أفضل ما يُصدّره العرب.. شبابهم!

كانت المنطقة العربيّة موطناً لهجرات بشريّة كبيرة، ومنبعاً لهجرات كثيفة منذ قدم التاريخ. وقد شكّل ذلك أحد أسس تفاعلها مع محيطها وعاملاً في الحضارة التي تُميّزها.

في التاريخ القديم، من الصعب التمييز بين الأساطير والواقع. فهل كانت هجرة اليهود من مصر واقعاً أم أنّها تُشكّل رمزيّة دينيّة؟ وكم رافق الانخراط الكبير لجنوب المتوسّط في الحضارة الرومانية هجرات بشريّة من وإلى الشمال؟ وهل فعلاً أتى أغلب ممّن يشكّلون العرب اليوم من اليمن والجزيرة العربيّة، كما تقول كتب الأنساب وقصص الفتوحات؟

الواضح أنّ المنطقة استقبلت إغريقاً وفرساً وتركماناً ومغولاً وأفارقة وأبناءً من أوروبا الشرقيّة بأعدادٍ كبيرة، انصهروا ضمن شعوبها. هذا دون نسيان التفاعل مع قاطني إيبريا (إسبانيا والبرتغال اليوم) قبل تهجير مسلميهم ويهودهم إلى المغرب العربي. وكذلك الهجرات الداخليّة، مثل هجرة “الشوام” القديمة إلى دلتا النيل والقبائل العربيّة نحو الصعيد.

أكثر هجرات القرن العشرين موثّقة وضخمة بمعيار السكّان المقيمين. فمقابل الهجرة الكبرى من قرى المشرق نحو الأمريكيّتين إبّان “السفر برلك” ومجاعة الحرب العالمية الأولى، وفد إلى البلدان أرمن وأشوريون بعد المذابح التي تعرّضوا لها شرق الأناضول، تبعتها هجرات أخرى بعد تفكيك الإمبراطوريّة العثمانيّة والانتدابات الاستعماريّة، كحال هجرة المسيحيين العرب بكثافة للتوطّن في لبنان وخروج تركمان وأكراد من تركيا الحاليّة. ثمّ جاءت هجرات اليهود إلى فلسطين، بدايةً هروباً من الاضطهاد في أوروبا، ثمّ لخلق “وطنٍ قوميّ” عبر طرد سكّان البلاد الفلسطينيين وحصول أقسى موجة تهجير عرفتها المنطقة ما زالت عواملها تتفاعل إلى اليوم. تبع ذلك هجرات استقلال الجزائر ورحيل المستوطنين، وهجرات أبناء المغرب العربي للعمل في أوروبا.

لافتٌ للإنتباه أيضاً أنّ استفزازات تمزيق وحرق القرآن الكريم تحصل بالتحديد في السويد. والسؤال إن كان هؤلاء المهاجرون الذين تبنوّا التطرّف السياسيّ أو الاجتماعيّ قد “اندمجوا” في المجتمع السويدي أم بقوا يصفّون حسابات “عشائريّة” وطائفيّة مع بلدانهم الأم؟

ومع القرن الواحد والعشرين، أتت موجات هجرة تفكّك السودان، وغزو العراق، والحرب الأهليّة في سوريا.. هذا دون نسيان أنّ دول الخليج هي أصلاً بلدان هجرات حيث يشكّل المهاجرون فيها أحياناً معظم السكّان. هجرات نتيجة أزمات وحروب وهجرات اقتصاديّة ونتيجة فقدان الأفق. حيث أنّ “أفضَل” ما تصدّره البلدان العربية اليوم، من المحيط إلى الخليج، هو شبابها المتعلّم. “تستورد” مقابله، طوعاً أو قسراً، عمالة رخيصة هشّة. هجرات وافدة وأخرى خارجة تتخطّى نسبيّاً وأحياناً بالمطلق ما عرفته أوروبا الغربيّة.

شكّل احتواء هذه الهجرات، وكذلك التنوّع الداخليّ الإثنيّ والطائفيّ، جزءاً من المشروع الوطنيّ الاستقلاليّ للبلدان العربيّة. ونجح إلى حدٍّ ما في تشكيل بوتقة لصهر المجتمع “مدنيّاً”، طالما كان الصراع مع الاستعمار بأشكاله هو الأساس. هذا الاستعمار الذي بنى تدخّله منذ القرن التاسع عشر على مبدأ أنّ له دوراً في “حماية الأقليّات” وخلق “كيانات” لها، وما زال، في الوقت الذي يطالب فيه المهاجرين الأقليّة إليه بـ”الاندماج” في مجتمعه وأسطورة تشكّله.

إلاّ أنّ أيّاً من البلدان العربيّة لم يذهب في سياسات “الصهر” لما ذهبت إليه تركيا أتاتورك، عبر محو تنوّع الهويّات، برغم المزيج الإثني والمذهبي، والتوطين الكثيف للمهاجرين المسلمين من اليونان وبلغاريا وغيرهما، وعبر تغيير حروف اللغة كي لا يتمكّن الأتراك حتّى من قراءة تاريخهم. في حين بقيت إيران وإثيوبيا المجاورتان تعيشان تنوعّهما.

لكن يبقى التنوّع الأصليّ ونتيجة الهجرات أحد التحديات الأساسيّة لكثيرٍ من البلدان العربيّة، بالتحديد نتيجة تعثّر ـ وهو أقلّ ما يقال ـ نماذج التنمية للتفاعل مع التحوّلات الاجتماعية ولما يشهده العالم اليوم من صراعات نفوذ دوليّة يتمّ إسقاطها على البلدان عبر سياسات شرذمة إثنيّة ومذهبيّة تهدف إلى إضعافها.

