بمعنى آخر، يفترضون أن لا شيء آخر يدفع الحكام وغيرهم من رجال ونساء السياسة لاتخاذ ما يتخذون من قرارات ومواقف وما يمارسون من سياسات، لا شيء إلا أنهم جميعًا مقتنعون، صراحة أو ضمنًا، أن الصراع بين الأقطاب على مواقع في قيادة العالم بدأ فعلاً، وأنه مع هذا البدء صارت جميع النخب الحاكمة والقوى القريبة منها تعتقد أن الفرصة حانت ويجب ألا تفلت.
سمعتها على لسان أكثر من صانع سياسة، وسمعتها تتردد على لسان أكثر من سياسي معارض في أكثر من دولة. لكل فرصته، والكل عازم على حمايتها ومستعد لبذل ما يملك في سبيلها، متيقنًا أنها من نوع لا يتكرر كل يوم أو كل عام. الفرصة لم تتح بشكلها الراهن إلا بعد أكثر من سبعين سنة. نرى آثار هذا الصراع، وهذا التعلق المستميت بالفرصة، في كل نشرة إخبارية مصورة، وتهزنا هزًا بعض لفحاتها الحارة، وتكاد بسببها تتوقف حركة الأشياء والحياة العادية، أحيانًا لساعات وأحيانًا لشهور وسنوات، وقفات حادة نعيشها هذه الأيام شهودًا عليها أو شركاء فيها.. ومن هذه الوقفات:
أولاً؛ “فاغنر” وبوتين:
واحد من الإثنين هدّد بإضاعة فرصة من أجل فرصة أخرى لاحت له. اشتبكا في صراع سخيف حول السلطة العسكرية، وفي ظل سوء فهم للتطورات المحيطة بهما. ومع ذلك، لم يكن هذا وحده هو جوهر حكاية “فاغنر” وبوتين.. ففي الجوهر عناصر أخرى مثل طموحات وترهل المؤسسات الروسية، وخلافات العسكريين، وخزائن القنابل النووية، وطبيعة حكم الرجل الفرد، والتشوه حين يضرب وبعنف ثقافة أمة، والطغيان حين يصبح سمة سلوك الأغنياء، والسباق على ثروات إفريقيا تشبهاً بالغرب، والتخطيط السيئ لحرب أوكرانيا، والأداء غير اللائق فيها.. كلها، وليس التمرد وحده، شكّلت جوهر الحكاية، حكاية “فاغنر” وبوتين. حانت الفرصة لكليهما، وضاعت ولن تستعاد.
ضربة “فاغنر” للرئيس بوتين كانت موجعة، وربما سوف تبقى أحد أهم أسباب الانحدار الثاني لمكانة روسيا في مواقع القيادة الدولية في المستقبل. لا أقول جاءت لمصلحة الصين، فالصعود الصيني تجاوز بعقود حلقة الحاجة لدعم الجار الروسي أو غيره
للجوهر حواش لا يخلو منها أمر له صلة بحال العلاقات بين الكبار. لكل دولة كبيرة، وفي الغالب لكل دولة صاعدة أو متطلعة، مجمع عسكري اقتصادي. عرفناه على لسان الجنرال أيزنهاور حين آل على نفسه ألا يترك الحكم في واشنطن إلا بعد أن يدلي بتحذير للأمة الأمريكية من تهديد هذا المجمع لأمنها واستقرارها ورخائها. كانت شركة “فاغنر” صرحًا مهمًا من صروح المجمع العسكري المالي والإجرامي في الدولة الروسية، وأحد أعمدة السباق الاستعماري في أفريقيا، وعلامة من علامات صراع السباق على مواقع في قيادة العالم في المستقبل.
كانت ضربة قاسية لنظام الرئيس بوتين، وله شخصيًا، تلك التي وجهها قائد شركة “فاغنر”. أصابت بالضرر المكتوم علاقات روسيا الخارجية ومكانتها وبخاصة في دول الجوار؛ حيث يهجع أمن القلب الروسي منذ مئات السنين. كانت، وفي ظني، في بعض مراحلها ثمرة جهود أجهزة بريطانية بمساعدة أمريكية. بريطانيا، كما أراها، عادت تمارس بحرية أنشطة خارجية بعد أن تحللت من قيود الإنتماء للإتحاد الأوروبي.. وأوكرانيا إحدى ثمار هذه الحرية المستعادة.
