أيهما أكثر تأثيراً.. هارفرد أم هوليوود؟

إذا كانت الديبلوماسية أداة تنفيذية للسياسة الخارجية للدولة، فإنها تقوم على ثلاثة أبعاد أساسية: سياسية؛ اقتصادية؛ وثقافية. ومنذ مطلع القرن التاسع عشر، بدأ البُعد الثالث يأخذ حيّزًا كبيرًا في العلاقات الدولية، باعتباره عاملًا مضافًا ومؤثرًا في تحقيق أهداف السياسة الخارجية، وقد أولته الدول والحكومات اهتمامًا كبيرًا، واتّسعت مكانته في القرن العشرين في ظلّ الصراع الأيديولوجي وحرب المعسكرين الباردة (1946 - 1989).

لا أدري كيف خطر ببالي وأنا أتناول موضوع الديبلوماسية الثقافية، أسماء بعض المثقفين البارزين الذين لعبوا دورًا ديبلوماسيًا أيضًا، وساهموا بما يمتلكون من ثقافة ومعرفة من بلوغ الحدّ الأعلى من الرسالة الديبلوماسية لبلدانهم، كوسيلة من وسائل تحقيق أهداف السياسة الخارجية. أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:

-الشاعر التشيلي بابلو نيرودا (1904 – 1973). عمل ديبلوماسيًا في الأرجنتين وإسبانيا وسيريلانكا، وأصدر العديد من المجموعات الشعرية مثل “عشرون قصيدة حب وأغنية بائسة” الذي أوصله إلى العالمية و”مائة قصيدة حب” ومذكراته التي اكتسبت شهرة كبيرة، وهي بعنوان “أعترف بأنني قد عشت”.

نزار قباني (1923 – 1998). احتلّ موقعًا ديبلوماسيًا مرموقًا ممثلًا لسوريا في كلّ من بريطانيا وتركيا والصين وإسبانيا، وقد كان من إصداراته الأولى “وقالت لي السمراء” و”طفولة نهد”، ومن أشهر مجموعاته الشعرية “الرسم بالكلمات” و”قصائد متوحشة” و”إلى بيروت الأنثى مع حبي” و”أشهد أن لا امرأة إلّا أنت”، التي غنّاها الفنان كاظم الساهر، و”بلقيس” و”هكذا أكتب تاريخ النساء” و”أنا رجل واحد وأنت قبيلة من النساء”.

محمد توفيق، السفير المصري في واشنطن. ولد في العام 1956، وكتب رواية “فتاة الحلوى”، عن دور المخابرات المركزية الأمريكية في اغتيال العلماء المصريين والعرب، وحين تم تعيينه سفيرًا لمصر في واشنطن، كادت أن تحدث أزمة ديبلوماسية بين البلدين، وسبق لي أن قرأت له رواية أخرى بعنوان “ليلة في حياة عبد التواب توتو”.

نجدت فتحي صفوت (1923 – 2013) الديبلوماسي والمؤرّخ العراقي، الذي لبس قبعة الديبلوماسية والمؤرخ والكاتب، ومن مؤلفاته “اليهود والصهيونية في علاقات الدول الكبرى” و”العراق في مذكرات الديبلوماسيين البريطانيين” و”الماسونية في الوطن العربي” و”الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية”.

غازي القصيبي (1940 – 2010)، الشاعر والروائي وسفير المملكة العربية السعودية في البحرين وبريطانيا، ومن مؤلفاته “حياة في الإدارة” و”من جزائر اللؤلؤ” و”حكاية حب” و”العصفورية” و”حديقة الغروب” وغيرها.

ليست الديبلوماسية الثقافية ترفًا فكريًا أو لعبًا في الوقت الضائع، بقدر ما هي حاجة ماسّة، تقاس نجاحات الدولة وقوّتها اليوم بمدى قدراتها الثقافية على تكوين علاقات دولية وتبادل المعلومات والمعارف والفنون، بما يؤدي إلى خدمة الإنسان واحترام حقوقه الأساسية العامة والفردية

وكان لقيام منظمة اليونيسكو، كإحدى هيئات الأمم المتحدة، بعد تأسيسها في العام 1945 دور كبير في الاهتمام بالديبلوماسية الثقافية، لا سيّما في مجال التربية والعلم والثقافة وهي أدوات للقوّة الناعمة، أي بمقدورها إحداث الإقناع المطلوب والتأثير على الآخر عبر القيم والأفكار والفن والثقافة بشكل عام، فليست القوّة العسكرية وحدها الأداة الجديرة بتحقيق أهداف السياسة الخارجية، خصوصًا في ظلّ توازنات دولية دقيقة، بحيث يصبح أحيانًا اللجوء إلى الوسائل العسكرية أمرًا محفوفًا بمخاطر شتّى، وقد تعود سلبًا على الدولة ذاتها بدلًا من تحقيق أهدافها السياسية.

