“أمر بديهيّ: منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإلى حدود اليوم، ما زالت ألمانيا تجرّ أوزار الإبادة الصناعية لليهود. فقد وجب عليها تحمّل التداعيات المادية لذلك — منذ سنة 1945 إلى حدود 2018، دفعت الحكومة الألمانية ما يناهز عن 86.8 مليار دولار كتعويضات لضحايا الإبادة الجماعية والناجين منها، ناهيك عن الإلزامات المعنوية التي تُعدّ إسرائيل أكثر المستفيدين منها لتمتُّعها بدعم ديبلوماسي مطلق من قبل ألمانيا.
لا تتساهل ألمانيا مع مبدأ التضامن مع إسرائيل. فقد صادق أعضاء البرلمان يوم 17 مايو/أيار 2019 على قرار غير ملزم بإدانة حركة مقاطعة إسرائيل، واصفين أساليبهم بالمعادية للسامية ومذكّرين في ذلك بالدعوة لمقاطعة اليهود في الحقبة النازية. ينصّ القرار على أنّ ألمانيا “ستعارض بشدّة” كل الجهود المبذولة لتشويه صورة اليهود أو التشكيك في “أحقيّة الوجود أو حق دولة إسرائيل اليهودية الديمقراطية في الدفاع عن النفس”. وقد تبنى القرار كلّ من الأحزاب السياسية الكبرى بالبلد وهم الحزب الاجتماعي الديمقراطي والاتحاد المسيحي الديمقراطي وحزب الخضر1.
بالنسبة إلى مناصري القضية الفلسطينية، فقد تدهور المناخ في الآونة الأخيرة، وهو ما ترويه الصحفية الفلسطينية الأمريكية المقيمة بألمانيا هبة جمال على موقع 972mag.com:
لقد تمّ تضييق مجال الدفاع عن فلسطين في السنوات الأخيرة من خلال تصنيف كل الخطابات الداعمة لفلسطين بالمعادية للسامية. وقد تفاقم الأمر إثر تبنّي البرلمان الألماني لقانون مناهض لحملة المقاطعة سنة 2019، والذي تتعامل بموجبه المؤسسات الفيديرالية مع كل التعبيرات الداعمة لهذه الحملة على أنها معادية للسامية. كلّ هذا قد سمح للجامعات وحكومات الولايات وكذلك المؤسسات العمومية بحرمان الفلسطينيين من حق حرية التعبير والتجمّع.
أعلن بيتر شافر مدير المتحف اليهودي ببرلين الذي تم تعيينه سنة 2014، عن استقالته عقب تبني ألمانيا للقانون الذي يصف حركة المقاطعة بالمعادية للسامية. وكتبت الصحفية الإسرائيلية المقيمة ببرلين مايراف زونشاين أنّه اتخذ هذا القرار “إثر تعرّضه لضغوط كبيرة من قبل القائمين على المجتمع اليهوديّ بألمانيا وكذلك الحكومة الإسرائيلية، والذين اتهموا المتحف بالانخراط فيما اعتبروه بالممارسات المعادية لإسرائيل ولليهود”. ما كان خطأه؟ تغريدة للمتحف على تويتر يوم 6 يونيو/حزيران، تؤيد مقالاً – نشرته الصحيفة اليومية التقدمية “دي تاغزتسايتونغ” – يحتوي على رسالة ممضاة من قبل 240 مختص يهودي وإسرائيلي في معاداة السامية والهولوكوست، يرفضون من خلالها القول بأن حملة المقاطعة هي حركة معادية للسامية. في وضع كهذا، لنا أن نفهم بشكل أفضل لماذا لا يتجاوز عدد المناضلين الذين يجرؤون على مواصلة الالتزام بمقاطعة إسرائيل في ألمانيا، بضع المئات.
كما تذكّر هبة جمال ما قاله شير هيفي، رجل الاقتصاد الإسرائيلي المقيم بألمانيا والذي كان بدوره ضحية لهذه الرقابة:
لست الأول ولا أعتقد بأنّي سأكون الأخير ممّن أُلزموا بالصمت بهذه الطريقة. ألمانيا في العموم دولة ديمقراطية، لكن حين يتعلّق الأمر بإسرائيل أو بفلسطين، تصبح الأمور أكثر فأكثر ضبابيّة.
