هل من تأثير للدين علی العلاقات الدولية؟

أثارت حوادث حرق المصحف الشريف ردود أفعال متعددة ومتباينة عربياً وإسلامياً ودولياً، وترجمت رسمياً في بعض الحالات باستدعاء سفراء أو قطع علاقات دبلوماسية أو طرد سفير هذا البلد وعدم استقبال آخر في بلد ثان؛ في الوقت الذي دافعت فيه دول غربية عن هذا الفعل من زاوية "حرية المعتقد والرأي"؛ في حين توقف علماء السياسة والعلاقات الدولية أمام هكذا ظاهرة لمحاولة الإجابة علی سؤال يتعلق بتأثير "الدين" على العلاقات الدولية؟ وهل يمكن قبول أو رفض هذ المفهوم، أم يجب ان يؤخذ في الاعتبار بعد عقود من إزاحة "الدين" عن الحياة السياسية؟

خلال العقود الأربعة الماضية، واجهت العلاقات الدولية مفاهيم جديدة وإن كانت بدرجات متفاوتة، لا سيما من لحظة إندلاع الثورة الاسلامية في إيران عام 1979 وانتهاء بفوز أحزاب تشكلت علی أساس المبادیء الدينية في أكثر من بلد إسلامي مروراً بظهور تنظيمات اتخذت من فهمها الخاص لـ”الدين” أسلوبا لفرض “نموذجها” كتنظيم “القاعدة” وتنظيم الدولة الاسلامية “داعش”. وبعبارة أخری، فإن المجتمع الدولي تفاعل مع ظواهر سياسية، وإن كانت غير مترابطة في الزمان والمكان، إلا أن ما يجمعها هو تعاليم “الدين” في الوقت الذي اسدل العالم الغربي الستار علی هذا النوع من الثقافة منذ الثورة الصناعية التي قامت في القرنين الثامن والتاسع عشر.

الثورة الاسلامية في إيران كانت نقطة مفصلية في تبني العقائد الدينية لإحياء فكرة حوكمة “الدين” بعد عقود من إنتهاء الدولة العثمانية التي اعتبرت نفسها إمتداداً للدولة الإسلامية وهي تجربة انتهت بالأتاتوركية التي وضعت حداً لهذه الأفكار بعيداً عن مصداقيتها وفهمها لـ”الدين”.

في العام 1988 أدی انتشار كتاب “آيات شيطانية” للكاتب البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي إلی استنكار إسلامي، رسمي وشعبي، في مختلف بلدان العالم الإسلامي، ورأى معظم هذا العالم أن المتهم الأساس في هذا الكتاب ليس شخصاً بعينه بقدر ما يمثل مدرسة غربية أثبتت بدفاعها عن الكتاب عدم احترامها لـ”الدين” الإسلامي ومقدساته.

في العام 1990، تأثرت دول وشعوب إسلامية بالعقيدة التي أطلقها تنظيم “القاعدة” بقيادة أسامة بن لادن، وهي تجربة أدت لاحقاً إلى سيطرة حركة “طالبان” في العام 1996 علی الحكم في أفغانستان حيث وجد المجتمع الدولي نفسه في مواجهة نوعين من حوكمة “الدين”: “الإسلام السلفي” أو “السلفية الجهادية” ممثلة بتنظيم “القاعدة” وحركة “طالبان”.. في المقلب “السني”، مقابل “إسلام إيراني” أو “شيعي” بدأ يتشكل بمفاهيم وعقائد تستند إلی “الدين” نفسه أيضاً مع انتصار الثورة الإيرانية. وفي موازاة هذين النموذجين، برز في تركيا في الفترة ذاتها نموذج ثالث تميز بالإعتدال والوسطية إثر فوز “حزب الرفاه” بزعامة نجم الدين اربكان في الإنتخابات التركية وإن لم يدم طويلاً لكنه أسّس لظاهرة “حزب العدالة والتنمية” برئاسة رجب طيب اردوغان التي تحكم تركيا منذ عقدين من الزمن ووفق مفاهيم “دينية” في بلد لطالما كان يتباهى بعلمانيته!

