المجلس الدستوري اللبناني يُشرّع لـ”الأمر الواقع” (2)
Lebanese expats queue to cast their votes for the May 15 legislative election at Lebanon's Consulate in the Gulf emirate of Dubai on May 8, 2022. (Photo by Karim SAHIB / AFP)

في الجزء الأول من هذه المقالة، تطرقت إلى تجاهل المجلس الدستوري ما إذا كان يدخل ضمن صلاحية مجلس النواب التشريع في مسألة استبدال الانتخاب بتمديد ولاية المجالس البلدية والإختيارية القائمة. في الجزء الثاني والأخير أتطرق إلى مخالفات أخرى تضمنها قرار المجلس الدستوري رقم 2023/6.

المخالفة الثانية:

ورد في قرار المجلس الدستوري رقم 2023/6 “أن من الثابت أن ولاية المجالس البلدية والاختيارية المنتخبة عام 2016 كانت تنتهي مبدئيا في شهر أيار/مايو 2022، وانه جرى تمديدها لغاية 31 أيار/مايو 2023 بموجب القانون رقم 258 تاريخ 12 نيسان/أبريل 2022 وان القانون المطعون فيه مدّدها حتى تاريخ أقصاه 31 ايار/مايو 2024، وحيث أن تقاعس الإدارة، التي كان لديها متسع من الوقت للتحضير للانتخابات واجرائها قبل انتهاء الولاية وفي المواعيد التي حدّدتها، لا يبرّر تمديد تلك الولاية وتركها لإرادة تلك الإدارة لمدة سنة، إذ أنه يظلّ ثمة احتمال ان تتقاعس مجدداً حتى نهاية المهلة وتضع المجلس النيابي مرة جديدة أمام الأمر الواقع”.

لقد أدرك المجلس الدستوري من خلال هذه الحيثية أن الإدارة سوف تتقاعس مجدداً وستمدد الولاية سنة فسنة واضعة مجلس النواب أمام الأمر الواقع، ومع علمه بذلك قرر مجاراة الإدارة وبعد تأكيده على أن القانون المطعون فيه مخالف لمبدأ دورية الانتخابات ذي القيمة الدستورية، وللفقرة “هـ” من مقدمة الدستور وللمادة 16 منه، فإنه قضى بعدم ابطال القانون المطعون فيه عملا بمبدأ استمرارية المرفق العام ذي القيمة الدستورية.

الياس مشرقاني: من غير الجائز استمرار الحالة الشاذَة، التي هي في الحقيقة مخالفة دستورية موصوفة، وعدم سبق الموازنة بإقرار قطع الحساب ردحاً من الزمن بات لا ينتهي الى درجة أنَ الشواذ أمسى القاعدة، وأصبحت مراعاة الظروف شمَاعة يعلَق عليها للإحجام عن تنظيم قطوع الحسابات وإقرارها

إن هذا التراخي من قبل المجلس الدستوري في إعمال رقابته على دستورية القوانين، والتغاضي عن تعديلات واستثناءات متتالية في قضايا عديدة، دفع بالعضو السابق للمجلس الدستوري د. انطوان مسرة إلى القول بأن “تجاهل هذه القوانين (أي قوانين الاستثناءات) في الممارسة والتطبيق تحججًا بأوضاع وظروف وتبريرًا لتعديلات واستثناءات متكرّرة يُؤسس، وطيلة سنوات، لحالة لاقانون non-droit حيث يفقد القانون صفته المعيارية ويتحول الى أداة لشرعنة أمر واقع ونفوذ” (مخالفة د. انطوان مسرة للقرار رقم 2019/20 تاريخ 3 حزيران/يونيو 2019). وبالفعل أرسى المجلس الدستوري في هذا الحكم محل التعليق لقاعدة “نفوذ الأمر الواقع” واستعاض به عن الحالة الدستورية المنوط به حمايتها.