وقد نظّم معرض القاهرة الدولي للكتاب 2023 حلقة نقاشية بعنوان “كتابات ديبلوماسية”، سلّطت الضوء على علاقة الديبلوماسية بالثقافة بشكل عام، والأدب بشكل خاص. ومن نافل القول إن الديبلوماسي كلّما امتلك ثقافة واسعة ومعرفة ومعلومات، كلّما استطاع أن يقدّم خدمة أكبر لبلده، خصوصًا بما يمتلك من قوّة إقناع وحجّة وخبرة، والديبلوماسي المثقف المطّلع والملم بثقافة الآخر ولغته يعرف نقاط قوته مثلما يعرف نقاط ضعفه في الآن. ويعتبر جوزيف ناي أحد الذين كتبوا في ميدان اللّاعنف أن “الديبلوماسية الثقافية” هي أفضل مثال للقوّة الناعمة، أي إمكانية التواصل عبر القيم الثقافية والأفكار دون إكراه أو إرغام، بل عبر الإقناع وجاذبية التأثير والنموذج.

وساهمت العولمة، وخصوصًا ثورة المعلومات والاتصالات وتكنولوجيا الإعلام، بما فيها الثورة الرقمية “الديجيتال” واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي في التبادل غير المسبوق للأفكار والفنون، بما فتح حوارًا موضوعيًا بين ثقافات وأمم وأديان وشعوب عبر البشر المتنوعين والمختلفين مثل تنوّع الحياة التي تزخر بالجديد كلّ يوم، وهو ما قرّب المسافات أيضًا وخلق فرصًا للتفاهم حتى وإن كانت خارج سياق السياسات الرسمية، الأمر الذي زاد من حجم الحيّز الذي تلعبه الديبلوماسية الثقافية في العلاقات الدولية المعاصرة لتنفيذ أهداف السياسة الخارجية، بل الاستثمار فيها لما فيه من مردود إيجابي حتى وإن طال أمده.

وقد استُخدمت الديبلوماسية الثقافية كجزء من فائض القوّة في العلاقات الدولية وكمادة للصراع في إطار فرض قيم معينة. وقد حاولت الولايات المتحدة الأمريكية منذ عهد الرئيس كينيدي استخدام نظرية “بناء الجسور” لاختراق الكتلة الاشتراكية، التي قال عنها الرئيس جونسون: إنها جسور ستعبرها البضائع والسلع والأفكار والسيّاح. وهكذا سعت واشنطن بوسائل التغلغل الناعم والتوغّل الطويل الأمد من إحداث التغيير من داخل البلدان الاشتراكية بعد أن فشلت عمليات التغيير من الخارج، وكان الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر قد تنبأ بذلك حين وصف البلدان الاشتراكية بقوله: إنها حصون منيعة وعالية، هكذا تبدو من الخارج، بحيث يصعب اقتحامها، لكنّها هشّة وخاوية وضعيفة من الداخل.

بدوره، تمكّن الغرب عبر الحرب النفسية ووسائل الضغط الاقتصادي والحرب الإعلامية والأيديولوجية من الإطاحة بالدول الاشتراكية من داخلها، مستغلًّا نقاط ضعفها مثل طبيعة نظامها الشمولي التوتاليتاري، القائم على الأحادية الحزبية وعبادة الفرد، وشح الحريّات والاختناقات والأزمات الاقتصادية المستمرة، فتمكّن من التأثير عليها وزعزعتها على نحو تدريجي، وبحسب هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، كان اعتماد سياسة الخطوة خطوة لخلخلة بنيانها الفكري والثقافي، فضلًا عن سباق التسلّح المحموم، الذي اندفع فيه الاتحاد السوفييتي، وكان آخره مشروع برنامج “حرب النجوم” عام 1983، التي خصصت لها الولايات المتحدة تريليوني دولار أمريكي، ولم يكن الاتحاد السوفييتي قادرًا على مجاراتها فيه، فضلًا عن تعثّر خطط التنمية بسبب ميزانيات التسلّح الضخمة، وهكذا تهاوت البلدان الاشتراكية، الواحدة بعد الأخرى، مثل التفاحة الناضجة بالأحضان.

إقرأ على موقع 180  فريد زكريا ينصح بايدن بزيارة إسرائيل لإرشادها إلى حقائق غزة الصعبة

وإذا كانت البلدان الصناعية المتقدّمة تسعى لتصدير ثقافتها وأنماط حياتها وسلوكها الاجتماعي، فإن البلدان النامية تسعى لحماية تراثها الثقافي والحفاظ عليه خشية الاختراقات التي تستهدف كيانيتها وتهدّد وحدتها، دون أن يعني الانغلاق، في عصر لا يمكن وضع حواجز أمام الانفتاح على الثقافة العالمية ومنجزاتها الكبرى في الأدب والفن والعمارة والتكنولوجيا، ناهيك عن العلوم والتقنيات الحديثة.

والانفتاح لا يعني تذويب الثقافة المحلية والخصوصية الوطنية والهويّة الخاصة لحساب الثقافات الكبرى التي تسعى مصالح القوى المتسيّدة لفرض الهيمنة من جانبها والاستتباع من جانب الدول والشعوب الأضعف، بقدر ما يعني التفاعل معها كظاهرة كونية لا يمكن الوقوف ضدّها أو مجابهتها.