لا حاجة لنا بخبرة مرموقة في ميدان العلاقات الدولية في زمن انتقالي لندرك أن ضربة “فاغنر” للرئيس بوتين كانت موجعة، وربما سوف تبقى أحد أهم أسباب الانحدار الثاني لمكانة روسيا في مواقع القيادة الدولية في المستقبل. لا أقول جاءت لمصلحة الصين، فالصعود الصيني تجاوز بعقود حلقة الحاجة لدعم الجار الروسي أو غيره. يبقى في المؤامرة غموض وتصرفات لا تعتمد المنطق ولا يقبلها العقل، ولكنها في كل الأحوال جاءت منسجمة مع مزاج أعمال وسلوكيات العنف، وكلها صارت من سمات المرحلة الانتقالية في العلاقات الدولية، تكاد لا تخلو منها السياسة والسلوك الاجتماعي في أي دولة شرقية كانت أم غربية، شمالية كانت أو جنوبية.
ثانيًا؛ مؤتمر باريس:
انعقد مؤتمر باريس لإصلاح المؤسسات المالية الدولية، وهو مؤتمر بالغ الأهمية لكنه لم يُخلّف أثرًا بقدر هذه الأهمية البالغة. يأتي المؤتمر متأخرًا. كان يجب في أحسن الأحوال أن يأتي في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عامي 2007- 2008، وبنوايا وخطط أطيب. خطورة هذا المؤتمر، من الناحية النظرية على الأقل، أنه قد يتسبب ـ إن فشل أو تباطأ ـ في تخلف الجهود الحثيثة المبذولة من أجل تمهيد أرضية القمة الدولية وهياكل وأبنية النظام الدولي استعدادًا لنظام جديد بقيادة جديدة وفكر جديد. قالها صراحة أنطونيو جوتيريش، الرجل المكلف برعاية هذه الهياكل والأبنية، بعد أن توصل، دون أن يفصح، إلى أن الإصلاح جهد ضائع، إنما الحاجة تستدعي نظامًا مختلفًا يعتمد على واقع كاد يختلف جوهريًا عن الواقع الذي تعيش فيه شعوب هذا العالم، وبخاصة شعوبه الفقيرة والأكثر عددًا. التجانس ينعدم بين المؤسسات المالية الراهنة، كما المؤسسات السياسية والرئيسة في المنظومة الدولية مثل مجلس الأمن، وبين الأوضاع الحقيقية على أرض الواقع. الخلل حقيقي، والثقة المتبادلة منعدمة، والأزمات تتلاحق، والعلاجات – إن وجدت – فسطحية، والحال في مجمله رهيب، بل ومتسبب بدرجة أو أخرى في إبقاء نيران الغضب والعنف في كافة أنحاء العالم مشتعلة؛ ولهيبها يتعدى الحدود، ويتجاوز القوانين، ويُهدّد السلام والاستقرار حيثما وجدا.
يتجاهلون أو لعلهم يتنكرون لحقيقة أن الحاجة ماسة لوضع قواعد جديدة تنظم الكثير من أنشطة ومؤسسات العمل الدولي في كل المجالات، وليس فقط في قواعد عمل المؤسسات المالية. ليس سرًا ولا خافيًا أن من وضع القواعد القائمة لا يريد ولا يتمنى أن يراها تتغير. تغيّرت أوزان جميع الدول في مختلف مؤسسات العمل الدولي، ولم تتغير القواعد. لن تفيد التغييرات الجمالية والشكلية، فالأزمة الاقتصادية الدولية ناجمة عن تغيرات جوهرية في أسس النظام الدولي، وليس في تفرعاته وصياغة أساليبه، أو في مسوغات ومواصفات القائمين على إدارته.
