ناغورنو قره باخ: جيب صغير، عداء كبير، مصالح ضخمة

حرب جديدة ومعارك دموية بين الأرمن والأذريين في إقليم ناغورنو قره باخ ، ترخي بظلال ثقيلة  على منطقة القوقاز التي تعد امتداداً طبيعياً للأمن الروسي، ومنطقة رخوة تثير حالة عدم الاستقرار فيها قلق الكرملين، لا سيما انها تضاف إلى الوضع المتأزم مع الغرب في أوكرانيا وبيلاروسيا، ومع الأتراك في سوريا وليبيا.

الإحتدام العسكري المتدحرج سريعاً في ناغورنو قره باخ، يعطي إشارة واضحة بأن الطرفين كانا يستعدان لمثل هذه الخطوة الخطيرة التي اعادت الى الذاكرة الشرارة التي إندلعت في العام 1988 عندما استيقظ سكان الاقليم ومحيطه على حرب ضروس بين الارمن والأذريين إستمرت حتى العام 1994. وتبلغ موازنة الدفاع في أذربيجان الغنية بالنفط أضعاف الموازنة الكاملة لأرمينيا. وسبق أن توعدت باكو مراراً باستعادة منطقة ناغورنو قره باخ بالقوة. وفي المقابل، لطالما كانت أرمينيا المدعومة من روسيا تردد أنها جاهزة لصد أي هجوم أذري.

ولفهم أبعاد الصراع، فإن هذا الإقليم من الناحية الجغرافية يقع في قلب أذربيجان، لكن من الناحية الديموغرافية تسكنه غالبية أرمنية بنسبة 90 في المئة، وفى المقابل، هناك أقلية اذرية في مقاطعة ناختشيفان معزولة داخل جمهورية أرمينيا. ويعتبر خبراء العلاقات الدولية هذا النزاع من أكثر موروثات الاتحاد السوفياتي السابق تعقيداً، حيث إن الإقليم كان جزءاً من السيادة الأذرية، حتى انهيار الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثة عقود من الزمن، فأعلن سكانه الانفصال عن باكو وطالبوا بالاستقلال وتشكيل جمهورية لم تنل اعترافا دوليا على غرار ما هي عليه جمهورية قبرص الشمالية، وشهدت المنطقة حروبا ونزاعات عدة لا سيما بين 1988 و1994، وهو تاريخ وقف النار الذي لم يمنع من استمرار المناوشات، ولم يزل مسببات الحرب التي بقيت كلغم موقوت قابل للإنفجار في اية لحظة، لأسباب منها ما هو مرتبط بأصل الخلاف ومنها ما هو مرتبط بطبيعة العلاقة الصراعية المعقدة والمبهمة بين روسيا وتركيا، اضف الى ان هذه المشكلة ترتبط ايضاً بتركيا وايران، وبإنحياز دول اقليمية كبرى لمصلحة أحد الطرفين المتصارعين.

وجرت في السابق محاولات عدة عدة لاحتواء النزاع التاريخي حيث جرى تقديم مخرجين للحل هما:

أولاً، الخطة التي إقترحتها مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، والتي تنص على اعتراف الأطراف الثلاثة وهي أرمينيا وأذربيجان واقليم قره باخ، بوحدة أراضي أذربيجان مقروناً بنظام حكم ذاتي لناغورنو قره باخ من الأرمن المحليين.

ثانياً، خطة الولايات المتحدة والقاضية باعتراف أذربيجان باستقلال إقليم ناغورنو قره باخ والتعامل معه على أنه دولة مستقلة ذات سيادة، وفي المقابل، تعوض أرمينيا أذربيجان بمنحها السيادة على منطقة مغرية وهي المنطقة المهمة استراتيجيا لاذربيجان، لأنها تفصل بين أراضيها واقليم ناختشيفان الأذري الواقع في قلب الأراضي الأرمينية.

