“يظهر رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في الآونة الأخيرة كمن يسير على نهج “من بعدي الطوفان”، فهو غير آبه بحجم الاحتجاجات الشعبية، غير المسبوقة بحجمها وتنوعها واستمراريتها، كذلك لا يأبه كما يبدو بالانتقادات غير المسبوقة لرئيس أميركي لحكومة إسرائيلية، أطلقها جو بايدن ضد حكومته، ولا بشبه عزلته السياسية العالمية، واستمرار القطيعة مع البيت الأبيض، وهو الذي تباهى مرارا بتشعب اتصالاته الدولية. فهو يصر على الدفع قدما بمخطط الانقلاب على جهاز القضاء، في حين تزايد استخدام مصطلح “حرب أهلية” في الأجواء الإسرائيلية، بموازاة التحذير من تعمّق قوانين وأنظمة الإكراه الديني (…).
وكما ذكرنا بداية، فإن نتنياهو تعرّض في الأسبوع الماضي لانتقادات أميركية، أطلقها بداية الرئيس جو بايدن، في مقابلة مع شبكة “سي إن إن”، بوصفه الحكومة الإسرائيلية بأنها الأشد تطرفا، وقال إنه يعرف حكومات إسرائيل منذ حكومة غولدا مئير، في مطلع السبعينيات من القرن الماضي؛ تبعتها تصريحات شبيهة للسفير الأميركي لدى إسرائيل المنتهية ولايته، توم نيدس (لاحقاً اعتبر البيت الأبيض أن إقرار الإصلاحات هو أمر مؤسف).
وأشارت الصحافة الإسرائيلية إلى أن نتنياهو لم يخرج إلى أي زيارة في أي دولة في العالم منذ شهر آذار/مارس الماضي، وهو لا يتلقى دعوات كهذه، باستثناء دعوة إلى الصين قد تتم في الخريف المقبل؛ لكن الأبرز هو أنه مع مرور حوالى 7 أشهر على بدء ولايته الجديدة، لم يتلق نتنياهو دعوة لزيارة البيت الأبيض، وزيارة كهذه لا تلوح في الأفق حتى الآن، ما يعني أن نتنياهو يواجه شبه عزلة دولية، لكن هذا لا يؤثر على نهجه السياسي، فهو مستمر في الاتجاهات التي حددتها حكومته، بتعميق الاحتلال والاستيطان، والانقلاب على أنظمة الحكم الإسرائيلي، زاعما أن ما يطرحه من قوانين قائمة في دول أخرى، لكنه يتجاهل أن لتلك الدول دساتير تتفوق على القوانين التي تقرها البرلمانات، في حال وُجد تصادم قانوني.
هل تتجه إسرائيل نحو حرب أهلية؟
نشر المحلل موشيه غورالي، في صحيفة “كالكاليست” (تابعة لـ”يديعوت أحرونوت”)، في الأيام الأخيرة، مقالين يحذر فيهما من احتمال أن تعلق إسرائيل بحرب أهلية، فعلى الرغم من المبالغة الظاهرة حتى الآن، في هذه الفرضية، فإن الكاتب يطرح جوانب بارزة في الحوار الإسرائيلي – الإسرائيلي، ويصل أيضا إلى جانب تعمّق الإكراه الديني، الذي تتخوف منه غالبية اليهود الإسرائيليين، وخاصة الشرائح الوسطى العليا، المنتجة، أو بصيغة أخرى، هي عصب الإنتاج والاستهلاك في الاقتصاد الإسرائيلي.
وكتب غورالي: “هل تتجه إسرائيل نحو حرب أهلية؟ والفصل بين إسرائيل الديمقراطية ويهوديتها؟ إذا كنا على شفا انهيار التجربة الصهيونية التي تبلورت هنا في آخر 75 عاما؛ فمن المهم أن نعرف السبب على الأقل. دعونا نفهم لماذا نكره بعضنا البعض كثيرا. يبدو لي أننا منغمسون جدا في الأشجار: علة المعقولية، وفقرة التغلب على المحكمة العليا (تعديلات في قانون القضاء)، ولجنة تعيين القضاة؛ وننتبه بدرجة أقل إلى الغابة برمتها. ننشغل في التفاصيل الصغيرة، وبدرجة أقل بالصورة العامة (…).
ويتابع الكاتب: “تسعى حركة الاحتجاج للحفاظ على المبنى الديمقراطي الليبرالي. فهذه الحركة (الجبهة) تشمل ناشطين من اليمين والمتدينين والشرقيين، لكن الحكومة والأشخاص أمثال (الوزير) دافيد أمسالم، يفضلون تأطيرها على أنها شرائح نخبوية.