ثالثًا؛ الهند والصين:
أغرقونا بمواد إعلامية وأكاديمية في محاولات جادة لإقناعنا بأن الهند طرف مناسب في منظومة متخيلة لنظام دولي جديد. المعلومات الحقيقية ما تزال تؤكد أن الهند بعيدة عن أن تتساوى بالصين أو تقترب منها. سمعت من أكاديمي هندي أحترم علمه ومعلوماته أن القيادة الهندية، وإن كانت ترحب بالحملة الغربية التي تقودها أمريكا لرفع مكانة الهند المتخيلة إلى أعلى مما تستحقه، إلا أنها غير قادرة فعليًا وبإمكانات الهند وظروفها السياسية الراهنة أن تحتل مواقع في القيادة الدولية هي غير مؤهلة لها، أو على الأقل لم تحن الفرصة لها لتفعل ذلك. نعم المنافسة مع الصين على النفوذ في جنوب آسيا ووسطها واجبة، وربما مفروضة عليها، وبخاصة في مناطق الحدود الصعبة، ولكن السباق مع الصين يبدأ الآن وتحت الضغط الأمريكي من مواقع غير متقدمة؛ فالصين بدأت الصعود مبكرًا وفي ظروف أفضل.
أتمنى للصين والهند مواصلة طريق الصعود، ولكل منهما الإمكانات التي تؤهله لموقع مرتفع، ولكني أرى لهما الازدهار إن سلكا طرق الصعود بعيدًا عن ضغوط وإيحاءات الأحلاف العسكرية والسياسية، وبخاصة تلك التي تنجر إليها الهند جرًا مع أستراليا واليابان
لا معنى إطلاقًا لاعتبار الهند في ظروفها الراهنة خصمًا للصين أو متسابقة معها على نفس المستوى لمجرد أنها تجاوزت ذات يوم في الشهور الأخيرة بمولود جديد عدد سكان الصين. المنافسة في المرحلة الراهنة غير مبررة، بل ضارة بشعبي البلدين، وقد حذر من الوقوع في فخها “لي كوان يو” القائد القوي الذي صنع من سنغافورة لؤلؤة التقدم والتحضر معًا في جنوب آسيا في وقت مبكر. أعرف الكثير أو القليل عن الهند، وأعرف الكثير أو القليل عن الصين. أتمنى لكليهما مواصلة طريق الصعود، ولكل منهما الإمكانات التي تؤهله لموقع مرتفع، ولكني أرى لهما الازدهار إن سلكا طرق الصعود بعيدًا عن ضغوط وإيحاءات الأحلاف العسكرية والسياسية، وبخاصة تلك التي تنجر إليها الهند جرًا مع أستراليا واليابان؛ فللمنافسة مع الصين ثمن يمكن أن يلتهم عائد الإنجاز في كل نواحي التقدم والصعود. ثم أن الهند ما زالت تواجه صعوبات اجتماعية وسياسية تزيد عنفًا وقسوة وصلابة عن مثيلاتها في الصين، وبخاصة ناحية العلاقات بين الأديان والقوميات والطوائف، حتى أن قضية العلاقة بين الأغلبية الحاكمة في الصين والأقلية الإيغورية في الشمال الغربي تصبح بسيطة إذا قورنت بالعلاقة بين الأغلبية الهندوسية الحاكمة في الهند والأقلية المسلمة المنتشرة في أغلب ولايات الهند وفي مختلف مواقعها الصناعية والتكنولوجية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تظل مسألة النظام الطبقي المتحجر في الهند حجر عثرة في وجه اندماج حقيقي للأمة الهندية. لا شك عندي أن استمرار تحفيز الهند والصين على تصعيد وتسريع المنافسة بينهما خدمة لأهداف نظام دولي تحت الصنع، سيأتي على حساب السلام في آسيا ورخاء وسرعة اندماج كل شعب من الشعبين.
***
الشكوى من تصاعد العنف تتردد في أنحاء متفرقة من العالم. الشرق الأوسط ليس فريدًا، ففي إفريقيا موجات العنف شديدة وكثيرة التردد، وكذلك في مجتمعات أمريكا اللاتينية وأوروبا وفي أمريكا نفسها. الأسباب لا شك كثيرة وبعضها لا شك توطن نتيجة توحش القمع والفقر، ولكن أغلبيتها يمكن أن يجد تفسيرًا وليس تبريرًا له في أن نظامًا دوليًا انفرط بالفعل، وما بقي من معالمه وهياكله لا يمت لحقيقة التوازنات الدولية بصلة، وأن نظامًا دوليًا جديدًا متعثرة خطوات تكوينه.