طلال سلمان.. وأمجد أعداد “السفير”

تُعدّ أعداد جريدة "السفير" التي صدرت خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان، في عام 1982، من العلامات الفارقة في مسيرتها، أو كما يقول طلال سلمان "من أمجد الأعداد التي صدرت"، على الرغم من أنّه لم يكن موجوداً في لبنان آنذاك. فريق العمل الصامد هو من اتخذ قرار البقاء في الجريدة، والحرص على استمرار صدورها، علماً أن سلمان لم يفرض على أحد شيئاً، وترك لكلّ شخص حرية الاختيار. ولأنها من أمجد الأعداد، ولأنّ فريق العمل يستحق التنويه، حرص سلمان خلال المقابلات التي أجريناها معه نهاية العام 2016، على تقديم "شهادة للتاريخ" عن مغامرة "هؤلاء الأبطال"، فتوقف عند هذه المحطة وسرد تفاصيلها من المكان الذي واكبها فيه: العاصمة الفرنسية باريس.

“هذه الفترة أحب التحدث عنها كثيراً لأني لم أكن حاضراً فيها، وبالتالي هي شهادة للفريق. لو كنت موجوداً كنت سأفعل ما فعلوه، لكن برغم غيابي وبرغم عدم معرفة موعد عودتي، تصرفوا كأفضل ما يكون التصرف. وضعوا حياتهم على أكفهم، وعملوا، وأصدروا جريدة معادية للمحتل الذي كان يمكن في أيّ لحظة أن يدخل ويعتقلهم. فعلوا هذا برغم أني قلت لهم: أنا بعيد، ولا يوجد عندي أدنى شك بوطنيتكم ولا بعروبتكم، لكني أعرف أن الظرف صعب، فالقرار لكم. انسوني وتصرّفوا. هذا قراركم. عندما أصرّوا على الاستمرار، حيّيتهم، وإلى اليوم أحيّيهم وأقدّر الموقف المميز الذي إتخذوه حتى نجحوا في تلك الفترة بالمحافظة على “السفير”، وعلى موقفها ودورها الريادي. ربما كانت هذه مساهمة ولو بسيطة في رفع الروح المعنوية عند الناس المحاصرين في العاصمة، بأن الجريدة لم ولن تتوقف. أن الجريدة التي يعتبرونها جريدتهم، جريدة المقاومة، جريدة الحركة الوطنية، جريدة الدفاع عن كرامة لبنان وكرامة المقاومة الفلسطينية لم تتوقف يوماً واحداً”.

في تلك المرحلة، صدرت “السفير” أحياناً في أربع صفحات فقط، “من باب إثبات الحضور، والقول إننا موجودون لنقول “لا” كلّ يوم. وأعتقد أن هذه الأعداد هي من أمجد الاعداد التي صدرت. أولاً لمجرد صدورها، ثانياً استمرار صدورها بهذه النبرة وهذا الموقف بينما الاسرائيليون كانوا قد وصلوا إلى الشارع نفسه الذي يقع فيه مبنى الجريدة”.

لكن لماذا لم يكن في لبنان؟ ولماذا لم يعد؟

بدء الاجتياح

لا يخفي طلال سلمان أسفه لأنه لم يكن في لبنان عندما حصل الاجتياح. كان وقتها في باريس، حيث كانت تقيم عائلته منذ مطلع عام 1982 تقريباً. ففي كانون الأول/ديسمبر 1981، جرت محاولة لاستهداف منزل سلمان بالصواريخ. “وضعوا صاروخين على سطح البناية خلفنا، كانا موجهين إلى الطابق الذي نقيم فيه. أحد عناصر الحزب القومي وجدهما بالصدفة، كان لـ”القومي” مكتب قريب ولاحظ العنصر وجود دخان، فصعد إلى السطح ووجد الصاروخين، واستطاع أن يعطلهما قبل أن ينطلقا”.

خلال الاجتياح استمرّت “السفير” في الصدور، أحياناً في أربع صفحات فقط، من باب إثبات الحضور، والقول إننا موجودون لنقول “لا” كلّ يوم

عندما عرف الزميل محمد المشنوق بالحادثة، وكان مديراً إدارياً للجريدة، تعامل مع الأمر بجدية ومسؤولية، واقترح سفر العائلة إلى فرنسا. لحق سلمان بعائلته بعد وقت، واتخذ القرار بإبقائها في باريس حتى انتهاء العام الدراسي بعدما حصل على تسهيلات لإدخال الأولاد إلى المدرسة. ومع قرب انتهاء السنة الدراسية، في أواخر شهر أيار/مايو 1982، قصد سلمان باريس لكي يعود بالعائلة إلى لبنان، إلا أن الاجتياح الاسرائيلي لم ينتظر “بينما نحن منهمكون في توضيب أغراضنا وترتيب أمورنا، وقعت محاولة اغتيال السفير الاسرائيلي في لندن[1] في 3 حزيران/يونيو، وأعتقد أن العدو الاسرائيلي بقيادة آرييل شارون دخل إلى لبنان بعد يومين. أفرغنا الحقائب”.