هذه الجبهة هي إعادة إشعال الفجوات القديمة والمألوفة، للمشاعر التقليدية بالحرمان: مناطق الضواحي مقابل مركز البلاد؛ تحريض ضد التعليم العالي؛ الفقر مقابل الثروة. وكذلك الخلاف القديم حول عدالة التوزيع الاجتماعي. فعلى الرغم من أن حركة الاحتجاج متعددة الطبقات الاجتماعية الاقتصادية، ومتعددة الثقافات، إلا أنها تُبرز قطاع التكنولوجيا الفائقة (الهايتك) والأكاديميين والطيارين (العسكريين)، على أنهم نقيض الائتلاف الحاكم. إن التلويح بهذه الشريحة السكانية التي تفوق مساهمتها في تقوية الدولة وصيانتها مساهمة أنصار الائتلاف الحاكم، هي حقيقة خالصة، لكنها تعبّر أيضا عن استعلاء لهذا الجمهور، وتشعل نار الكراهية”.
ويقول غورالي إن “المبنى الديمقراطي الليبرالي هو أيضا هدف للتدمير من خلال الجمع بين حزب الصهيونية الدينية وحزب “قوة يهودية” وحزب “نوعم”: أحزاب برئاسة بتسلئيل سموتريتش، إيتمار بن غفير، سمحا روتمان وآفي ماعوز. وتسعى هذه المجموعة، بدعم أيديولوجي من فوروم “كوهيلت” (منظمة يمينية متطرفة ممولة من أثرياء في الولايات المتحدة، وتقف من خلف الكثير من المبادرات القانونية المتطرفة- المحرر)، إلى فرض حكم دولة الشريعة اليهودية، لسيطرة اليهودية المسيانية. وفي الطريق إلى هناك، كمحطة وسيطة، سنتوقف عند شكل الرأسمالية الأميركية الترامبية، التي تتناغم هي أيضا، مع التيار المسيحي الأفنجيلي، وسحق القيم الليبرالية. هذا هو العهد بين كوهيلت وأتباع مئير كهانا” (…).
ويضيف أن الجبهة الثالثة التي تم فتحها على الديمقراطية الليبرالية، “هي هجوم الإبادة الجماعية على المؤسسات القانونية؛ هنا القائد هو بنيامين نتنياهو، الذي حدّد الهدف في خطابه حول ما أسماه يومها حبك ملفات الاتهام ضده، يوم افتتاح محاكمته. إن أهداف نتنياهو، رئيس الحكومة وعائلته، ذات شقين: القضاء على محاكمته الجنائية، وإدامة حكمه إلى الأبد”!
ويختم الكاتب مقاله المطوّل قائلاً: “أعلن نتنياهو عن نيته تدمير إسرائيل الديمقراطية والليبرالية. فهو لم يتوقع حدة الاحتجاج. ومن المشكوك فيه أن نتنياهو توقع كلفة أفعاله، من الأضرار التي لحقت بالاقتصاد والتكنولوجيا العالية، ومن خلال وضعنا المتدهور في العالم، إلى الحرب الأهلية التي تقتل الأخوة والتي تهدده، وتهددنا نحن أيضا. الآن عليه أن يقرر ما إذا كنا سنستمر في دفع هذه الأثمان، كي يستمر مشروع تدمير البيت”.
اتساع سطوة الحريديم
أشرنا سابقا في عدة مقالات إلى التوغل الديني في مؤسسات الحكم الإسرائيلي، وتشديد قوانين الإكراه الديني، التي تتدخل في أدق تفاصيل حياة الإسرائيلي. وفي أكثر من محطة في العقود السبعة الأخيرة، بلغ الأمر إلى حد صدامات، لكن في ظل الحكومة الحالية يبرز مسعى المتدينين المتزمتين الحريديم لزيادة سطوتهم، من جهة، وزيادة البلدات والأحياء الواقعة كليا تحت سيطرتهم، وهم يتلقون دعما من كتلتي التيار الديني الصهيوني، وأيضا من حزب الليكود، كثمن لاستمرار الائتلاف الحاكم.
ويقول الكاتب عيدو باوم، في مقال له في صحيفة “ذي ماركر” الاقتصادية، إنه “تحت مظلة قوانين الانقلاب السلطوي، يجري انقلاب آخر: الحكم الذاتي للحريديم يتعاظم ويتعزز ويحتل مساحات أكثر وأكثر. وهذه الإجراءات تتم بطرق مختلفة: سن قوانين، تعيينات في المؤسسات العامة، قرارات إدارية، أو أنها تطبق من خلال الحصول على ميزانيات ضخمة جدا، يصرفها الحريديم على قطاعهم.
ومن المميزات الأساسية لظاهرة تعزيز الفصل بين الحريديم وباقي المجتمع الإسرائيلي، تسريع الإجراءات التي تسمح لمجموعات الحريديم بالسيطرة على أحياء ومدن بأكملها، واحتلال مجالات تم تحريرها من احتكار الحريديم، وتوسيع نطاق سيطرة الحريديم على مجالات جديدة. وإلغاء بند المعقولية سيسمح بالدفع قدماً بإجراءات كهذه”.