لكن اياً من المخرجين لم يحظ بقبول الفريقين المتصارعين لتستمر بذلك الازمة والنزاع. ولا يبدو ان التسوية ممكنة قريبا لا سيما في ظل تقاطع الأبعاد الاقتصادية والجيوسياسية في الأزمة بين أذربيجان وأرمينيا، وخير تعبير عنها ما تسمى “حرب الأنابيب”، إذ لا تزال باكو تسعى الى وصول غازها عبر ممر الغاز الجنوبي الى تركيا وأوروبا  بعد دفن خط انابيب نابوكو، في وقت تواجه موسكو تبعات الأزمة مع أوكرانيا ورغبة تركيا ودول الاتحاد الأوروبي تقليص تبعيتهم من الغاز الروسي. الى ذلك، فان أرمينيا ترتبط بعلاقات قوية مع الإتحاد الروسي وكذلك أذربيجان، مع فارق أن أرمينيا تبدو اكثر التزاماً بمصالح الإتحاد الروسي لإعتبارات عديدة أبرزها التناقض مع تركيا في أكثر من مسألة، بينما تحاول أذربيجان عدم الخروج عن منظومة علاقات نسجتها منذ تفكك الإتحاد السوفياتي ومن ضمنها علاقات دافئة مع إسرائيل. على سبيل المثال لا الحصر، هناك قواعد عسكرية روسية في أرمينيا وترتبط يريفان وموسكو بمعاهدات مشتركة ومنها اتفاقية دفاعية. وفي المقابل، أقامت روسيا محطة رادار (“غابالا”) في أذربيجان، انتهى عقد ايجارها في العام 2012 بعدما طالبت باكو برفع قيمة العقد من 7 ملايين دولار إلى 300 مليون دولار سنوياً. ومع ذلك، فإن موسكو لم تعترف بشرعية استقلال ناغورنو قره باخ، ما يبقي تاليا هذا الاقليم تابعا في نظر المجتمع الدولي إلى أذربيجان. كما ان وجود النفط والغاز الوفير في الأراضي الأذرية يساعد باستمرار سباق التسلح الذي تستفيد منه موسكو، حيث يفسح المجال أمام إنفاق عسكري ضخم يصب في خزانتها. كما ان موسكو معنية لدرجة كبيرة في أن تكون ضابط الاستقرار بين المتنافسين في جنوب القوقاز وعدم فتح ثغرة للتدخل الغربي في هذه المنطقة الغنية بالطاقة.

وفي حين ترتبط باكو بعلاقات وثيقة مع انقرة مردها الجانب العرقي والتاريخي المشترك، لم تستقر علاقتها ابداً مع طهران بسبب وجود مشكلة جغرافية قائمة برغم العامل المذهبي الذي يربط بين أذربيجان وايران من خلال المذهب الشيعي، حيث ان نسبة المسلمين الشيعة من الأذريين تبلغ 95 في المئة، وهذا بحد ذاته موضوع يؤشر على طبيعة الصراعات في الإقليم، وهي صراعات مصلحية لا تلبس لبوس المذهبية لأسباب مختلفة. وتبدي ايران انزعاجها الدائم من أذربيجان بسبب دعم الأخيرة الضمني لـ “الجبهة الشعبية لتحرير أذربيجان الجنوبية” التي تدعو الى استعادة اراضٍ أذرية موجودة داخل الأراضي الإيرانية، بحسب الرواية التي تتبناها ضمناً باكو.

إقرأ على موقع 180  مرحلةٌ مملةٌ في العلاقات الدولية؟

وتضع أنقره دعم أذربيجان في سلم أولوياتها، حيث تُعنى القيادة التركية الآن بتقليل اعتمادها على الطاقة الروسية التي تنهب نحو ضِعف سعر مشتري الاتحاد الأوروبي لغاز شركة غازبروم الروسية، فأذربيجان كأكبر موردي النفط للاتحاد الأوروبي بديل مهم لتركيا عندما تكون صفقة الغاز الرئيسية بين تركيا وروسيا في انتظار التجديد عام 2021.