وكان سبق أيضاً لهذا المجلس أن أعلى الأمر الواقع على نصّ الدستور وذلك في معرض النظر في الطعن بقانون الموازنة حيث تمنع المجلس لأول مرة عن إبطال قانون الموازنة لعدم سبقه بقطع حساب الموازنة وذلك بموجب القرار رقم 2018/2 تاريخ 14 أيار/مايو 2018، فوجدت السلطة باباً تتسلل منه للإحجام عن إقرار قطع حسابات الموازنة فكررت ذلك في موازنة العام 2022 وكرر المجلس الدستوري ذات الموقف حيث قضى أنه :”لا يرى المجلس ما يوجب ابطال القانون المطعون فيه لعدم سبقه بقطع الحساب لأن البديل، أي عدم إقرار الموازنة ونشرها، يؤدي الى إطلاق يد الحكومة في الانفاق دون تحديد أي سقف له، ما يشكل خللاً أكبر في النظام العام المالي ويلحق ضرراً فادحاً بمصالح البلاد العليا (القرار رقم 2023/1 تاريخ 5 كانون الثاني/يناير 2023).

وقد دفع هذا التمادي بمخالفة الدستور بغطاء من المجلس الدستوري بعضو المجلس الدستوري الياس مشرقاني إلى إعداد مخالفة وازنة تضمنت ما يأتي: “من غير الجائز استمرار الحالة الشاذَة، التي هي في الحقيقة مخالفة دستورية موصوفة، وعدم سبق الموازنة بإقرار قطع الحساب ردحاً من الزمن بات لا ينتهي الى درجة أنَ الشواذ أمسى القاعدة، وأصبحت مراعاة الظروف شمَاعة يعلَق عليها للإحجام عن تنظيم قطوع الحسابات وإقرارها، وأنّ المجلس الدستوري في قراره رقم 2018/2 الآنف ذكره سبق أن نبّه إلى ضرورة أن يجري سريعاً وبدون تباطؤ وضع قطع الحساب وفق القواعد التي أملاها الدستور، وأن عبارة ”سريعاً وبدون تباطؤ” لا يمكن أن تستمرّ المخالفة تحت ستارها لسنوات عدَة لا حدّ لها ولا أفق، خاصة أنّ المخالفة تلك امتدت على مدى موازنات خمس متتالية بدون أن يحرّك المجلس النيابي الركود الضارب بعملية إنجاز قطع الحساب المطلوب كما أنّه ليس ثمة ما يبشّر بعدم جعل الإستثناء قاعدة لا بل عرفاً، فندخل في المحظور الأكثر خطورة على الوضع الدستوري، وأنه وللأسف، فإنّ ”خرق الدساتير تقوم به الأطراف التي يناط بها تطبيق الدستور والتي تمتلك صلاحيات دستورية” (مخالفة عضو المجلس الدستوري القاضي الياس مشرقاني للقرار رقم 2023/1 تاريخ 5 كانون الثاني/يناير 2023).

وبالعودة إلى القرار محل التعليق، فإنه لم يكتفِ فقط برد مراجعة الإبطال بل إنه في حيثياته ذكّر السلطات بأن تمديداً ثالثاً للمجالس البلدية والاختيارية لا بد أنه سيمرّ.

المخالفة الثالثة:

إن مبدأ استمرارية المرفق العام هو من المبادئ القانونية العامة التي اقرها الاجتهاد الاداري واعتبره المجلس الدستوري من المبادئ ذات القيمة الدستورية (القرار رقم 2000/4 تاريخ 22 حزيران/يونيو 2000 والقرار رقم 1999/1 تاريخ 23 تشرين الثاني/نوفمبر)، وفي الحكم محل التعليق أكد المجلس أن الدستور هو القانون الأسمى في الدولة، هدفه انتظام عمل المؤسسات الدستورية من اجل استمرارية المرافق العامة في تسيير شؤون المواطنين واستنادا الى هذا الهدف، أن دخول البلاد في وضع شاذ وغير مألوف يملي على المجلس الدستوري ان يوازي بين الضرر الناجم عن المخالفة الدستورية وبين الضرر الناجم عن الابطال الذي يمس مبدأ استمرارية المرٍفق العام ذي القيمة الدستورية، حفاظا على مصلحة البلاد العليا التي وضع الدستور من اجلها”.

إقرأ على موقع 180  افتكاك فلسطين.. هل هو واقعي وممكن؟

من خلال هذه الحيثية تسلل المجلس الدستوري ليراقب عمل الإدارة ويتحقق مما إذا كانت أحسنت تسيير المرفق العام أم لا، مع أن اختصاصه محصور فقط في التحقق مما إذا كان القانون الصادر عن مجلس النواب يمس باستمرارية المرفق العام.