في البداية، توقع سلمان أن يكون الأمر عبارة عن عملية اسرائيلية قصيرة، تنتهي خلال يوم أو يومين، “لكن تبيّن سريعاً أنها عملية اجتياح كامل لكلّ لبنان تقريباً”. أُقفل مطار بيروت، وتوغلّت قوات الاحتلال في الأراضي اللبنانية لتقطع طريق الشام – بيروت، فصارت العودة إلى لبنان حتى عن طريق دمشق شبه مستحيلة، “إلا لمن يقبل أن يمرّ على الحواجز الاسرائيلية” يقول سلمان الذي استسلم لفكرة أنّه لن يستطيع العودة “فقد أسْقط في يدي، كما يقولون بالفصحى”.

المساهمة من باريس

انتقل التفكير من محاولة العودة إلى بيروت، إلى كيفية المساهمة والإستفادة من الوجود في باريس لخدمة الجريدة، فقد شعر سلمان بأن وقع الاجتياح وهو بعيد أصعب عليه “كنت محتجزاً فعلياً، أتمزّق وفي حالة توتر دائم، وعائلتي متوترة معي. صرت أفكر كيف يمكن أن أقدّم شيئاً لفريق الجريدة، فأعوّض بحدود معينة عن غيابي وأخدم الجريدة من موقعي. فكرت أنّه قد يكون تزويدهم بما هم غير قادرين على رؤيته بما أنهم تحت الحصار. كان عندنا مكتب لـ”السفير”، في البناية رقم 90 في منطقة الشانزليزيه. أسّسنا فريقاً صغيراً، وصرنا نترجم ما يكتبه المراسلون الأجانب من الميدان، لكي يستطيع الزملاء في بيروت أن يطلعوا على ما يحصل في المناطق اللبنانية التي لا يستطيعون الوصول إليها، بالإضافة إلى الأخبار عن التحرّكات الاسرائيلية. كنت أعطيهم مثلاً أخبار ما يحصل في الضاحية الجنوبية لبيروت، لأنهم لم يكونوا قادرين على الوصول إليها، معتمدين على ترجمة التقارير الصادرة في الصحافة الفرنسية”. وذكر سلمان في تقييمه للصحف الفرنسية آنذاك أن صحيفة “لوموند” كانت الأكثر رصانة، فقد كنت تجد فيها نبرة استنكارية للقصف، وكذلك صحيفة “لو نوفيل اوبسرفاتور”. أما صحيفة “لو فيغارو” فكانت مع الاسرائيليين طبعاً وغيرها الكثير من الصحف الفرنسية والأوروبية. البحث كان عن كُتّاب حافظوا على موقف مقبول من المقاومة الفلسطينية، لكن عموماً في الصحافة الفرنسية، عندما يكون الخيار بين اسرائيل وأي طرف آخر، تكون الغلبة للخيار الاسرائيلي”.

إقرأ على موقع 180  إسرائيل تكشف "أوسلو".. وعميلها عدنان ياسين معاً! (65)

“صباح الخير يا بيروت”

لم يُتح لطلال سلمان أن يطلع على أعداد “السفير” خلال وجوده في باريس “كان فريق العمل يخبرني عن الجريدة أكثر مما كنت أراها. لاحقاً اطلع على ما أبدعه الفنان ناجي العلي في تلك الفترة، “لا سيما عبارة “صباح الخير يا بيروت” التي لا يستطيع أحد أن ينساها”. وقرأ ما كتبته الجريدة عن معركة خلدة، التي انبرى فيها الشباب للمقاومة وكبدوا قوات الاحتلال الخسائر”. من خلال التواصل اليومي، عرف سلمان أن الفريق حوّل الجريدة إلى مكان دائم للإقامة. “حوّلوها إلى منامة، وأعدوا مطبخاً فيها. تجنّدت الصبايا لإعداد الطعام، أذكر منهن زينب حسون وفاديا الشرقاوي ونجاة حرب وأخريات. كما أذكر بلال الحسن، باسم السبع، جوزيف سماحة، محمد مشموشي، ياسر نعمة، وتوفيق صيداوي أعتقد. في المحليات كانوا كثراً، لست قادراً الآن على تذكر أسماء الجميع. وجماعة المطبعة رتبوا أمورهم بحيث يستطيعون الوصول. يعني أنشأوا خلية حيوية، ورتّبوا أمورهم. أمن الفريق الضروريات من ماء وطعام، وأمضوا سهرات طويلة في المكاتب وفي إحدى الليالي سهر معهم أبو عمار وقيادات من الأحزاب والمقاومين، قبل أن يهيمن الاسرائيليون على العاصمة كلّها ويكتمل الحصار على بيروت”.