وأبرز الكاتب خمس قضايا مركزية سعى ويسعى لها الحريديم، بدعم الائتلاف، منها ما أصبح قانونا نافذا، وهو منح صلاحية لإدارات المستشفيات، لمنع إدخال أطعمة مخمّرة أيام أسبوع الفصح العبري إلى داخل المستشفيات، وهذا قانون يمس بالعلمانيين والعرب، بحرمان المرضى من أطعمة عديدة، وتقييدهم بنمط طعام ليس مناسبا له.
الأمر المركزي الثاني هو سن قانون يعتبر دراسة التوراة قيمة عليا للشعب اليهودي، ويجب أخذها بالاعتبار، وهذا تمهيد للإعفاء من الخدمة العسكرية، وليس فقط هذا، بل منح طلاب المعاهد الدينية، ذات امتيازات الجنود خلال الخدمة الإلزامية وما بعدها في حياتهم العامة.
والأمر المركزي الثالث، هو رفع شأن المحاكم الدينية اليهودية، بحيث يمكنها معالجة قضايا مدنية حياتية عادية، “إذا وافق الطرفان على التحكيم”، ويشير الكاتب إلى أن مسألة موافقة الطرفين، لا تعني منح حرية، خاصة داخل جمهور الحريديم، إذ ستمارس على الأغلب ضغوطاً على أحد الطرفين للتوجه للمحاكم الدينية في حال رفض.
كذلك مرر الحريديم قانونا يجيز لصاحب بيت في عمارة سكنية، بموافقة جيرانه، تركيب جهاز يوقف ضخ المياه لخزان البيت في أيام السبت والأعياد العبرية. وكان الحريديم قد طالبوا بإقامة محطات توليد كهرباء لا تعمل أيام السبت وفي الأعياد العبرية، والاكتفاء بمخزون كهربائي، لكن الخبراء أكدوا استحالة الأمر، لأنه لا يمكن تخزين كهرباء من دون إنتاج لمدة 28 ساعة متواصلة، وفي أحيان ما يجري الحديث عن أكثر من 50 ساعة متواصلة.
والجديد في مشاريع قوانين الحريديم، هو إلزام مقاولي بناء البنايات السكنية في المناطق التي يسكنها متدينون وليس فقط الحريديم، ببناء شرفات بيوت تكون كافية لإقامة خيمة في عيد العُرش العبري، الذي عادة يكون خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر من كل عام، وهذا سيتسبب بكلفة أعلى للبيوت، وفرضها على الجمهور غير المعني بها.
هل تضرّر الاقتصاد حقا؟
لربما الضجة الأكبر، في الصحافة الإسرائيلية، حول مشاريع قوانين تقويض القضاء الإسرائيلي، وتقليص صلاحيات المحكمة العليا، قائمة في الصحافة الاقتصادية، إذ لم يبق مسؤول كبير في المؤسسة الاقتصادية ومحلل بارز، إلا وحذّر من الانعكاسات السلبية على الاقتصاد، بفعل مشاريع القوانين هذه (…).
وانضم إلى التحذيرات بشأن الاقتصاد الإسرائيلي، في الأسبوع الماضي، “بنك أوف أميركا”، وهو واحد من أضخم المؤسسات المصرفية في الولايات المتحدة، وحتى أنه يُدرج ثانيا من حيث الأهمية، وهو مجمّع بنوك متعددة الجنسيات، ولتقديراته وزن كبير في الاقتصاد العالمي، وسبقت هذا البنك تقديرات سلبية لصندوق النقد الدولي، وأيضا لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD، والبنك الدولي، كذلك كان هناك بيان تحذيري من الخبيرة الاقتصادية الأولى في وزارة المالية الإسرائيلية.
كما أنه في حسابات المحلل الاقتصادي البارز في صحيفة “ذي ماركر”، إيتان أفريئيل، فإن الاقتصاد الإسرائيلي خسر في الأشهر الستة الأولى من العام الجاري حوالى 150 مليار شيكل، أي ما يعادل قرابة 41 مليار دولار. واستند أفريئيل على أن بورصة تل أبيب أبقت على قيمتها في الأشهر الستة الأولى من هذا العام، بمعنى جمود القيمة، بينما بورصة نيويورك سجلت ارتفاعا بنسبة 15% في ذات الفترة، وبورصة ناسداك اليابانية سجلت ارتفاعا بنسبة 30% في ذات الفترة. وقال أفريئيل إن بورصة تل أبيب كان يمكنها أن تسجل ارتفاعا بنسبة 15% وهذا وحده يعادل 153 مليار شيكل”.
(*) راجع النص كاملاً على موقع “مدار“