من المؤكد أن معاداة السامية هو موقف مخجل وهو لحسن الحظ ممنوع قانونيّا في كل مكان. لكن عندما تقوم دول بوضع هذا المفهوم في خلط مع معاداة الصهيونية ومع كل نقد لإسرائيل، فإنها تساهم في دعم الإفلات من العقاب لهذه الدولة التي تتلاعب بكل سخرية بتاريخ الإبادة، لا لشيء إلا لتضمن حصانتها
تمّ مؤخّرا إلغاء العديد من المحاضرات التي كان من المفترض أن يتكلّم بها يهود وأحيانا إسرائيليّون من غير الصهاينة. في يوليو/تموز 2022، وإثر مشاركته في ندوة حول اختلاس ذكرى الهولوكوست، صُدم أفراهام بورغ، الرئيس السابق للبرلمان الإسرائيلي والمنظمة الصهيونية الدولية، لما سمعه من تهم حول معاداة السامية، وهو ما دفعه لكتابة عمود نشر في صحيفة “هآرتس”:
كيف وصلنا إلى هنا؟ لقد صنعت إسرائيل من معادة السامية سلاحًا ديبلوماسيا فتّاكا. لقد ساهمت حكومتها المحافظة في نشر هذا المفهوم على أوسع نطاق، لتكون المعادلة كالآتي: كل نقد هو معاداة للسامية، كل معارض هو عدوّ، كل عدو هو هتلر، وكلّ عام هو 1938.
في كل الحالات، لا شيء يشير إلى أن ألمانيا شرعت في مساءلة نفسها حول ما من شأنه أن يمثّل إنكارًا للحرية.
في 20 مايو/أيار 2023، أيدت المحكمة الإدارية العليا في برلين – براندنبورغ منع الشرطة لمظاهرة تم تنظيمها في برلين لإحياء ذكرى النكبة الفلسطينية2. وقد بررت الشرطة ذلك بالمخاطر التي لها أن تنتج عن حدث كهذا، مثل “التحويف وتحريض الشعب على معاداة السامية وتمجيد العنف ونشر الرغبة في استعماله”.
عندما تنحى لندن إلى تقليد برلين
من كان له أن يتخيّل أنّ مبدأ حريّة التعبير المتضمّن لحق انتقاد دولة إسرائيل سيكون مهدّدا بالمملكة المتحدة؟ هذه المقاربة التي كانت من الخيال المحض في ماض ليس ببعيد، صارت حقيقة يوم 3 يوليو/تموز 2023، وهي تستهدف مباشرة الهياكل البريطانية العمومية، مثل المجالس البلدية والجامعات. تم ذلك من خلال تبنّي مشروع قانون من اقتراح ماكايل غوف، كاتب دولة بالحكومة المحافظة التي يقودها ريشي سوناك. وقد فسّر ذلك في مايو/أيار 2023 قائلاً: “نحن نعارض بشدة حركات المقاطعة المحلية وكل ما من شأنه أن يلحق الضّرر بانسجام مكوّنات المجتمع وتماسكها، ويعيق حركة الصادرات ويهدّد أمننا الاقتصادي”.
صادق مجلس العموم على مشروع القانون يوم 3 يوليو/تموز. ومن بين 650 نائبًا، صوت 268 بـ“نعم” و70 بـ“لا”، في حين فضّل أعضاء حزب العمّال التحفّظ (تمامًا كما فعل 82 منتخبًا من الأغلبية المحافظة). لم يغب التعبير عن المواقف خلال الأسابيع التي تلت التصويت، مثل مجوعة تغريدات على تويتر تعبّر عن غضبها من حملة التضامن مع فلسطين يوم 19 يونيو/حزيران 2023 وقدّمت بالإضافة إلى ذلك إشارة صادمة للأراضي المحتلة بهذا القانون المناهض للمقاطعة:
حتى أن مشروع قانون مناهضة المقاطعة يذكر بالاسم “الأراضي الفلسطينية المحتلة” و“هضبة الجولان المحتلة” إلى جانب إسرائيل، على أنها أراض يحميها القانون صراحةً من مقاطعة القطاع العام، دون أي احتمال لاستثناء آني أو مستقبلي.
