وسلم”.

فحوى هذا الكلام أنّ ابن إسحاق أخذ أخباراً قصيرة منسوبة إلى صحابة وتابعين وحاكها ببعضها البعض وأنتج منها سرديّة طويلة جمعت قصّة الإسراء وقصّة المعراج كحدث واحد. من جهة، لم تكن هذه الأخبار القصيرة بالضرورة متجانسة ومتوافقة في ما بينها. في تلفيقه لها، “قصّ” ابن إسحاق التناقضات منها وحاكها في إطار جديد متجانس. ومن جهة أخرى، ليس هناك من دليل أنّ أياً من هؤلاء الصحابة والتابعين كان يعرف كامل رواية الإسراء والمعراج، كما رواها لنا ابن إسحاق.

المؤرّخ، كالخيّاط، يُلفّق التاريخ ويُلبسه للقارئ. كلّ رواية من رواياته هي أساساً مأخوذة من روايات متعدّدة. وكما يفعل الخيّاط عندما يقصّ قطعة القماش الكبيرة إلى قطع صغيرة ويعيد تجميعها لينتج منها أشكالاً جديدة ومختلفة ليست بتاتاً على شاكلة القطعة الأصليّة، فإن المؤرّخين (الجدد أم القدماء) هم أيضاً “خيّاطون”

وهناك مشكلة أخرى في سرديّة ابن إسحاق إذا ما قارنّاه بغيره من المؤرّخين، كالطبري مثلاً، والذي يُعطينا في تاريخه سرديّة مغايرة، فالطبري لا يذكر الإسراء بل فقط يورد ذكر المعراج من مكّة مباشرةً إلى السماء. لكن في تفسيره، يذكر الطبري قصّة الإسراء والمعراج معاً، وهو كعادته، لا يعيد “حياكة” الأخبار القصيرة في قصص طويلة كما نجد مع ابن إسحاق، بل يسرد الروايات على اختلافها وتناقضها (ويعطي رأيه فيها من دون شكّ، وينقض صحّة بعضها).

ويمكن القول إنّ طريقة سرد الطبري تعطي نتيجة مشابهة لما يرويه ابن إسحاق، لكن هذا صحيح فقط إذا قرّرنا قراءة بعض الروايات فقط وتجاهل روايات أخرى. المهمّ في ما نجده عند الطبري أنّه يكشف لنا هذا التناقض بين الروايات والذي حجبه عنّا ابن إسحاق عندما لفّقها ببعضها البعض وأزال منها التناقض.

ويتكرّر هذا الشيء في أخبار أخرى كثيرة عند ابن إسحاق وغيره من مؤرّخي التراث الإسلامي القديم، كالواقدي (ت. 823)، وعلى المؤرّخ في عصرنا أن يعي كل ما من شأنه أن يوضّح لنا هشاشة التاريخ الإسلامي، خصوصاً ما يتعلّق بأحداث القرن الأوّل للإسلام.

وهناك نوع آخر من التلفيق، هو برأيي أهمّ وأشمل ودلالاته أعمق، ويتعلّق بالكتاب كمشروع تلفيقي بامتياز. عندما أخذ ابن إسحاق ما أخذه من أخبار عن النبي والفترة التي سبقته وضمّها إلى بعضها البعض ووضعها في سرديّة زمنيّة في كتابه “السيرة النبويّة”، فهو أنتج شيئاً لم يكن بتاتاً معروفاً من قبل في الشكل الذي أنتجه. نحن هنا أمام حقيقة أنّه عندما نقرأ كتاباً مثل “السيرة النبويّة”، أو كتاب “المغازي” للواقدي، أو “تاريخ” اليعقوبي، أو “تاريخ الرسل والملوك” للطبري، يجب أن نأخذ في الإعتبار تأثير هذه الكتب في خلق تصوّرات جديدة وتخيّلات وأسئلة وأنماط ومفاهيم وتمجيد وتعظيم وتأليه و..، لم تكن لتراودنا أو تخطر على بالنا إذا ما قرأنا الأخبار فرادى، وفي سياقات متفرّقة ومتفاوتة، ومن دون رابط بينها.

إقرأ على موقع 180  أولوية السماء على الأرض.. احتقار الجغرافيا

إذاً، التلفيق موجود في أصل سرديّات التاريخ الإسلامي (أو حتّى في أي تاريخ بشري آخر). وليس الهدف هنا القول إنها أكاذيب، بل علينا الإعتراف بالمشاكل التي نواجهها كمؤرّخين عندما ندرس كتب التراث ونعتمد عليها من أجل إعادة تشكيل أي حقبة من حقبات التاريخ الإسلامي.

المؤرّخ، كالخيّاط، يُلفّق التاريخ ويُلبسه للقارئ. كلّ رواية من رواياته هي أساساً مأخوذة من روايات متعدّدة. وكما يفعل الخيّاط عندما يقصّ قطعة القماش الكبيرة إلى قطع صغيرة ويعيد تجميعها لينتج منها أشكالاً جديدة ومختلفة ليست بتاتاً على شاكلة القطعة الأصليّة، فإن المؤرّخين (الجدد أم القدماء) هم أيضاً “خيّاطون”. في بعض الحالات، يقصّون الأخبار من المصدر نفسه ويعيدون تجميعها وترتيبها في روايات وسرديّات وتسلسلات زمنيّة جديدة. ويقومون أيضاً بجمع الأخبار من مصادر مختلفة وتحويلها إلى سرديّة مشتركة، كما يفعل الخيّاط الذي يأخذ قطعاً مختلفة لا تنتمي إلى نوع القماش نفسه وينسجها مع بعضها البعض.

في البعدين الجزئي (micro) والكلّي (macro)، التلفيق هو أساس كتابة التاريخ، وعلينا أن نعي ذلك لنفهم التاريخ ومنزلقاته.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  التاريخ في خدمة الأيديولوجيا.. ابن عساكر الدمشقي نموذجاً