تابعت وداد بدأب قلّ نظيره إعلاء صوت قضية إنسانية وأخلاقية وعائلية، فتحلّق من حولها طيفُ أمهات وزوجات وآباء وأولاد ينتمون إلى الحكاية نفسها. تجاوز عدد المخطوفين والمفقودين في لبنان الـ 17 ألف شخص. وداد ثابرت وانتزعت تأسيس “لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان”. لم تنتظر قراراً من الأمم المتحدة، بل تلقّت ورفيقاتها هراوات قوى الأمن أمام السراي الحكومي والبرلمان في العام 1983، على مرأى من عشرات الصحافيين والصحافيات، وكنتُ بينهم أشاهد بعينيّ ذاك المشهد. أصاب الصمم قادة ميليشيات الحرب الأهلية تجاه هذه القضية. وعندما فاحت روائح المقابر الجماعية ازداد الصمت وحالت السلطات المتعاقبة دون تحقيق الهدف الذي نشأت لأجله الهيئة الوطنية للمفقودين والمخطوفين، بموجب القانون 2018/105.
وما هي مناسبة هذا الكلام؟
أولاً؛ صدور كتاب “طواحين الهوى” حديثاً وفيه شهادات لخمس عشرة إمرأة فقدن أحبتهن في الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990).
ثانياً؛ الضجة التي أثيرت مؤخراً حول حياد الموقف اللبناني الرسمي من التصويت على تشكيل الأمم المتحدة لجنة لتقصي مصير المفقودين في سوريا منذ العام 2011.. و”لأن الصمت هيبة”، كما في “نهج البلاغة” لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب، كم تمنينا لو أن الذين اقتنصوا فرصة الكلام باعتراضهم أن يلتزموا الصمت، ولا سيما النواب منهم، لأنهم لم يسألوا أنفسهم ولا من سبقهم عما قامت به الدولة اللبنانية بكل مؤسساتها لإيجاد حل إنساني لهؤلاء ولم يفتح قادة الحرب الأهلية الأبواب أمام الحقيقة المؤجلة. ثم، هل من عاقل يمكنه الوثوق بقرارات الأمم المتحدة ونزاهتها؟ أليست إسرائيل ما تزال تضرب بعرض الحائط تلك القرارات قبل جفاف حبرها؟
وداد التي تابعت الحكاية ورسمت من خلالها أشواطاً من تحدي عجز الآخرين/الأقوياء/ذوي السلطة. رسمت وداد حكايتها التي امتزجت ومزجتها بعناد مع حكايات أهالي المخطوفين والمفقودين، وأعطت لهذا المسلسل الدرامي عنوانه، مضمونه، وبنوده، ولاحقتهم بجرحها النازف مع زميلاتها بقهر الجرح المستنزف فحققت بعض أوراق رسمية
***
التمهيد للكتاب تضمن نصاً للجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان تضمن الآتي: “فجأةً، اكتشفنا أنّه انقضى أربعون عاماً على بدء تحرّكاتنا في الشارع بحثاً عن أحبّائنا.. مرّت الأربعون كنّا خلالها منشغلات البال، شديدات القلق. لم نعرف نهارنا من ليلنا. لم نعرف الصيف من الشتاء.. لم نعد نعرف كيف نفرح ولا كيف نحزن.. لم نعرف إن كان أحبّاؤنا ما زالوا أحياء أم صاروا أمواتاً”..
في البداية لا بد من توجيه التحية لمن باحوا، وسطّروا مشاعرهن في تلك الورشة للكتابة الأدبية التي قادتها الكاتبة فاطمة شرف الدين من أجل “توثيق هذه القصص بالكتابة لكي تبقى وتُقرأ من جيل إلى جيل”.