إن هذا التجاوز في التفسير أدى إلى حلول المجلس الدستوري محلّ مجلس شورى الدولة ومجلس النواب وكلاهما جهتان منوط بهما مراقبة الإدارة ومحاسبتها في حال حصل خلل في سير المرفق العام سيراً طبيعياً، وإذا تتبعنا اجتهاد مجلس شورى الدولة حول المسألة نجد مثلاً أنه قضى :”ان ما أدلي به لجهة مخالفة مبدأ استمرارية المرفق العام لا يستقيم قانوناً ولا يعتدّ به لأن تأمين استمرارية المرافق العامة يشكل موجباً ملقى على عاتق السلطة العامة (قاضي العجلة، قرار رقم 2023/535 تاريخ 26 أيار/مايو 2023 شركة دنش للمقاولات والتجارة/ مجلس الإنماء والاعمار والجامعة اللبنانية)، أو يقضي بأن حصول توترٍ وأجواء مشحونة في البلدة نتيجةً لصدور القرار بكفّ يد رئيس البلدية، لا تبرر إتخاذ القرار المطعون فيه (بالرجوع عن قرار كف اليد)، لأن الإشكالات الأمنية والأجواء المشحونة لا تشكل سبباً يبرر الرجوع عن القرارات الإدارية، وإن الأخذ بخلاف ذلك من شأنه السماح للمواطنين بمخالفة القوانين والأنظمة وبافتعال الإشكالات الأمنية لحمل الإدارة على الرجوع عن قراراتها (م.ش. قرار رقم 2017/1147 تاريخ 2 آب/أغسطس 2018 الدكتور وائل شلق/ الدولة، وزارة الداخلية والبلديات).

إن هذا التجاوز في التفسير أدى إلى حلول المجلس الدستوري محلّ مجلس شورى الدولة ومجلس النواب وكلاهما جهتان منوط بهما مراقبة الإدارة ومحاسبتها في حال حصل خلل في سير المرفق العام سيراً طبيعياً

وحيث أن مجلس شورى الدولة في كلا القرارين المذكورين رفض ذرائع الإدارة بالظروف الطارئة أو بوجوب استمرار المرفق العام، لكي تتخذ قرارات أو تدابير مخالفة للقانون، فكان الأولى بالمجلس الدستوري أن يسير على هذا النهج في الحكم، سيما وأنه يخرج – كما ذكرنا – عن صلاحيته البحث في تسيير الإدارة للمرافق العامة. علماً أن المفاضلة بين تسيير مرفق عام لا يكون من خلال الغاء حق الشعب بتكوين الهيئات المحلية، لأن ما فعله المجلس أنه أعلى بزعمه مبدأ استمرارية المرفق العام على مبدأ مشروعية تكوين السلطات المحلية، إذ وفق تعبير د. عصام سليمان فإن “الانتخابات غير الصحيحة وغير النزيهة والتي لا صدقية لها، تؤدي الى قيام سلطة لا شرعية لها، أي سلطة أمر واقع مفروضة على المجتمع والدولة، ويغدو نظاماً استبداياً، مقنعاً بشرعية مزيفة. فالانتظام العام في الدولة، أساسه انتظام أداء المؤسسات الدستورية، في إطار المبادئ والقواعد التي رسمها الدستور، وأي خلل في انتظام هذا الأداء، يؤدي الى خلل في الانتظام العام في الدولة بجميع مؤسساتها، فالانتظام العام رهن بالتقيد بما نص عليه الدستور (عصام سليمان، المنازعات الانتخابية النيابية: طبيعتها ومفاعيله، الكتاب السنوي للمجلس الدستوري 2018 ص 95).

نعم ما فعله المجلس الدستوري أنه استبدل مبدأ شرعية السلطة وانتظام المؤسسات الدستورية والإدارية بنظرية “الأمر الواقع” التي يبدو أنها أخذت مكانها في الانتظام القانوني اللبناني.

(*) راجع الجزء الأول من هذه المقالة: مجلس صيانة الدستور أم صيانة السلطة

Print Friendly, PDF & Email
عصام نعمة إسماعيل

أستاذ مادة القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  الإستبداد الذي لا بد منه.. صندوق النقد نموذجاً