من ناحية أخرى، يُلقي المهاجرون من البلدان العربيّة في الخارج بظلالهم على واقع بلادهم الأصل اليوم. والأمثلة كثيرة على ذلك.

منذ عقود، عملت السويد، القليلة السكّان والتي تحتاج إلى هجرة وافدة، على تشجيع هجرة فئات معيّنة دون غيرها من تركيا والعراق وسوريا، خاصّة الكرد والأشوريين. وذلك كي تتحوّل السويد إلى قاعدةٍ أساسيّة لتنظيمات سياسيّة ذات مشاريع “خاصّة” تتخطّى قضايا الدفاع عن حقوق المواطنة وحقوق الإنسان في بلدانها الأصليّة. ولافتٌ للإنتباه أن تطلب تركيا من السويد وقف نشاطات وتسليم أعضاء في “حزب العمّال الكردستاني” مقابل قبولها العضويّة في حلف الأطلسي. ولافتٌ للإنتباه أيضاً أنّ استفزازات تمزيق وحرق القرآن الكريم تحصل بالتحديد في السويد. والسؤال إن كان هؤلاء المهاجرون الذين تبنوّا التطرّف السياسيّ أو الاجتماعيّ قد “اندمجوا” في المجتمع السويدي أم بقوا يصفّون حسابات “عشائريّة” وطائفيّة مع بلدانهم الأم؟

إسرائيل بطلة التلاعب بالهجرات. إذ انتقلت “قضيّتها” من الحماية من الاضطهاد في أوروبا إلى الاستيطان القومي-الدينيّ. وعملت، كما بات موثّقاً اليوم، على استفزاز أوضاع يهود البلدان العربيّة لتهجيرهم إليها. ثمّ استقطبت يهود بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، خاصّةً لبناء المستوطنات في الضفّة الغربيّة وشرذمتها. وكلّما ذهب مهاجروها القدماء إلى الحاجة نحو التأقلم مع باقي السكّان الفلسطينيين ومع محيطهم العربي، كلّما دفع المهاجرون الجدد إلى الاستفزاز والتطرّف.

إقرأ على موقع 180  تقدير إستخباراتي إسرائيلي: الأسد لم يعد راضياً عن الحضور الإيراني!

من جهته، عرف لبنان هجرات متتالية كبيرة بحيث تخطّت أعداد اللبنانيين المهاجرين أولئك الذين بقوا مقيمين في البلاد. والهجرة تتسارع اليوم مع تداعيات الأزمة الماليّة الضخمة والاستعصاء السياسيّ واحتواء اللاجئين السوريين. وبات المقيمون يعيشون أساساً على تحويلات المهاجرين الماليّة. ويأتي الكثير من هؤلاء المهاجرين لزيارة أهاليهم دوريّاً. وأصبح لهم ثقلٌ حقيقيّ في دفع بلادهم إمّا إلى مزيدٍ من التمزّق الاجتماعيّ أو نحو التغيير السياسيّ والدولة المدنيّة.

في سوريا أيضاً باتت تحويلات المهاجرين أساساً لمعيشة السوريين، خاصّةً في المناطق التي تسيطر عليها السلطة القائمة. إلاّ أنّ أوضاع المهاجرين الاجتماعيّة والسياسيّة تختلف كثيراً حسب البلد الذي يتواجدون فيه وسياساته تجاه الصراع في سوريا وتجاه اللاجئين. فقليلاً ما يعرف اللاجئون في دول الجوار تنظيمات مدنيّة لهم تشكّل صوتاً لمعاناتهم وتدافع عن حقوقهم بالحدّ الأدنى. وقليلاً ما يتشاركون مع المنظّمات المدنيّة لأبناء دول الجوار في قضايا تهمّ الطرفين.

هكذا بعد أكثر من عشر سنوات من التواجد الكثيف للاجئين السوريين في تركيا، وحصول البعض منهم على الجنسيّة، لا يبدو أنّ تشابكاً ما قد جرى بين “المجتمعين المدنيين” السوري والتركي وبين الحقوقيين من الطرفين لمواجهة المتطرّفين أو العنصريين في تركيا أو للدفاع عمّن تعيدهم قسراً السلطات التركية إلى مناطق نفوذها داخل سوريا. هذا بالرغم من أنّ تركيا قاعدة لتنظيمات سياسيّة ومنظّمات مجتمع مدنيّ سوريّة تحصل على تمويلات دوليّة كبيرة.

أمّا اللافت للإنتباه فهو تطلّع بعض المهاجرين السوريين إلى الولايات المتحدة، التي بالمناسبة لم تستقبل حديثاً أعداداً لها معنى من اللاجئين السوريين مقارنةً مع الجوار وأوروبا. همّهم هو الانخراط في مجموعات ضغط (لوبيات) واشنطن والتنافس في الدفع إلى إصدار قوانين عقوبات، الواحد تلو الآخر. هذا في حين باتوا يعرفون جيّداً أنّ هذه العقوبات لا تغيّر الأنظمة بل تقويّها، وتفاقم التقسيم القائم، وأنّ أهلهم في سوريا باتوا يتضوّرون جوعاً من جرّائها. فهل يتعقّلون؟ وهل يتعلّمون من تجارب العراق وغيرها؟

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  لبناننا الداشر بين واشنطن.. وطهران!