حضارة الطعام.. أكثر من وجبة

حضارة الطعام تُميّزنا كبشر عن باقي المخلوقات. ثمة مخلوقات أخرى تتفاعل وتتواصل وتستخدم الأدوات ولكن لا نعرف أي مخلوق غير البشر يتقن الطبخ.. وصناعة الأكل هي أيضاً من الأمور القليلة التي نستخدم فيها كامل حواسنا: اللمس، التذوّق، النظر، الشم، السمع، والحدس (وهي الحاسّة السادسة).

حضارة الطعام هي من الأمور التي يتساوي فيها وأمامها الناس، بغضّ النظر عن واقعهم الإقتصادي أو الإجتماعي. صاحب الوفرة الماليّة يمكنه أن يأكل ما يريد.. وبكثرة. لكن الوفرة لا تجعل الطعام أطيب، وتعدّد الأطباق في الوجبة الواحدة ليس دائماً بالأمر الجيّد.في المقابل، غير الميسور ماديّاً يمكنه أن يصنع من القليل الذي لديه مأدبة يسيل لها اللعاب، ويتسابق في وصفها الشعراء والأدباء، ويبقى طعمها في الفم إلى يوم الحساب!

وصناعة الأكل هي فنٌّ نُسمّيه في لبنان: نَفَس. إذا إمتلكه الإنسان، يصبح قادراً على صنع عجائب الأطباق ولو من مكوّن أساسي واحد.. ومتواضع. لنأخذ مثلاً طبق الكوسا المحشي بالأرزّ واللحمة المفرومة (ولا يدخَل عليها من التوابل إلاّ القليل من البهار الحلو الذي يُمزج مع الأرزّ واللحمة). الكوسا طعمه مقيت إذا أكلناه نياً كما هو. لكن الكوسا المحشيّ مع صلصة البندورة ينتشل هذا النوع من بؤسه ويرفعه إلى أعلى عليّين. وحتّى غياب اللحمة منها (إذا لم تتوفر القدرة على شرائها أو رغبة بتجنّبها) لا يحطّ من طيب الكوسا المحشي..

حضارة الطعام ليست فقط مجرد وجبات نلتهمها. فعل الأكل هو جانب واحد من حضارة الطعام. هناك الوقت الذي يتطلّبه تحضير معظم الأطباق لتكون جاهزة للأكل، ويتراوح عمليّاً بين بضعة أيّام إلى بضع ساعات، ويُمكن أن يمتد أكثر إذا أخذنا في الحسبان ما يتطلّبه تحضير المكوّنات الأساسيّة لكثير من الأطباق. وكلّ ذلك يعتمد على مساعدة الناس وينتج عنه الكثير من التواصل والوئام الإجتماعي. لنتصوّر مثلاً كيف كان الناس يُحضّرون “المونة” في فصل الصيف لإستهلاكها في الفصول الأخرى، خصوصاً في فصل الشتاء حين تأخذ الطبيعة إجازة للإستراحة من عناء مواسم المحاصيل.

قبل اختراع آلات التبريد واستحداث تقنيّات نقل البضائع بسرعة من مكان إلى آخر حول العالم، كان الناس يعتمدون في الكثير من وجباتهم طوال أيام السنة على ما يوفرون من “مونة” في فصل الصيف: تجفيف الحبوب (القمح والعدس)، البقوليات (الفاصوليا)، المكسّرات (الجوز واللوز)، الفاكهة (مثل التين والعنب)، تخليل أنواع الكبيس (الخيار والباذنجان إلخ)؛ صنع المربّيات (المشمش والسفرجل والتين وفواكه أخرى)، صنع الدبس والخل إلخ. كان تحضير ذلك يتطلّب عملاً دؤوباً يجتمع لأجله أفراد العائلة، لا بل أهل القرية في أحيان معينة، وبالتالي ينتج عنه تآلف ولحمة بين الناس قلّ نظيرها في وقتنا الحالي.