وقّعت أكثر من 60 منظمة من المجتمع المدني من بينها “غرين بيس المملكة المتحدة” و“ليبرتي” على إعلان يستهجن مشروع القانون وجاء فيه: “في حال اعتماد هذا القانون، سيتم تضييق الخناق على عدد واسع من الحملات التي تتناول تجارة الأسلحة والعدالة المناخية وحقوق الإنسان والقانون الدولي والتضامن الدولي مع الشعوب المضطهدة التي تناضل من أجل العدالة”.
عبّر الصحفي والمستشار جايمس براونسل الذي عمل مرة واحدة بالأراضي الفلسطينية المحتلة عن رأيه في موقع “ميدل إيست آي”، معتبراً أنّ “مشروع الحكومة البريطانية المحافظة القاضي بمنع المجالس المحلية وهياكل عمومية أخرى من المشاركة في حملات المقاطعة ومنع الاستثمار، ليس سوى آخر أشكال الهجوم اللا ليبرالية والمناقضة للمعايير الديمقراطية”.
من جانب آخر، عبّرت منظمات بريطانية يهودية مثل “نا’أمود” و“تحالف الشتات” عن رفضها لمشروع القانون باعتباره “مثالا جليّا لكيفية إخضاع مفهوم معاداة السامية لغرض دعم سياسة معادية لفلسطين، بالإضافة إلى التضييق على الحريات”، وفق ما صرّحت به مديرة تخالف الشتات بالمملكة المتحدة إيميلي هيلتون.
وعلى الرغم من صيحات الفزع المتتالية حول هذا الموضوع، بقي موقف حزب العمّال ضبابيّا لوقت طويل، مع أنّ رئيسه كير ستارمر لا يخفي مناهضته لحملة المقاطعة. فقد انتهى أعضاء حزب العمّال للتو من فترة ترؤّس جيريمي كوربين من 2015 إلى 2020 والتي تركت الكثير من المرارة بسبب تهم خطيرة من قبل العديد من المدّعين العامين، والذين اعتبروا تعامل الحزب داخليا مع معاداة السامية كارثيًّا. دفعت هذه التّهم بالحزب إلى تعليق مهام جيريمي كوربين، قبل أن يستعيدها جزئيّا فيما بعد.
يعتقد البعض، ومن بينهم أساسا مناصرو كوربين، أنّ مسألة معاداة الساميّة قد تمّ تضخيمها لأغراض سياسيّة تتمثّل في تخريب الخطّ اليساريّ الرّاديكالي الذي كان يجسّده رئيس حزب العمّال. وقد صرّح المفكّر الباكستانيّ الأصل طارق علي: “البعض من الجناح اليمينيّ لممثّلي حزب العمّال بالبرلمان والذين يتراوح عددهم بين 70 و80، يُؤثرون خسارة الانتخابات على فوز كوربين”.
فرنسا، “وطن حقوق الإنسان”؟
ما الذي يحدث بفرنسا؟ ولم كلّ هذا التململ في كلّ ما يتعلّق بفلسطين؟ لماذا يجد كل معارض للسياسة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة نفسه على كرسيّ الاتّهام، في هذا البلد الذي يزعم أنّه “وطن حقوق الإنسان”؟ لماذا تنحى فرنسا الرسمية إلى تبنّي الخلط المثير للجدل حول مفاهيم معاداة السامية ومعاداة الصهيونيّة؟ لا تملك هذه الأسئلة جوابا واضحًا أو بديهيًّا.
لكنّ الأمر جليّ، حيث تكفي العودة إلى منشور أليوت-ماري (باسم الوزيرة الفرنسية ميشال أليوت-ماري التي كانت وزيرة العدل آنذاك) في 12 فبراير/شباط 2010 حتى نحدّد أصل الداء. يطلب هذا النص من المدّعين العامين تتبّع كل الدّاعين أو المشاركين بحركات تدعو إلى مقاطعة “المنتوجات الإسرائيلية”، وذلك بمقتضى القانون الجزائي المتعلّق بـ“التحريض على الكراهية والتمييز”. الأحكام الصادرة تتفاوت، ووجب الانتظار حتى يوم 11 يونيو/حزيران 2020 حتى تدين المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فرنسا في قضية تعلّقت بمناضل من حملة المقاطعة بعد أن تم تأييد إدانته من قبل محكمة التعقيب، بعد استئنافه لقضيته.
