الفلسطينيون وتدبير الصراع.. تحولات القيم والاستجابات

يُواصل الفلسطينيون مواجهة واحدة من أعتى قوى الاحتلال والإبادة العرقية والثقافية. يحدث ذلك بكل القوة والدافعية الممكنة لدى شعب يخوض مقاومة ممتدة منذ عدة عقود، ويريد أن يثبت جدارته وأهليته بين الأمم والشعوب.

سلك الفلسطينيون سُبلاً مختلفة للمقاومة، المقاومة بالسلاح والمقاومة بالسياسة والمفاوضة، منذ فترة الانتداب البريطاني في عشرينيات القرن العشرين، أي قبل قيام إسرائيل على أرضهم في العام 1948 وحتى اليوم. وتخلل ذلك انتفاضات وثورات، وتهجيراً واسع النطاق مما يعرف بـ”أراضي الـ48″ والـ”67″، وصولاً إلى حرب غزة (تشرين الأول/أكتوبر 2023)، والتي تعدها بعض التقديرات “حدثاً فاصلاً” في تاريخ الصراع.

ولا تزال قضية فلسطين جرحاً نازفاً في الإقليم والعالم، وليس من المتصور كيف يمكن التوصل إلى حل/تسوية للصراع. لا من منظورهم هم، ولا من منظور أعدائهم. إذ تُقدِّم الأطراف منظورات مختلفة حدّ التناقض. يمكن الحديث عن مشروعين متناقضين بشكل جذري، ولا ينهض أحدهما إلا على أنقاض الآخر، وكلما تقدم أحدهما تراجع الآخر، والعكس. وأما المنظورات التسووية فهي غير متوازنة وغير عادلة وغير شاملة، والأهم هو أن الاتفاقات التي تمت بين إسرائيل والفلسطينيين لم تطبق أو طُبّقت بشكل مشوه.

تبدو القضية الفلسطينية لغزاً غير قابل للحل أو التفكيك. ثمة تقديرات ومقاربات كثيرة، بدءاً من اتفاقات أوسلو (1993) إلى مشروع “صفقة القرن” (2019)، وما يُعرف بـ”الاتفاقات الإبراهيمية” بين إسرائيل وعدد من الدول العربية برعاية أمريكية (2020). ومع ذلك تبدو التسوية بين الفلسطينيين وإسرائيل أقرب للاستحالة، خاصة بعد حرب غزة (تشرين الأول/أكتوبر 2023)، وبالتالي لا يزال الصراع هو “سيد الأحكام”.

لقد أعاد حدث غزة القضية الفلسطينية إلى دائرة الاهتمام، وواجهة الحدث الإقليمي والعالمي اليوم. وكان التقدير أن القضية تجاوزت أو قطعت مع (أو تحولت من) “الصراع الصفري” إلى صراع أو “واقع “هجين” بين التسويات والمواجهات والمقاومات والحروب الخ.

المفارقة أن الاتجاهين الرئيسين بين الفلسطينيين، وهما اتجاه التسوية واتجاه المقاومة، يصدران عن شعور متماثل تقريباً، حيال حجم الفارق في اعتبارات القوة بينهم وبين إسرائيل، ويتجلى ذلك في نمطين مختلفين من الاستجابة

إن حدث غزة هو نتيجة سيرورة العلاقة بين قوتين متناقضتين، كما تتكرر الإشارة، الاحتلال من جهة، والمقاومة من جهة ثانية، مع تداخلات إقليمية ودولية نشطة. والصحيح أن الحدث كشف عن ديناميات فعل وردة فعل خالفت تقديرات فواعل السياسة والفكر، بل عاكست في جانب منها ما حاولت خطط ومشروعات التسوية والتطبيع أن تقوله للإقليم والعالم. والصحيح أيضاً أن المواجهات مستمرة بين الفلسطينيين وإسرائيل، والتي أخذت تحدث بشكل شبه دوري، إلا أن حدث غزة جاء فارقاً وصادماً وخارج التوقع، بل انه ذهب بكثير من التقديرات والقراءات حول التسوية والتطبيع أو أنه أجلها في الأمد القريب وربما المتوسط، ولن نذهب أبعد في التقدير، إلا أن التغيير في المدارك والقيم واتجاهات القوة والمعنى بين الأطراف ـ وخاصة المزاج الاجتماعي والشعبي المسيس ـ سوف يجعل الأمور تتسارع وتتخذ طابعاً أكثر راديكالية، فيما تتواصل الضغوط الإقليمية والدولية من أجل تخفيف النمط واحتواء الانزلاقات الخطرة، ثم الدفع بالتسوية مجدداً.