وتدلُ حضارة الطعام على مدى إعتماد البشر على بعضهم البعض، وهذا الأمر له بعدان: الداخلي، أي إعتماد من يطبخ على من يزرع ويحصد وينقل و..، فمن دون ذلك، يظلّ الطعام بدائيّاً. والبعد الخارجي يتمثل في إدخال وصفات ومكوّنات جديدة من أماكن بعيدة، الأمر الذي يساعد في تطوير الطعام وجعله أطيب مذاقاً ويتطلب توافر مهارة يجب تعلّمها وصقلها في المطبخ. فكثير من التوابل والفاكهة والخضار والبقوليات والمكسّرات كانت معروفة فقط في أماكن محدّدة، لكن إنتشارها خلق ثورات في عالم الطعام وساعد في تغيير عادات الأكل وطعمه وصار استخدامها له “أصوله”، بمعنى أنّه علينا معرفة القدر الذي يُمكن أن نستخدمه من التوابل في طبق معيّن وموازنة المكوّنات بشكل يجعل مذاقها يتفاعل مع بعضه البعض. الطعام هو فنّ له ديناميّة رائعة.

دخل الطعام أيضاً في هويّاتنا الوطنيّة السياسيّة ونستخدمه في المفاضلة بين الدول في بلادنا العربيّة وفي كثير من دول العالم أيضاً، كما هو الحال مع الفول المدمّس والفلافل والكنافة وأطباق كثيرة

والأكل هو أيضاً من الأمور القليلة التي يجتمع حولها الأعداء، سواء لأجل إستراحة بين المتحاربين أو مدخلاً للصلح والسلام بينهم. طبق الكبّة النية، مثلاً، كما كان يروي لنا أستاذنا الكبير كمال الصليبي، هو نتاج التلاقي بين حضارتين كانتا (وما زالتا) في تصادم مباشر في الكثير من المناسبات: حضارة أهل الرعي والترحال (والتي سُمّي أهلها قديماً بـ”الأعراب”)، وحضارة القرار والإستيطان في الأمصار (والتي سُمّي أهلها قديماً بـ”الأنباط”). تنقّل أهل الرعي الدائم بحثاً عن المرعى والماء جعلهم يصطدمون بالمزارعين المستقرّين في حقولهم، وكانت النتيجة حروب حول الماء والأرض أو خوفاً من أن تقوم الماشية بأكل المحاصيل. لكن في موضوع الطعام، كان لتلاقي هاتين الحضارتين أثر كبير في تطوّر طبق الكبّة، فالرعاة قدّموا اللحمة وقدّم المزارعون القمح، ونتج عن هذا التلاقي بين حضارتين متصارعتين ولادة طبق من أجمل الأطباق في التاريخ البشري (وسأعالج طبق الكبّة في مقال آخر لاحقاً).

ويحكي لنا سفر التكوين في التوراة قصصاً كثيرة عن هذا الصراع وبينها أوّل جريمة في التاريخ (حسب زعم الأديان الإبراهيميّة طبعاً). أعني هنا قَتْل قابيل (المزارع) لأخيه هابيل (راعي الغنم)، لأنّ الإله يهوه لم ترق له الخضار والفاكهة وكان يفضّل أكل اللحمة (عذراً من النباتيّين). ونستشعر هنا أنه من الممكن أن “تفضيل” الله للحمّة هو نتيجة لحقيقة أنّ أنبياء بني إسرائيل القدماء (مثل إبراهيم، إسحاق، إسماعيل، يعقوب وأبنائه) كانوا رعاة غنم وماعز، فصنعوا الله على صورتهم، يحبّ ما يحبّون (وسيكون لعلاقة الطعام بالدين مقال خاصّ).

إقرأ على موقع 180  لا أحد يفاوض بإسم فلسطين إلا أبناء فلسطين

وحضارة الطعام تشمل أيضاً النقاشات وتبادل الأفكار والصداقات وأمور كثيرة أخرى تبدأ أو تنضج أو تتعمّق حول طاولة الأكل لأنّها تقرّب بين الناس وتزيل “الفروقات” و”الرسميّات”، كأنّ لها سطوتها على من يجلس حول المائدة.