لا يساعد موقف رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون على إيضاح الأمور بفرنسا. ففي مارس/آذار 2022، كرّر ماكرون أن “معاداة السامية ومعاداة الصهيونية هما ألد أعداء جمهوريتنا”، ممّا أثار استياءً كبيرًا لدى جزء من اليهود الفرنسيّين المحتجّين ضدّ السياسة الاستعمارية الإسرائيلية.
قامت فرنسا بقيادة ماكرون هي الأخرى بتبنّي إعادة بناء مفهوم معاداة السامية من قبل التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست في 2019، والذي تبنّته بدورها 20 دولة من بينها 16 منتمية إلى الاتحاد الأوروبي. تكمن مشكلة هذا القرار في تمظهرات معاداة السامية التي تم ذكرها ومن بينها انتقاد إسرائيل.. قرار غير ملزم، تمّ تبنّيه من قبل مجلس وطني هجره أغلب أعضائه بشكل مريب. وقد اقتصر التصويت على 154 صوتاً بـ“نعم” (النواب عن الحزب الرئاسي “الجهورية إلى الأمام” وحزب “الجمهوريّون” اليميني)، و72 صوتاً بـ“لا” (يسار) و43 متحفّظ.
لكن حماسة الرئيس الفرنسي سيقوده إلى ما هو أبعدُ من ذلك، وسيذهب يوم 24 فبراير/شباط 2022 نحو نطق هذه الجملة: “لم أتوقّف يوما عن قول أنّ القدس هي العاصمة الأبدية لليهود”، وقد كان ذلك بمناسبة العشاء السنوي للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية بفرنسا (كريف). مرّ التصريح دون أن يلاحظه الكثير. توجّب حينها على رئيس الوزراء جان كاستيكس قراءة خطاب ماكرون الذي شغلته الأحداث بأوكرانيا.
نلاحظ في الآونة الأخيرة في فرنسا إلغاء العديد من المحاضرات بأوامر من رؤساء البلديات أو المحافظين والتي ترمي إلى مواضيع معيّنة أو تستضيف أناسا معيّنين، تحت ذرائع مختلفة. شهد المحامي الفرنسي الفلسطيني صلاح حمّوري الكثير من ذلك، فقد تم ترحيله من القدس إلى فرنسا يوم 18 ديسمبر/كانون الأول 2022 بعد عدة فترات سجن بسبب تهم ما فتئ ينكرها، واعتقال إداريّ بقي دون محاكمة. شكّلت العديد من المحاضرات التي كان سيشارك بها كمتدخّل محلّ العديد من الشكاوى التي أدت في بعض الأحيان إلى إلغائها، مثل المحاضرة التي كان سيلقيها بمدينة ليون في يناير/كانون الثاني 2023. حينها رضخ غريغوري دوسي رئيس البلدية الممثل عن حزب الخضر، إلى الضغوطات التي مورست عليه (…).
تبدو مسألة حرية التعبير محلّ تساؤل في أوروبا. وفي مفارقة كبرى، يكون ذلك باسم الدفاع عن دولة – إسرائيل – تضرب بدورها عرض الحائط مبادئ القوانين الدولية وحقوق الإنسان بثبات يدعو في كلّ مرة إلى الدهشة. من المؤكد أن معاداة السامية هو موقف مخجل وهو لحسن الحظ ممنوع قانونيّا في كل مكان. لكن عندما تقوم دول بوضع هذا المفهوم في خلط مع معاداة الصهيونية ومع كل نقد لإسرائيل، فإنها تساهم في دعم الإفلات من العقاب لهذه الدولة التي تتلاعب بكل سخرية بتاريخ الإبادة، لا لشيء إلا لتضمن حصانتها”.
(*) تجدون النص كاملاً في موقع “أوريان 21“