حضارة الطعام.. التطوّر إلى الوراء!

ثمة قناعة أنّ الترقّي هو دائماً إلى الأحسن. هذا صحيح في الكثير من الأمور. الترقّي حسَّن أشياء كثيرة في حياة الشعوب، لكنّه أفسد أيضاً أشياء كثيرة، ولعل حضارة الطعام كان لها نصيب مشترك من التحسّن والإفساد!

لنبدأ من عند التكنولوجيا المتطورة. التبريد والمواصلات وتقنيّات أخرى ساعدت في حفظ المحاصيل لمدّة أطول وأن يتم نقلها بسرعة حول العالم. وكان للإعلام والإعلان دورهما أيضاً في إغراء الناس وحثّهم على ارتياد المطاعم والسوبرماركات وتجربة مأكولات لم تكن معروفة في قاموسهم. ففي أي مدينة كبيرة وأي بلد وأي قارة، في يومنا هذا، نجد مطاعم تُقدّم الأكل الصيني والياباني والهندي والتايلندي والفيتنامي والإيطالي والفرنسي والمكسيكي والإيراني والتركي واللبناني و..، ويُمكن أن نجد الكثير من عناصر هذه المطابخ في السوبرماركات أو يُحضرّها الناس بأنفسهم في مطابخ بيوتهم كون مستلزماتها (من خضار وفواكه وبهارات و..) باتت متوفرة في الأسواق. هذا ما يندرج في خانة النتائج الجميلة للحضارة الحديثة، ولكن؛

يقابل ذلك تقهقر ورداءة في حضارة الطعام، لا سيما الجودة مقارنةً بما كانت عليه في الماضي. مثلاً، الاستخدام الشائع للمبيدات والأسمدة وعادة إدخال كمّيّات كبيرة من أنواع السكّر والأملاح والمواد الكيميائيّة في جميع المأكولات يجعلها أكثر خطراً على صحّة الناس (وعلى البيئة). أضف إلى ذلك الإنتشار الكثيف للمأكولات الجاهزة بحيث أصبح معظم الناس يشترون الطعام “الخالص” ولا يكون لهم أي دور في تحضيره، وهذا أيضاً له نتائج سلبيّة وكارثيّة تتعلّق بتغيير طعم المأكولات أو تلاشيه في كثير من الحالات واضمحلال حضارة الطبخ المنزلي ومعها التلاحم الاجتماعي الذي كان يحصل حول تحضير الأكل وهو الأمر الذي كان من أهم سمات الحضارة البشريّة عبر التاريخ.

أخطر ما يواجهنا في هذه الأيّام هو هندسة الذوق (Taste Engineering) والتي تستخدمها شركات الزراعة والطعام العالميّة من أجل تغيير حاسة الذوق والطعم عندنا لجعلنا أكثر تقبلاً لنوعيّة وطعم المنتجات والمأكولات التي يتنجونها وبالتالي استهلاكها بكمّيّات أكبر (وللإعلانات دور كبير لا يقلّ خطورةً عن شركات الزراعة والطعام). لذلك، نجد كيف أن مرض السمنة أصبح ظاهرة عالمية خطيرة، ناهيك بأمراض أخرى نفسيّة وبدنيّة لها علاقة مباشرة برداءة الأطعمة والمواد الكيماوية التي تتضمنها ولا سيما السكّر والملح والمواد الحافظة على سبيل المثال لا الحصر.

من أجل أن تكون الخضروات والفواكه والمأكولات الجاهزة “صالحة” للتخزين والنقل و..، تُقطف إجمالاً قبل نضوجها وتعالج لاحقاً بمواد كيميائيّة لضمان صلاحيّة أطول (shelf life)

وهناك عامل آخر يجتمع فيه الإيجابي والسلبي، وهو الإعتماد شبه الكامل على السوبرماركت لشراء حاجياتنا الغذائيّة. الإيجابيّات تتعلّق بحجم المعروض وتنوّعه وأيضاً بالاستنسابيّة (كون ما نجده في السوبرماركت يغنينا عن زيارة الفرن والملحمة والمسمكة ومحلّ الخضار والفاكهة والباتيسري ومحلات الأبان والأجبان ومتجر النبيذ، و..). لكن ذلك لا يساعد بتاتاً في الدفاع عن حضارة الطعام. على العكس، من أجل أن تكون الخضروات والفواكه والمأكولات الجاهزة “صالحة” للتخزين والنقل و..، تُقطف إجمالاً قبل نضوجها وتعالج لاحقاً بمواد كيميائيّة لضمان صلاحيّة أطول (shelf life). لذلك، من أجل توفير الوقت أو البحث عن الأهون والأريح، نُضحّي في الكثير من الحالات بالجودة والطعم وأيضاً بالتلاحم الإجتماعي الذي نحياه بزيارتنا إلى محال صغيرة متعددة الإختصاصات في الأكل والتفاعل مع أصحابها وأحياناً مع روادها. وتصبح المشكلة أكبر عندما تصبح زيارة السوبرماركت عادة يوميّة لنا، فنصبح عند ذلك شركاء في الإعتداء على حضارة الطعام وتقويضها، كما في القول الشهير: “التانغو بحاجة إلى راقِصَيْن” (it takes two to tango).