وتسعى اليوم العديد من البلدان لتطوير مؤسساتها الديبلوماسية الثقافية باعتبارها عاملًا من عوامل قوّة الدولة الكامنة التي لا بدّ من الاستفادة منها كتعويض أحيانًا عن القوّة العسكرية أو الاقتصادية، التي كانت تشكّل الحيّز الأكبر من واقع السياسة الخارجية، وعلى أقل تقدير خط دفاع سلمي مقبول ومعترف به ضمن إطار القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.

وبهذا المعنى، ليست الديبلوماسية الثقافية ترفًا فكريًا أو لعبًا في الوقت الضائع، بقدر ما هي حاجة ماسّة، تقاس نجاحات الدولة وقوّتها اليوم بمدى قدراتها الثقافية على تكوين علاقات دولية وتبادل المعلومات والمعارف والفنون، بما يؤدي إلى خدمة الإنسان واحترام حقوقه الأساسية العامة والفردية.

إذا كان صرحًا علميًا كبيرًا مثل هارفرد، أقل تأثيرًا، من هوليوود في نشر القيم الأمريكية فإن ذلك يعود إلى أن ما تنتجه هوليوود يصل إلى جمهرة واسعة وعريضة من البشر، خصوصًا وأن ما يحدثه الفن السابع، يكاد أن يهيمن على القلوب والعقول معًا

وأصبحت اليوم الديبلوماسية الثقافية ركنًا متينًا من أركان ديبلوماسية القرن الحادي والعشرين، حتى أن بعض الدول النامية أخذت تحجز لنفسها مكانًا متقدمًا فيها، ليس بسبب قوتها العسكرية، بل بفعل إمكاناتها الاقتصادية التي توظفها في إطار ديبلوماسية ثقافية تكون قادرة على الاستقطاب، لما تملكه من مقوّمات التأثير على الجماعات والشعوب والأمم الأخرى بالتجاوز على الوظيفة الديبلوماسية التقليدية، أي أنها تتضمّن الإبهار من جهة، واجتذاب الآخر بدلًا من ترويعه أو قهره بوسائل عسكرية أو عنفية من جهة أخرى.

وكان شاعر أمريكي، يُدعى كارل ساندبيرغ قد طرح في ستينيات القرن العشرين سؤالًا ملتبسًا: أيهما أكثر تأثيرًا في سياسة الولايات المتحدة، هارفرد أم هوليوود؟ والمقصود جامعة هارفارد، التي تأسست في العام 1636، وسميت باسم المتبرّع الأول، رجل الدين البروتستانتي جون هارفرد، وهي أقدم مؤسسة للتعليم العالي في الولايات المتحدة، وتقع في مدينة كامبريج في ولاية ماساتشوستس، أما هوليوود فاشتهرت عالميًا بصناعة السينما وشركات الإنتاج والنجوم السينمائيين العالميين. وهي منطقة في مدينة لوس أنجلس مقاطعة كاليفورنيا، وكان أول فيلم صوّرته (1908). وكان جوابه مثيرًا: هارفرد أنظف من هوليوود، لكن هوليوود أكثر تأثيرًا من هارفرد في الوصول إلى أمد بعيد.

وفي ذلك أكثر من مغزى وأكبر من دليل على قيمة الديبلوماسية الثقافية وأدواتها المتنوعة، وإذا كان صرحًا علميًا كبيرًا مثل هارفرد، أقل تأثيرًا، من هوليوود في نشر القيم الأمريكية فإن ذلك يعود إلى أن ما تنتجه هوليوود يصل إلى جمهرة واسعة وعريضة من البشر، خصوصًا وأن ما يحدثه الفن السابع، يكاد أن يهيمن على القلوب والعقول معًا، في حين أن المنتج الأكاديمي يبقى محصورًا بنخبة محدودة وخاصة، وما تريده الدول الكبرى وما تسعى إليه هو تأمين مصالحها الحيوية عبر التأثير على الآخر، وهو ما تساهم به هوليوود على نطاق واسع.

لقد استثمرت دولة صغيرة ومحدودة الإمكانات مثل الإمارات العربية المتحدة، في الديبلوماسية الثقافية، فكانت ملتقىً لأكثر من 200 جنسية، ويزورها سنويًا أكثر من 15 مليون سائح تعزيزًا لقيم الصداقة والتسامح والتبادل الثقافي، وتأكيدًا للمشترك الإنساني. وأظن أن الانفتاح الذي حصل في المملكة العربية السعودية، ترافقًا مع مشروع “نيوم”، يمكن أن ينقلها إلى مصاف الدول المتقدمة بمعايير الديبلوماسية الثقافية، بما لها من ترابط مع الديبلوماسية الاقتصادية، وذلك كجزء من الاستثمار العقلاني البعيد المدى للثقافة والديبلوماسية الثقافية والاقتصادية، الذي يمكن أن تنتهجه دول نامية لتحقيق أهدافها ورفع مكانتها في العلاقات الدولية.

 

Print Friendly, PDF & Email
عبد الحسين شعبان

أكاديمي، باحث ومفكر عراقي

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  سياسة أمريكا الخارجية في منطقتنا.. تجسيد للعجز أم للتواطؤ؟