من خلال التواصل اليومي عرف أن فريق العمل حوّل الجريدة إلى مكان دائم للإقامة وحوّلوها إلى منامة، وأعدّوا مطبخاً فيها

بعد الحصار “صمد الفريق في الجريدة، طبعاً من دون زوّار وطبعاً كنا على تواصل دائم عبر الهاتف. وفي تلك الفترة تقريباً، اكتشفنا الفاكس، اشتريت جهازاَ لمكتب باريس، وأعتقد أننا هرّبنا جهازاً إلى بيروت عن طريق مناطق شرق بيروت، فصار التواصل أسهل. يعني صرت أستطيع أن أكتب وأرسل عوض أن أمّلي عبر الهاتف”.

أصداء الجريدة كانت تصله أيضاً من اللبنانيين الذين كانوا يتردّدون إلى باريس، وإلى مكتب “السفير” هناك، بالإضافة إلى آخرين من جنسيات عربية مختلفة. منهم من كان ينقل الأخبار، ومنهم من كان يرغب في معرفة الأخبار. وفي الحالتين، كانت “السفير” جريدة في قلب الحدث برغم الحصار الإسرائيلي.

ميشال المر: تعالَ معي إلى بيروت

خلال وجوده في فرنسا، التقى طلال سلمان في أوائل شهر آب/أغسطس، بالصدفة بميشال المر (1931- 2021/ نائب سابق في حينه)، أمام الفندق الذي كان ينزل فيه عميد الكتلة الوطنية الراحل ريمون إده (1913- 2000). “كان يشتري قمصاناً وبدلات في شارع متفرّع قرب شارع “جورج 5″، وكنتُ خارجاً من الفندق بعد لقائي مع ريمون إدّه. سألني عن موعد عودتي إلى بيروت، فقلت له: عندما يفتح المطار. قال: أنا عائد، هل تأتي معي؟ قلت له: كيف؟ عبر أي طريق؟ قال لي: طريق المطار. قلت له: المطار فيه اسرائيليون. قال: وإن يكن. قلت: لا والله، عن طريق المطار لن أعود. قال لي: سأخبرك أمراً، تعالَ معي. أنت لا تعرف بشير (يقصد الرئيس السابق بشير الجميّل)، بشير سيكون قائداً تاريخياً، ولبنان سيصير جنة، وأنا أنصحك تعال معي وأنا أعرّفك إليه. قلت له: أنا سأخبرك شيئاً، يمكنك أن تسميه تصوّراً أو تخيّلاً. أنا أعتقد أني عندما سأعود إلى بيروت لن يكون هناك بشير الجميل. قال: شو عم تحكي؟ قلت: هذا تقديري الشخصي، صعب أن يعيش شخص مثله، وصعب أن يحكم البلد. شخص يقيم هذه العلاقة المفتوحة مع اسرائيل يصبح رئيس جمهورية لبنان؟ لا أستطيع أن أتصوّر ذلك إطلاقاً”.

بعد شهر تقريباً، انتخب بشير الجميّل رئيساً، ثم أُرتكبت بعد اغتياله مجزرة صبرا وشاتيلا. “كان الوجع مضاعفاً. يمكن أن تتصوري كيف سيكون وضع شخص مثلي، يتابع أخبار مذبحة راح فيها بأبسط تقديرات ألف وخمسمائة ضحية، وفي أعلى التقديرات ثلاثة آلاف بين نساء وأطفال وشباب، إلى الفلسطينيين كان هناك لبنانيون من الجنوب ومن بعلبك، وسوريون، وكلّهم غير مقاتلين”.

وبالفعل عاد طلال سلمان إلى بيروت.. كما كان يشتهي أن يعود.

[1] جرت محاولة اغتيال السفير الاسرائيلي في لندن شلومو أرجوف في 3 حزيران/يونيو واتهم فيها ما كان يُعرف بـ”جماعة أبو نضال” أو “فتح- المجلس الثوري”، المنشقة عن حركة “فتح”. على الرغم من ذلك، اتخذت تل أبيب محاولة الاغتيال ذريعة لتبرير الاجتياح.

Print Friendly, PDF & Email
مهى زراقط

كاتبة وصحافية وأكاديمية، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  برهان حياة ما عرفنا كيف نبت