وقد ساعد في صب الزيت على النار في ناغورنو قره باخ، ما صدر من تصريحات عن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الذي اعلن وقوف بلاده إلى جانب أذربيجان في “حربها العادلة” ضد أرمينيا التي لدى تركيا معها أزمة تاريخية تتعلق بمذابح الأرمن في العام 1915. وتلقى مواقف انقره صداها لدى الرئيس الاذري حيدر علييف الذي قال إن بلاده لن تقبل منح الاقليم استقلالا من أي نوع، وهي تصر على انه جزء مهم من الأراضي الأذرية، “وستعمل على استرداده بكل الوسائل بما فيها العسكرية” ، في حين لا ترضى أرمينيا باقل من الاستقلال الكامل للاقليم تحت سيطرتها وبالتالي عدم التنازل عن منطقة مغرية يمكن أن تربط اقليم ناختشيفان الاذري بجمهورية اذربيجان، لأنه في هذه الحالة، ستخسر أرمينيا حدودها مع ايران وتصبح عالقة في وسط الكماشة الاذرية ـ التركية.

ونظرا الى جملة التوترات بين الأتراك والروس والناجمة عن الخلافات  في ملفات عدة ابرزها الملفان السوري والليبي، من المرجح ان يتحول هذا الاقليم إلى ركيزة صراعية جديدة بين الطرفين، حيث تملك موسكو في هذه المنطقة أوراق قوى تُمكِّنها من استفزاز أنقره بسهولة في العتبة الشرقية لها، وذلك بسبب قدرة موسكو الفعلية على استهداف غالبية التشكيلات العسكرية التركية في شرق الأناضول، مع الاخذ في الاعتبار ان ليس لكلا الجانبين مصلحة في فتح جبهة حرب ساخنة جديدة حالياً، لكن برغم ذلك من غير المستبعد أن ترمي أي تطورات جديدة، بالزيت على نار الخلافات بينهما.

اما موقف الولايات المتحدة من الصراع فمتناقض بين رغبتها في المحافظة على مصالحها الحيوية هناك، وبين ضغط اللوبي الأرمني في الولايات المتحدة الدافع بإتجاه خيار إستقلال الإقليم. ففي وقت تنظر واشنطن إلى أذربيجان على أنها شريك سياسي واقتصادي إستراتيجي في المنطقة، وبوابة بين أوروبا وأسواق الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ومواردهما، وأحد الموردين الرئيسين للنفط والمنتجات النفطية في أوروبا في القرن الحادي والعشرين، إلا أن العلاقات بين باكو وواشنطن تتعرض في كثير من الأحيان للتوتر بسبب نفوذ اللوبي الأرمني القوي في الكونغرس، حسبما يقول الاذريون.

أما الاتحاد الأوروبي فيبدو الأكثر حرصاً على حل مشكلة ناغورنو قره باخ أو على الأقل تجميدها، لضمان الأمن والاستقرار على اطراف القارة القديمة من ناحية، وضمان وصول النفط والغاز الاذري من قزوين إلى السوق الدولية، من ناحية أخرى.

إذا أُضيف إلى الارتياب وانعدام الثقة وإرث العداء التاريخي بين مجموعتين عرقيتين، بروز مصالح للاعبين الدوليين الكبار تتقاطع مع خطوط النفط والغاز، فإن هذه العناصر المتشابكة والمعقدة والمجتمعة، تجعل من منطقة صغيرة وجبلية معزولة ولا توجد فيها ثروات، ساحة من ساحات الحروب الاقليمية والدولية وتضيف إلى مسرح العلاقات الدولية ازمة جديدة.

اقرأ ايضاً، ناغورنو قره باخ.. ماذا لو امتدت الحرب خلف الجبال؟

 180post.com

Print Friendly, PDF & Email
أمين قمورية

صحافي وكاتب لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  المستحيل.. دولة واحدة بقوميتين (2/2)