فعل الفلسطينيون الكثير من أجل تحرير بلدهم من الاحتلال، وتحرير أنفسهم مما هم فيه، على الرغم من إدراكهم أنهم يخوضون صراعاً “غير متكافئ”، وفي عالم يشهد اختلالاً كبيراً في موازين المعنى والقوة، لمصلحة عدوهم بالطبع. وهم يدركون أن الاستسلام يعني الفناء والاندثار بما هم جماعة قومية تريد ـ ويحق لها ـ أن تعيش في إطار دولة وطنية، وليس مجرد جماعة أو جماعات تعيش في دولة أو دول غيرهم، حتى لو كانوا عرباً مثلهم. الأصل ـ بالنسبة إليهم ـ هو أن يكونوا في إطار دولة للاستقرار والاستمرار بما هي “دولة فلسطينية”.

قد يبدو الكلام بعيداً جداً، باعتبار أحوال وأهوال غزة اليوم، أو مُستعاداً من خطاب سياسي كان رائجاً في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. ولا خيارات كثيرة أمامهم، إلا أن يُفكّروا بأنفسهم كـ”جماعة قومية” أو “وطنية” تتطلع لأن تكون لها “دولة” في ما يُعرف بـ”فلسطين التاريخية”.

تختلف تقديرات الفلسطينيين، أعني: فواعل السياسة والتنظيمات والفصائل وغيرها، وقد ينسحب جانب من ذلك على اتجاهات القيم في الاجتماع الفلسطيني، بين:

  • من يراهن على التسوية بوصفها خياراً استراتيجياً، ليس لقناعات عميقة بها، بقدر ما أنه تكيف مع إكراهات السياسة والاختلال الحاد في موازين القوة بين الفلسطينيين وإسرائيل، وعلى مستوى الإقليم والعالم لمصلحة إسرائيل.
  • من يراهن على المقاومة بوصفها خياراً استراتيجياً، وان المشروعات المطروحة أمام الفلسطينيين ليست من أجل الحل أو حتى التسوية بين طرفين، بقدر ما انها مشروعات لتفكيك قضية فلسطين وتحويل الفلسطينيين من جماعة قومية أو وطنية، لها الحق في إقامة الدولة في فلسطين، إلى جماعة اجتماعية ثقافية من دون طموحات وتوجهات سياسية دولتية؛ أي تحويل الموضوع من قضية وجود ووطن إلى قضية انثروبولوجية وثقافية وسوسيولوجية لها أبعاد سياسية!
إقرأ على موقع 180  الحرب الناشبة ضد فلسطين.. أمريكا شريكة في الإبادة!

المفارقة أن الاتجاهين الرئيسين بين الفلسطينيين، وهما اتجاه التسوية واتجاه المقاومة، يصدران عن شعور متماثل تقريباً، حيال حجم الفارق في اعتبارات القوة بينهم وبين إسرائيل، ويتجلى ذلك في نمطين مختلفين من الاستجابة:

  • الأول يرى أن فارق القوة يجعل من المقاومة أمراً مستحيلاً، وبالتالي لا بد من التوجه نحو التسوية على أمل الحصول على مكاسب، وأنه كلما تأخر الموضوع كلما تضائل العائد المتوقع من “التسوية”.
  • الثاني يرى أن الاستسلام للقوة والدخول في تسوية هو مدخل لتفكيك مديد أو طويل الأمد للقضية، باعتبار أن الاستسلام هو مسار لـ”التسليم” بما يريده الطرف القوي، وكلما تقدم مسار التسوية كلما تضاءلت القدرة على التمسك بالحقوق.

وإذ يمضي الفلسطينيون في خيارات متعاكسة، حيال الصراع مع إسرائيل، فإنهم يواصلون بذلك ـ مع عوامل أخرى ـ تقسيم أو تدمير “الحس المشترك” والشعور الجمعي بأنفسهم، بما هم جماعة قومية أو وطنية، ليكون الحديث عن “أمتين” أو “مجتمعين” أو “اتجاهي فعل”، يتحركان في أفقين مختلفين:

  • واحد يريد التسوية، حتى لو كان العائد قليلاً، لكن “يجدون على ذلك أعواناً”، بالتعبير القرآني.
  • والآخر يريد المقاومة حتى لو كانت الأثمان كبيرة، ولكن “يجدون على ذلك أعواناً” أيضاً.

ويبدو أن تحولات كثيرة حدثت على صعيد القيم والاتجاهات والسياسات وبالطبع الوقائع، لم تُوعََ بالشكل المناسب. وثمة اختلال عميق في فهم العالم، وفهم الإقليم، وفهم العدو، وبالطبع فهم “الأنا” أو “الذات”، وهذا لا يقتصر على الفلسطينيين، بل يكاد يشمل شعوب وأمم ومجتمعات ودول الإقليم أيضاً.. وهو ما أعطب أو عطّل ـ حتى الآن ـ وعي الفلسطينيين والعرب بـ”بداهة الصراع” وبالتالي “بداهات الاستجابة”.

Print Friendly, PDF & Email
عقيل سعيد محفوض

كاتب وأستاذ جامعي، سوريا

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  أمريكا مُثقّلة بـ"الديون الزيلنسكية".. على حساب من؟