إننا أمام ظاهرة جديدة في العلاقات الدولية تستحق التعمق أكثر في درسها، وليس مهماً إن كان الآخر يقبل بها أم لا؛ المهم كيف يمكن أن يتعاطی ويتفاعل ويُكيّف نفسه من أجل احترام “الدين” كعامل ثقافي يُؤثر في العلاقات الدولية بكافة أبعادها الإقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية والإجتماعية

وفي الوقت الذي تبنت منظمة الأمم المتحدة في العام 2001 فكرة “حوار الحضارات” التي طرحها الرئيس الإيراني آنذاك محمد خاتمي إلا أن المجتمع الدولي اصطدم بحوادث 11 سبتمبر/أيلول التي ولّدت حالة من الهلع والخوف من “الدين” وأعادت إلى الأذهان ظروف وتداعيات الحروب الصليبية!

هذه التطورات المتسارعة في العقود الأخيرة، جعلت علماء الاجتماع يركزون على درس ظاهرة “الدين السياسي” وتأثيرها على المجتمعات. وفي هذا السياق، يقول الأكاديمي الإيراني محمود شوري إن المجتمع الدولي نظر إلى الثورة الإسلامية في إيران باعتبارها قاعدة لتصدير “الثورة” إلى محيطها، لكنه أيقن مع الوقت أن الأمر يتعدی هذا الفهم المبسط نحو مفاهيم أبعد من ذلك مثل “الإسلام السياسي” و”الإسلام السلفي” و”الأصولية الإسلامية”؛ حيث أطلق المنظرون في العلوم السياسية مصطلح أو مفهوم “التهديد الإسلامي” الذي حلّ محل “التهديد الشيوعي”، ولا سيما إثر أحداث 11 أيلول/سبتمبر وصولاً إلى شن ما أسميت “الحرب علی الإرهاب”.

غير أن معظم علماء العلاقات الدولية لم يتمكنوا من الإحاطة بهذه التطورات ولاحظنا كيف أن عدداً كبيراً من المؤرخين والمستشرقين تقدموا لشرح ما يجري سواء في الشرق الإسلامي أو في آسيا أو إفريقيا أو حتی في أمريكا اللاتينية؛ وأكدوا علی مفاهيم مثل الصراع التاريخي بين الإسلام كـ”دين” وحضارة من جهة؛ والغرب ومفرداته الثقافية كالحداثة والديموقراطية والليبرالية والحرية من جهة أخری؛ كما رسموا صوراً لهذه القراءة، أو كما وصفها المنظر الأمريكي صمویل هنتنغتون بأنها تعبير عن “صراع الحضارات”!

إن المجتمع الدولي وتحديداً أولئك المهتمين بالعلاقات الدولية لا يمكنهم أن يمروا مرور الكرام علی أهمية “الدين” في العلاقات الدولية بعد التطورات التي شهدتها مجتمعات مختلفة؛ ولا يمكنهم أن يضعوا هذه التجربة في مواجهة مباشرة مع مفاهيم سائدة في المجتمعات الغربية كالحداثة والديمقراطية.

إننا أمام ظاهرة جديدة في العلاقات الدولية تستحق التعمق أكثر في درسها، وليس مهماً إن كان الآخر يقبل بها أم لا؛ المهم كيف يمكن أن يتعاطی ويتفاعل ويُكيّف نفسه من أجل احترام “الدين” كعامل ثقافي يُؤثر في العلاقات الدولية بكافة أبعادها الإقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية والإجتماعية.. ولنا في التجربة الأمريكية مع الدين في القرن التاسع عشر وتجربة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية في القرن العشرين خير نموذج لعلاقة الدين بالسياسة الخارجية والعلاقات الدولية أو ببناء الذات نفسها..

إقرأ على موقع 180  يسرائيل هيوم: بايدن يبتعد.. فتقترب دول الخليج من إيران!

([email protected])

Print Friendly, PDF & Email
محمد صالح صدقيان

أكاديمي وباحث في الشؤون السياسية

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  .. والحرب الثانية تنتج حرباً باردة (12)