ما بعد خطاب التنصيب.. أوكرانيا بين نموذج غزة أو يالطا جديدة!

تأكد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترامب، من استحالة وقف الحرب الروسية-الأوكرانية "في غضون 24 ساعة"، كما سبق ووعد، فسارع إلى وصف أخطر نزاع تشهده أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية بـ"الحرب السخيفة"، وأطلق سلسلة تهديدات ضد روسيا لأن الرئيس فلاديمير بوتين لا يريد انهاء الحرب، وفق ترامب، على عكس الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

اعتقد ترامب، المُؤيَّد بزخم اتفاق وقف النار في غزة بين حركة “حماس” وإسرائيل، أن بوتين وزيلينسكي، لن يخذلاه ويعلنان وقفاً فورياً للنار. أمام مشهد معقد للغاية، مال الرئيس الأميركي إلى اعتماد نهج أكثر واقعية، ومنح مبعوثه لحل النزاع الجنرال المتقاعد كيث كيلوغ، مهلة مئة يوم لاستكشاف السبل الآيلة إلى تحقيق وقف للنار في الحرب التي تقترب من إنهاء عامها الثالث.

يُقارب ترامب الحرب الروسية-الأوكرانية، أولاً من زاوية المساعدات التي انفقتها الولايات المتحدة تسليحاً وتمويلاً لكييف والبالغة نحو مئة مليار دولار. وهو يريد وقف الحرب في المقام الأول كي يُوقف هدر الأموال الأميركية في غير موضعها، بحسب اعتقاده، ولا يهتم كثيراً بتبريرات الديموقراطيين القائمة على أن المساعدات هي استثمار في الأمن القومي للولايات المتحدة ولحلفائها.

أما هل يملك ترامب خطة مفصلة لتسوية ديبلوماسية للنزاع؟ فهذا غير مؤكد. وليس من الواضح ما إذا كان فريق ترامب يدعم خطة نشرها كيلوغ العام الماضي، وتتضمن وقفاً للنار تمهيداً لإجراء مباحثات سلام، وتجميداً لخطوط الجبهة الحالية، ورفعاً جزئياً للعقوبات عن روسيا، بينما يُرجأ الاقتراح المتضمن ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، على أن يعمد الغرب إلى تزويد كييف بمزيد من الأسلحة في حال رفضت روسيا الدخول في المفاوضات. كما أن الخطة نفسها تُهدّد بقطع المساعدات العسكرية عن كييف إذا لم تقبل التفاوض. لكن موسكو لم تبدِ أي ترحيب بالخطة.

تاتيانا ستانوفايا: “بوتين يريد ترتيبات جيوسياسية شاملة ترقى إلى تلك التي توصل إليها قادة الاتحاد السوفياتي وأميركا وبريطانيا مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها في يالطا، والتي أفضت إلى تقسيم أوروبا بين دوائر نفوذ سوفياتية وأخرى تابعة للغرب”

ويدعم وزير الخارجية الأميركي الجديد ماركو روبيو، ما يعتبره ترامب استفزازاً كبيراً أدى إلى الهجوم الروسي على أوكرانيا والقائم على مغازلة الغرب لأوكرانيا في شأن عضوية “الناتو”.

دوائر نفوذ في أوروبا

وفي المقابل، تطمح روسيا وأوكرانيا إلى حلول أخرى. مثلاً ما يزال بوتين يتطلع إلى اعتراف أوكراني وغربي بضم شبه جزيرة القرم التي سيّطر عليها عام 2014، وكذلك الأراضي التي استولت عليها القوات الروسية بعد حرب 2022، وهي تُعادل خُمس الأراضي الأوكرانية، فضلاً عن المطالبة بإعلان حياد أوكرانيا وعدم انضمامها إلى “الناتو” وخفض قواتها المسلحة.

تنقل صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية عن المتخصصة في الشؤون السياسية تاتيانا ستانوفايا المقيمة في باريس ولها صلة مع أشخاص مقربين من الكرملين، أن بوتين يريد ترتيبات جيوسياسية شاملة ترقى إلى تلك التي توصل إليها قادة الاتحاد السوفياتي وأميركا وبريطانيا مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها في يالطا، والتي أفضت إلى تقسيم أوروبا بين دوائر نفوذ سوفياتية وأخرى تابعة للغرب.

وعلى الضفة الأخرى، يطالب زيلينسكي بضمانات أمنية تشمل انضمام كييف إلى “الناتو”، أو على الأقل نشر ما يصل إلى 200 ألف جندي من الحلف بينهم أميركيون على الأراضي الأوكرانية، لردع روسيا عن محاولة شن حرب أخرى على أوكرانيا، في وقت بدأ الرئيس الأوكراني يُدرك استحالة استعادة معظم الأراضي التي سيطرت عليها روسيا.