ودخل الطعام أيضاً في قصص التراث وتعابير الكلام وقواميس اللغة. مثلاً، عبارة “بِالمِشْمِشْ” التي تقال في مصر منذ زمن وتعني “لا”، بمعنى أنّ الأمر سيحصل عندما يبدأ موسم المشمش، لكن كما هو معروف لم يكن هناك من شجر مشمش في مصر؛ وعبارة “بالمشمش” شبيهة بعبارة “إن شاء الله” في كثير من الاستخدامات الشعبيّة. ومن عجائب أمور المشمش أنّه أنقذ مدينة دمشق وسكّانها في سنة 1148، عندما هاجمها الصليبيّون. فلجهل الفرنجة بمضار المشمش (والذي أصله من الصين، ولكن إسمه العلمي هو “برونوس أرمينياكا” – prunus armeniaca – أي الخوخ الأرمني)، وبعد أن تمدّدوا في غوطة دمشق، وجدوا شجر المشمش في أحلى مناظره، فأكلوا منه بكثرة فتسبب لهم بإسهال أجبرهم على فك حصارهم عن دمشق، فتركوا متاعهم والكثير من سلاحهم وتقهقروا.. بالروح بالدم نفديك يا مشمش (وسيكون لعلاقة الطعام بالتراث مقال خاصّ أيضاً).

ودخل الطعام أيضاً في هويّاتنا الوطنيّة السياسيّة ونستخدمه في المفاضلة بين الدول في بلادنا العربيّة وفي كثير من دول العالم أيضاً، كما هو الحال مع الفول المدمّس والفلافل والكنافة وأطباق كثيرة. وهناك عادة تعريف بعض الأطباق بالبلد التي كان أصلها منه (حسب ما يزعم الناس طبعاً)، مع العلم أنّها أصبحت في يومنا هذا عابرة للمدن والبلدان والقارّات. مثلاً، طبق المقلوبة بالباذنجان أو القرنبيط، نقول أنّه “طبق فلسطينيّ” (كما يشاع)، والكشري نربطه بمصر (مع العلم أنّ هناك خلافاً عن أصله وهل هو مصري أم هندي). وهناك طبق كباب الخشخاش الحلبي (لحمة مفرومة ممزوجة بالبصل والبقدونس وبعض التوابل) والذي كان معروفاً أيضاً في أماكن أخرى غير حلب.

وهناك الإعتقاد الشائع أنّ “البيتزا” جاءت من إيطاليا (مدينة نابولي تحديداً)، مع العلم أنّ البيتزا هي نوع من المناقيش (معجّنات مرقوقة يوضع عليها زعتر أو جبنة أو لحمة أو..) وهي منتشرة منذ زمن قديم في معظم دول حوض البحر المتوسّط.

لكن أهمّ ما في حضارة الطعام هو تعلّقنا بها، فأكثر ما نفتقده عندما نهاجر هو أكل بلدنا وطعمه. يمكننا الآن أن نشتري الكثير من أطباق بلدنا في أماكن كثيرة حول العالم (باريس، لندن، نيويورك، إلخ.)، لكنّنا نجد طعمها مختلفاً عن الذي اعتدنا عليه (بغضّ النظر عمّا إذا كان ذلك صحيحاً أم لا، وإذا كان الجديد أفضل أم أسوأ ممّا اعتدنا عليه). لذلك، الطعام هو أكثر من وجبة. هو سيكولوجيا وأحاسيس، هو ذكريات وحنين، هو صداقات وعادات، وأشياء أخرى كثيرة.

في المقالات المقبلة، سيكون التركيز على جوانب مختلفة من حضارة الطعام وعلى بعض الوصفات.. وصحتين سلفاً.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  واشنطن وبكين: "حرب كلامية" أم طلاق نهائي؟