توثيق الذاكرة بتوثيق الألم! توثيق القصة عن المخطوف، لتوثيق جريمة مُرتكب الخطف، ولامبالاة ذوي الشأن للقضية، وانكشاف قناصي الفرص بتوثيق غباءاتهم.. “هذه حكايتي” تروي فاطمة جمال التي فُقدت أختها حلميّة علي جمال مع أطفالها الستة: ألفت، أحمد، حياة، زينب، نيفين ومصطفى في منطقة النبعة عام 1977. تقول إن أصغر أحلامها “معرفة مصير أختي مهما كان هذا المصير”. حكايات تليها حكايات لن يمحوها قرار العفو العام بعد انتهاء الحرب الأهلية، ومن يمحوها؟ ومن يمحو معنى أن تكون إنساناً لا هيكل إنسان؟
فردوس آغا التي كبرت مع سنواتها لكن “لم يزل إسم أبي يرنّ في آذاننا، أحزن على اختفائه، إذ لا قبر أزوره لأشكي له همّ الحياة.. أين هو؟ أين أبي؟ من رآه”؟
أما سُهاد كرم، فتطلب من زوجها سالم كرم الذي فُقد في 1 شباط/فبراير 1983 أن يسألها: اسألني: هل تفتقدونني؟ هل حاولتم كلّ الطرق لكي أعود إليكم؟ وتروح تحكي وتروي وتقص له حكايات أنني صرت “مهجّرة وزوجة مخطوف” مع أنك تبقى الهم الأكبر يا سالم! ماذا عن وحدتك القاسية؟ فأنا لا أريد أن أتخيّل إلا أنك عدتَ. ترى هل سيكون ذلك في الصيف أم في الشتاء؟ ما همّ! ننتظر معاً.. الانتظار هو ما تفعله والدة جورج أبو نكد: “لن أترك الشباك، ماذا لو مرّ من دون أن أراه، ماذا لو أتى ولم يجدني”؟
أزمان تلو أزمان مرّت عليهن، ومروا بها، وعبروا، وانتظروا، وعاشوا حضور الغياب وغياب الحضور. شعور إختلطت فيه كل انواع المشاعر البشرية. لم يعش سواهم تلك التجربة المُرّة. القلق عندهم غير القلق عند الآخرين، والانتظار له طعم الموت وولادة المجهول في آن. رهبة التعايش مع الاحتمالات بلغت الذروة في مأساتهم.. فُسُحات الحب في حياتهن تكوّرت في بعدٍ واحد. وتكوكبت في لحظة زمن فارقة.. لحظة كانت من كلمتين نطقتهما وداد حلواني: خطف حبيبي.. وداد التي تابعت الحكاية ورسمت من خلالها أشواطاً من تحدي عجز الآخرين/الأقوياء/ذوي السلطة. رسمت وداد حكايتها التي امتزجت ومزجتها بعناد مع حكايات أهالي المخطوفين والمفقودين، وأعطت لهذا المسلسل الدرامي عنوانه، مضمونه، وبنوده، ولاحقتهم بجرحها النازف مع زميلاتها بقهر الجرح المستنزف فحققت بعض أوراق رسمية للتقصي والمتابعة، وما تزال، لكن حكاية السلطة أقوى. هذا ما يقوله التاريخ وما تشي به الوقائع.
عندما يطرح أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان قضيتهم وروايتهم، لا يفعلوا ذلك لأن النسيان أقوى، بل على العكس من ذلك، أرادوها مفتوحة لأن جرحهم ما يزال مفتوحاً بلا علاج يشفي. تكويهم الأيام، وتفتح لهم جراحات فرعية/أساسية ترتبت على فعل الغياب. فكيف يُعقل أن يكون الجلاد حاكماً وقاضياً، كما تقول ليلى عن مصير شقيقها المفقود أنطوان؟ وكيف لمريم سعيدي أن تبحث عن إبنها ماهر قصير المفقود من مكان تواجده في الجامعة اللبنانية في الحث يوم 17 حزيران/يونيو 1982 فقررت دراسة الفنون التشكيلية، وأقامت له معارض، وزرعت زيتونة قرب الجامعة في الحدث، ونحتت له مجسماً “ذاك المجسّم أدخل إلى وريدي رعشة ولادته من جديد”. وعن نبال رضوان وشقيقها المفقود في “واقع يفوق الخيال”، أم سعاد الهرباوي التي تروي حكاية أمها التي قضت حياتها تتسوّل حقيقة مصير إبنها المخطوف أحمد، ووصيتها لسعاد أن تخبرها بعد وفاتها عن معرفة مصير أحمد “كي يثلج التراب فوق رأسي”..
“من غير وداع” ليس عنواناً لفيلم درامي، لكنه على لسان مي السيّد أحمد، يُجسّد حقيقة درامية لعائلتها وهي تروي عن والدتها شفيقة حسين التي اختطفت وأشقاؤها الثلاثة رياض ورضى وخير الدين السيّد أحمد من مستشفى بحنس في آذار/مارس 1976، مثلها معاناة حياة ماضي عن “ماضٍ لا يُنسى” التي اختطف والدها أمام أعين الزوجة والأطفال وجدتهم وسط صراخهم، وتهديدات المسلحين، ومثلها أنجاد المعلم التي اختطف والدها عبد الهادي المعلم من مكان عمله في ثكنة الحلو يوم 5 تشرين الثاني/نوفمبر 1984 وكانت ما تزال طفلة، أو يولا فرحات عن والدها أديب فرحات الذي فقد في الحدث سنة 1977 “ولم يعد بعد”. وماذا عن نهاد الجردي التي اختطف إبنها أيمن ورفيقاه أثناء الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، وتشاء الصدف أن تشارك بالورشة الكتابية التي أنتجت “طواحين الهوى” وانتهت يوم 28 حزيران/يونيو 2022 بذكرى مرور اربعين عاماً على اختطاف “فلذة كبدي أيمن”، تقول نهاد.
ليس أخيراً، ولأن فلسطين تبقى الأساس، تبرز حكاية سوسن كعوش وكأنها صحن الدار في المأساة. حكت سوسن عن فقد أخيها محمد أسعد كعوش في الأراضي الفلسطينية المحتلة في 24 كانون الأول/ديسمبر 1980 .
في غلاف الصفحة الأخيرة كتبت الفنانة أميمة الخليل: “دمعة النساء هي قرار بانتهاء النواح وانطلاق المسير”.. هكذا كانت مسيرة لجنة اهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان.