من خلال ذلك الإكتشاف – أو الإختراع – استطاعت الحضارة الغربيّة أن تُريح الأفراد ضمن دولها وبدرجة عالية جدّاً نسبيّاً، ممّا مكّن نُخبها وقادتها ودولها من الاعتماد على جماعات مستقرّة نسبيّاً أيضاً. والأهمّ أنّه مكّنها جميعاً من الاعتماد على مواطنين مقتنعين ومخلصين ومرتاحين إلى حدّ نسبيٍّ بعيد (من دون الحاجة إلى القمع و/أو الفساد و/أو البروباغندا الفارغة في أكثر الأحيان).
لا أدّعي أبداً أنّ وصفة “الشّعور الفردي” هذه هي الوصفة النّاجحة الوحيدة الممكنة، ولكنّني أدّعي أنّها الوصفة الأنجح – نظريّاً وتجريبيّاً – إلى الآن، وهذا ما لم يفهمْه أغلب مناهضي هيمنة الغرب والولايات المتّحدة إلى يومنا هذا وللأسف. إنّنا، بلا شكّ عندي، أمام السّلاح الحقيقي الأساسي الذي تتحكّم من خلاله الدّول الغربيّة بالعالم الرّاهن: فهل من متفكّر ومتأمّل معنا؟
اكتشاف الاكتشافات وسلاح الأسلحة؟
يوماً بعدَ يوم، ومن خلال التّفكّر والتّأمّل في الأحداث من حولي: تزداد قناعتي بأنّ الغرب قد اكتشفَ – أو ربّما اخترعَ – في الواقع، وبالأخصّ منذ بدايات القرن السّادس عشر الميلادي، سلاح الدّمار الشّامل الحقيقي (لا التّقني كما يتوهّم البعض).
إنّه السّلاح الذي ما فتئَ الغربُ يتحكّم من خلاله بالعالم. إنّه السّلاح المفضّل لدى القائد السّياسي والمالي والعسكري للغرب حاليّاً: أقصد الولايات المتّحدة الأميركيّة.
إنّه سلاحٌ تفوقُ قُدرتهُ الأمنيّة والعسكريّة (والثّقافيّة كما سنرى) قدراتِ أيّ سلاح دمارٍ شاملٍ من النّوع “التّقني”. إنّه، برأيي: سلاحُ الأسلحة، وعامود السّيطرة الغربيّة على الحضارة والثّقافة والذّهن والمال والأرض والسّماء.. وإلى يومنا هذا.
أقصد، طبعاً، “سلاحاً” فلسفيّاً وثقافيّاً ونفسيّاً – لا تقنيّاً بحتاً. وأسمّيه سلاحَ: الفرديّة، أو “الشّعور الفردي”.
اكتسبتْ تلك الموجة “الفرديّة” قوّةً أكبر مع الانتصار المدوّي لثقافة الثّورة الفرنسيّة في النّصف الثّاني من القرن الثّامن عشر. ومن ثمّ اكتسبت قوّة أكبر مع انفجار الثّورة الصّناعيّة الرأسماليّة الكبرى، خصوصاً في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر
“الشّعور الفردي”: عامود سيطرة الغرب على العالم
مع ظهور وتصاعد الرّفض البروتستانتي لسيطرة كنيسة روما على العقل والواقع الدّينيَّين المسيحيَّين في أوروبا الغربيّة: تصاعد معهما الرّفض لمنطق إغراق الفرد في بحر الجماعة. طبعاً، لقد تمّ ذلك من خلال زوايا وقنوات مختلفة ومتعدّدة ومعقّدة. ولكنّ الأكيد برأيي هو أنّ الموجة البروتستانتيّة، في الأعمّ الأغلب، وبطرق مختلفة: ساهمتْ في إطلاق وتشييد موجة الشّعور الفردي المذكور أعلاه. فمع الاختصار والتّبسيط: أصبحت العلاقة الدّينيّة والرّوحيّة تتّجه – أكثر فأكثر – صوب علاقة بين “الفرد-المؤمن” من جهة، وبين “الفرد-الإله الواحد” من جهة أخرى. بدأ أهل الكهنوت الرّوماني، من ذوي النّظرة الجماعيّة الغالبة عموماً في حينها، بالخروج – أكثرَ فأكثرَ – من العلاقة بين الفرد وبين الإله. وأصبحت أمورٌ كالرّحمة الإلهيّة والغفران والخلاص.. تدريجيّاً، وفي أوساط واسعة، مسائلَ فرديّة.
ثمّ ازداد ضغط “الفرد” على “الجماعة” – إن جاز التّعبير – من خلال تصاعد تأثير الأفكار الجديدة والمجدّدة لعصر الأنوار الأوروبي (Les Lumières)، خصوصاً خلال القرنين السّابع عشر والثّامن عشر. شدّد كثيرٌ من مفكّري وفلاسفة عصر الأنوار على أنّ الإنسان “فردٌ” ذو وعيٍ وذو إدراكٍ وذو عقلٍ.. وحرّيّةٍ وكرامةٍ وحقوقٍ شخصيّة! ركّزت “الأنوار” أضواءَها عموماً على مفاهيم كفرديّة الخلاص، وكإمكانيّة معرفة الله من خلال عقل الفرد.. وكذلك:
١/ لعبة المرايا – إن شئت – بين الإنسان المتنوّر وبين “الإله”؛
٢/ شبه قدسيّة حرّيّة التّفكير والرّأي وإبداء الرّأي؛
٣/ المساواة في الحقوق والواجبات بين الأفراد؛
٤/ أنّ الدّولة تقوم على نوع من العلاقة العَقديّة بين كلّ من الأفراد وبين الدّولة.. وما إلى ذلك من أفكار ومفاهيم شكّلت ثورةً جبّارةً لا مثيلَ لها ربّما في تاريخ الفكر الإنساني – الغربي والعالمي.
اكتسبتْ تلك الموجة “الفرديّة” – أيضاً، إن جاز التّعبير – قوّةً أكبر مع الانتصار المدوّي لثقافة الثّورة الفرنسيّة في النّصف الثّاني من القرن الثّامن عشر. ومن ثمّ اكتسبت قوّة أكبر مع انفجار الثّورة الصّناعيّة الرأسماليّة الكبرى، خصوصاً في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر (الأوروبي والأميركي معاً).
وبعد انتصار الحلفاء، في الحرب العالميّة الثّانية، على النّازيّة (ذات الثّقافة الجماعيّة الغالبة عموماً وأيضاً)، ثمّ بعدَ الانتصار الاقتصادي والثّقافي المدوّي للمعسكر الفردي-اللّيبرالي-الرّأسمالي الغربي على المعسكر الاشتراكي-الشّيوعي (في أواخر القرن العشرين): بعدَ هذين الحدَثَين الخطيرَين جدّاً في تاريخنا المعاصر، يمكن الادّعاء أنّ هيمنة “الشّعور الفردي” ذاك قد تكرّست بعمق في المجتمعات الغربيّة – وبشكل واضح وإلى يومنا هذا.
مع التّبسيط الشّديد، لكن البَليغ إن شاء الله تعالى، فلنسألْ: ماذا تقول هذه الفلسفة (أو المفهوم أو الثّقافة) العامّة للإنسان (أو للفرد-الإنسان)؟ ولماذا يشكّل هذا الخطاب مسألة عظيمة الأهمّيّة حضاريّاً وسياسيّاً – بل وأمنيّاً واستراتيجيّاً وبرأينا؟
عن خطاب الفرديّة (أو خطاب “الشّعور الفردي”)
لكيْ نفهمَ السّرّ الكامن خلفَ سيطرة الثّقافة الغربيّة (والأميركيّة خصوصاً) على العالم الرّاهن، علينا أن نُدرك أهمّيّة الدّور الذي يلعبهُ هذا “الشّعور الفردي” كما سمّيناه. وهو، بالمناسبة، شديد القرابة والقرب من مفهوم الفرديّة Individualisme الشّهير لدى ماكس فيبر (ت. ١٩٢٠ م)، ومستوحىً منه بالتّأكيد[1]. ولكنّه يحاول أن يضيف إليه – بشكل أوضح – جانب “الشّعور”، والذي يتضمّن أيضاً زاويةً سلبيّة. لماذا؟ لأنّ المقصود ليسَ فقط تجلّي الفرديّة في الواقعَين النّفسي-الدّاخلي والاجتماعي-الخارجي كحقيقة: بل يتخطّاه أيضاً إلى تجلّيه كوهم أو كخِداع. فمن الواقعيّ أيضاً، برأينا، اعتبار أنّ الإنسان الغَربي: يعيشُ الفرديّة من جهة، ولكنّه أيضاً يتوهّم بأنّه يعيشها – من جهة أخرى وإلى حدّ بعيد[2].
لقد جمعَ هذا الاكتشاف الفلسفي-المفاهيمي-الثّقافي العظيم للغرب: ما بين اللّاهوت والنّاسوت عند الفرد. جمع ما بين الجانب الإلهي وما بين الجانب الحيواني والأناني. بل وَيوحي وكأنّه يوفّق بينها جميعاً: لا يقمع الرّوحيُّ المادّيَّ، ولا العكس.. ولا يقمعُ اللّامتناهي المحدودَ، ولا العكس. ولا يقمعُ المُطلقُ النّسبيَّ، ولا يقمعُ المقدّسُ غيرَ المقدّسِ ولا العكس
المسألة إذن شديدة الخطورة، ونحن كما رأينا: أمام سلاح الأسلحة وعامود السّيطرة المعاصرة. لا يُمكنك أن تدّعي دراسة الهيمنة الغربيّة على أغلب الصّعد، دون أن تفهم هذه الفلسفة-الظّاهرة وبتعمّق. كما أنّه لا يُمكنك أن تدّعيَ مواجهة هذه الهَيمنة، ومقاومة تأثيراتها السّلبيّة، دون أن تفهَم الشّعور الفردي بتعمّق شديد. لقد استطاعت النّخبة الحاكمة في أغلب الدّول الغربيّة – أقلّه: أن “تُشعر” الإنسان الغربيّ بأنّه “فردٌ”، وأنّها تَراهُ وأنّه يُرى – عموماً – كفرد. إنّه فردٌ ذو وعيٍ وكرامةٍ وحرّيّة، وذو حقوق وواجبات متساوية مع الأفراد الآخرين.
أراحت النّخبة تلك: الفرد. أشعرتْه بأنّه موجود حقيقةً، أو أوهمته بأنّها تصدّق ذلك على الأقل. خلّصت الفرد من شبح سيطرة الجماعة، وقالت له (أو أشعَرَتهُ بذلك على الأقلّ): إنّك أنتَ، وأنتَ مهمّ بالنّسبة إليَّ وإلى الوجود.
قالت له: هل تعتقد أنّك صورةٌ عن الله أو تجلٍّ له؟ إذن عِشْ ذلك بحرّيّة: أنتَ يا أنتَ، فردٌ “إلهيّ”! هل تعتقد أنّه “لا تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى” أمام العدل الإلهي؟ إذن، عشْها، فأنتَ متساوٍ في الحقوق والواجبات مع غيركَ من.. الأنتَ!
قالت له، أيضاً: هل تعتقدُ، عكسَ ذلك، أنّكَ لا زلتَ حيواناً؟ إذن، فلْيَكن: عشْ حيوانيّتك بلا حدودٍ أيضاً! أطلقْ سراحَ جسدِك، غصْ في استكشاف غرائزه وشهواته (لكن لا تؤذي “غيرَك” مع ذلك، وقدر الإمكان).
هل ما زلتَ تريدُ أن تعيشَ أنانيّتك؟ لا مشكلة في ذلك أيضاً: عشْ مع إنّيّتِك وأنانيّتك إلى حدّ الجنون (لكن، حاول ألّا تؤذي “أناكَ” هذه: “أنا” الآخر). عشْ أنانيّاً وغذّي أناكَ ولا تتردّد في ذلك، طالما أنّك تلتزم بما نسمّيه لكَ بالأخلاقيّات (Ethics) الغائيّة و/أو البراغماتيّة. المهم في الأخلاق ألّا نؤذيَ “أنا” الآخر. لتَعِشْ كلّ “أنا” كما يحلو لها، لكن عليها أن تثبت – باستمرار – أنّ تصرّفاتها لا تؤذي الآخرين في الغاية (و/أو النّتيجة) العامّة الأخيرة.
لقد جمعَ هذا الاكتشاف الفلسفي-المفاهيمي-الثّقافي العظيم للغرب: ما بين اللّاهوت والنّاسوت عند الفرد. جمع ما بين الجانب الإلهي وما بين الجانب الحيواني والأناني. بل وَيوحي وكأنّه يوفّق بينها جميعاً: لا يقمع الرّوحيُّ المادّيَّ، ولا العكس.. أقلّه في الظّاهر وفي “المشعور” به عموماً. ولا يقمعُ اللّامتناهي المحدودَ، ولا العكس. ولا يقمعُ المُطلقُ النّسبيَّ، ولا يقمعُ المقدّسُ غيرَ المقدّسِ ولا العكس.
أمّا في السّياسة وفي الاجتماع وفي الاقتصاد، وبشكل خاص: يشعرُ الفرد، بسهولة ووضوح كبيرَين نسبيّاً، أنّ مصلحةَ الجماعةِ لا تقومُ على حسابِ مصلحته على الدّوام، ولا تقمعها باستمرار. لا يظهر له من يقمع مصلحتهُ عند كلّ استحقاق، أو من يؤجّل تحقّق مصالحه الفرديّة على الدّوام لحجّة جماعيّة.
كيف تتخيّل سيكولوجيّةَ وتصرّفَ ووضعَ فردٍ يعيش تحتَ تأثيرِ شعورٍ كهذا الشّعور، ضمن دُولهِ وضمن مجتمعاتِه؟ إنّها مسألةٌ – لا ريب – أعمق بكثير ممّا يتخيّله البعض، وأخطر بكثير ممّا يتوهّمه أغلب المناهضين والمقاومين للهيمنة الغربيّة-الأميركيّة وللأسف.
لأنّ الفرد “المرتاح”، وباختصار شديد: “يُريحُ” جماعتَه وقادَتَه ودولتَه. ومن السّذاجة الاعتقاد بأنّ القضيّة قضيّة ماليّة ومعيشيّة فقط، كما تؤمن بعض الأنظمة والتّيّارات المتخلّفة إلى يومنا هذا. المسألة متعلّقة بجميع جوانب النّفس كما رأينا: منها الرّوحي، ومنها النّفساني، ومنها الثّقافي، ومنها الجسدي، ومنها الاقتصادي (إلخ.).
إنّ فهمَ القضيّة هذه يرقى إلى مستوى التّحدّي الاستراتيجي والوقائي معاً، وبلا مبالغة. ولسنا أبداً في إطار التّرَف النّظري، وإنّما في إطار التّذكير والتّنبيه الفكري والعملي معاً. وما دعاني إلى كتابة هذه السّطور هو إدراكي المتنامي: لغفلة كثيرٍ من الجهات الدّوليّة والإسلاميّة والعربيّة عن أهميّة وخطورة هذا السّلاح: سلاح الفرديّة.. أو قنبلة “الشّعور الفردي” العظمى!
(وللحديث تتمّة إن شاء الله تعالى).
[1] أقصد مفهوم الفرديّة الذي استخدمه فيبر في كتاب الأخلاق البروتستانتيّة والعقليّة الرّأسماليّة: ليُكمل توصيفه لبعض التّأويلات البروتستانتيّة السّائدة للعلاقة مع الله من جهة، ومع الحياة المادّيّة من جهة أخرى. يُمكن تعريف الفرديّة في هذا الإطار على أنّها فلسفة أو عقيدة أو نظريّة عامّة – تغطّي مجالاتٍ علميّة واسعة – تقوم على اعتبار أسبقيّة حقوق ومصلحة وسعادة الفرد، على حقوق ومصلحة وسعادة ما يمكن تسميته بالجماعة. عند فيبر، نتحدّث طبعاً عن: بُعد نظري (Dimension Théorique) ومفاهيمي بحت من جهة، وعن بُعدٍ يتعلّق بظاهرة تاريخيّة واجتماعيّة (Phénomène) فريدة ظهرت في الغرب خلال المراحل المذكورة أعلاه.
بهدف التّشديد على جانب (١) وعي الفرد الذّاتي “بفرديّته”، وجانب (٢) شعوره الواقعي والملموس بأنّ الجماعة تتقبّلها بل وتشجّعها في جميع جوانب الحياة اليوميّة: فضّلنا اقتراح عبارة “الشّعور الفردي”. ولكنّنا نشدّد على بقائنا ضمن السّياق الفيبيري المذكور، لأهمّيّته في تاريخ العلوم الاجتماعيّة وفي علم التّاريخ نفسه إلى حدّ بعيد.
[2] وهذا عينه ما يجعلنا نعتبر أنّنا أمام “سلاح”، وإلى حدّ بعيد. علينا أن نتيقّظ إلى هذه النّقطة – الاستراتيجيّة – وبجدّيّة وتعمّق.