ومع أن ترامب يبدي رغبة في لقاء بوتين، في خطوة ستكون الأولى من نوعها بين رئيسين أميركي وروسي منذ ثلاثة أعوام ونصف، فإن الرئيس الأميركي شنّ بعد تنصيبه هجوماً لاذعاً على نظيره الروسي، معتبراً أنه “يُدمّر روسيا” من خلال مواصلة الحرب، وهدّد بفرض عقوبات جديدة ورسوم جمركية عالية على البضائع الروسية (علماً أن التبادل التجاري بين البلدين اقتصر على ملياري دولار عام 2024 نظراً للعقوبات الكاسحة التي يفرضها الغرب على روسيا)، وبفرض عقوبات على الدول التي ما تزال تشتري الغاز الروسي وفي مقدمها الصين والهند. وذهب ترامب خطوة أبعد، عندما أعلن في خطابه الافتراضي أمام منتدى دافوس بسويسرا، يوم الخميس الماضي، أنه طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أن تعمد الرياض ومنظمة “أوبيك” إلى خفض أسعار النفط، لأنه يرى أن هذا الخفض سيُساهم في وقف الحرب، اعتقاداً منه أن ذلك سيحرم الكرملين من الأموال الضرورية لمواصلة الحرب.

ماذا تقول المعطيات الاقتصادية؟

بحسب تقويمات غربية، فإن الاقتصاد الروسي بدأ يظهر بعض الإرهاق في وقت يكافح التضخم وانفاق مليارات الدولارات على الصناعات الدفاعية، وعلى اقناع الروس بالتطوع في الجيش والاستفادة من المنافع التي تعود على عائلات الجنود القتلى أو الجرحى. ويُقدّر مسؤولون غربيون أن روسيا فقدت نحو 700 ألف جندي ما بين قتيل وجريح.

ومع ذلك، يقول محلّلون غربيون أيضاً، إنه بينما تخسر روسيا الأموال والرجال، فإنها لا تزال تملك ما يكفي لمواصلة القتال وامتلاك اليد العليا. وتتقدم القوات الروسية غرباً بما يُهدّد مدناً وبلدات تشكل مراكز لوجستية مهمة للجيش الأوكراني.

من المؤكد أن بوتين وشي جين بينغ وقادة آخرين في العالم، كانوا يتتبعون بدقة وبنوع من الذهول إعلان ترامب عن أن أميركا يجب أن تكون “أمة متنامية وأن تزداد ثروتها وأن تُوسّع أراضيها”، من خليج المكسيك إلى قناة بناما وجزيرة غرينلاند وكندا وصولاً إلى رفع العلم الأميركي على المريخ!

وبحسب مدير قسم الاقتصاد العالمي والشؤون الدولية في المدرسة العليا للاقتصاد بموسكو فاسيلي كاشين: “لدينا اختلالات وتضخم، لكن ليس بالحدة التي تتطلب وقف القتال.. نحن في موقع يؤهلنا للضغط لتحقيق مطالبنا، وإذا ما استمرت القوات الأوكرانية بالتقلص كما هو الحال حالياً، فإنه من الحكمة للطرف الآخر أن يُلبي شروطنا”.

إقرأ على موقع 180  فرصة فيينا الأخيرة: إتفاق أو إلى ما بعد بايدن!

ويرى مراقبون أن تهديد ترامب بفرض عقوبات إضافية على روسيا، يعني انه أدرك أن التوصل إلى اتفاق سيستغرق بعض الوقت. وتركت النبرة الإنذارية التي تحدث بها ترامب عن روسيا بعد تنصيبه، امتعاضاً كبيراً في أوساط الكرملين. وقال مدوّن الحرب الروسي فوينكور كوتونوك الذي يحظى بملايين المتابعين: “روسيا ليست قطاع غزة. والبدء في حوار بإنذارات ليس الخطوة الأكثر حكمة من زعيم يدعي أنه صانع سلام. موسكو لن توافق أبداً على أي صفقات يمليها الابتزاز والتهديدات”.

وردّ الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف على ترامب بنبرة أكثر هدوءاً قائلاً: “لا نزال مستعدين للحوار، وتحدث الرئيس بوتين كثيراً عن هذا.. عن حوار على قدم المساواة.. عن حوار يقوم على الاحترام المتبادل”.

كما أن ترامب بإقدامه على تهديد الصين والهند بالعقوبات بسبب تعاملهما مع روسيا، لا يجد عنصراً مُساعداً في وقف الحرب، في حين كان في مستطاع واشنطن الاستعانة ببكين ونيودلهي للمساهمة في تسوية ديبلوماسية بين موسكو وكييف.

عقب خطاب التنصيب الذي أعلن فيه ترامب عن أجندة أميركية إمبريالية، سارع بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ إلى إجراء محادثات عبر تقنية الفيديو، أكدا خلالها على تعزيز “الشراكة الاستراتيجية” بين روسيا والصين.

ومن المؤكد أن بوتين وشي جين بينغ وقادة آخرين في العالم، كانوا يتتبعون بدقة وبنوع من الذهول إعلان ترامب عن أن أميركا يجب أن تكون “أمة متنامية وأن تزداد ثروتها وأن تُوسّع أراضيها”، من خليج المكسيك إلى قناة بناما وجزيرة غرينلاند وكندا وصولاً إلى رفع العلم الأميركي على المريخ!

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  لا حكومة "بالطريقة الحريرية".. وعون يختار البديل وهذه تفاصيل المشاورات