وجود السوبرماركت له مضار أخرى. فبدل أن تكون العلاقة إجمالاً بين مشترٍ وبائع (يتساوى فيها الطرفان)، أصبحت بين مشترٍ وعامل نأمره أن يعطينا ما نريده. يُكرّس ذلك منطق الإستعلاء ومعاملة عمّال السوبرماركات كخدم وأحياناً احتقارهم والتهكم عليهم (ينطبق ذلك أيضاً على معظم العمال في المطاعم). هذا بغض النظر عن حقيقة أنّ نموذج السوبرماركت بُنيَ على أساس مفهوم إقتصادي يتطلّب أسعار تنافسيّة لترغيب الزبائن في الشراء والإستهلاك، لكن نتيجته أنّ الرواتب التي تُدفع للعمّال تكون زهيدة مقابل أربح كبيرة للشركات التي تُدير هذه السوبرماركات.

وأسوأ ما في حضارة السوبرماركت أنّها تعتمد على منطق شراء كميّات كبيرة من المحاصيل الطازجة وتخزينها في أماكن التبريد لحفظها أطول مدّة ممكنة وعرضها تدريجيّاً بحيث تكون دائماً متوفّرة للزبائن. ولكي تكون صالحة للتخزين في البرّادات، تُقطف الكثير من الفواكه والخضار قبل نضوجها. ولذلك تأثير مباشر على نكهتها، فتصبح كالماء البارد، ليس فيها حلاوة أو نكهة أو رائحة.

البندورة مثلاً، وهي نبتة تندلع حولها خلافات إيديولوجيّة وقانونيّة بين من يُصنّفها فاكهة ومن يقول إنّها خضار. كنت قد تناولت في المقال السابق طبق الكوسا المحشي المطبوخ بعصير البندورة (الطماطم). في هذه الأيّام، من النادر أن نشتري من السوبرماركت بندورة لها نكهة كتلك التي كنا نعرفها صغاراً. وعصير البندورة الذي نجده في المعلّبات هو أيضاً رديء، إن لناحية طعمته أو المواد الكيماوية الموجودة فيه من ناحية أخرى. لذلك، عندما تحدّثتُ عن طبق الكوسا المحشي المطبوخ بعصير البندورة، كنت أقصد البندورة كما يتذكّرها الناس، عندما كانت متوفّرة فقط في موسم الصيف، وكان طعمها الطبيعي مزيج من الحموضة والحلاوة. لذلك سحرت البندورة قلوب أهل العالم القديم عندما أتت من العالم الجديد (وسيكون للبندورة وأهميّتها في التاريخ البشري مقال خاصّ لاحقاً). أما الآن، فينطبق على معظم البندورة المتوفّرة في السوبرماركات القول القديم: “شو بدها تعمل الماشطة بالوجه العكر”.

إقرأ على موقع 180  جائزة اللوتو الكبرى.. مدفونة في قلب أفغانستان

ومن يزرع في أيامنا هذه بعض الفاكهة والخضار في حديقة منزله أو يتسنى له الوصول إلى دكاكين صغيرة تقليديّة تبيع المحاصيل الزراعية في مواسمها، يدرك معنى هذه الكلمات وبالتالي هو حتماً من المحظوظين.

زدْ على ذلك أنه عندما قرّرنا كمجتمعات أنّ الزراعة مهنة وضيعة وأنّه علينا ترك الأرض والقرى والإنتقال إلى المدن لكي نلحق بركاب التطور والحضارة، أصبحت الزراعة مهنة من الصعب أن “يسترزق” منها الناس. ومع الوقت راحت الشركات الضخمة تستثمر الأراضي وتُحَصّل أرباحاً كبيرة. حتى أن ذلك تطلّب استخدام عمالة رخيصة (أشبه بزمن العبوديّة)، معظمها من المهاجرين “غير الشرعيّين”، لكن ينسى معظم الناس أنّ طعامهم وشرابهم اليومي هو نتاج عرق وكدح الكثير من المستضعفين والمهاجرين.

يمكنني أن أضيف حقيقة أخرى تتنامى وتنتشر حولنا وهي أنّ المحلاّت الصغيرة التي “تتخصّص” ببيع الفاكهة والخضار الطازجة أو المأكولات ذات الجودة العالية أصبحت أسعارها غالية جداً ولا تصل إليها إلا فئة الميسورين. وهذا أيضاً من سلبيّات حضارة السوبرماركت والحداثة.

ومع تنامي إستخدام الذكاء الإصطناعي (Artificial Intelligence)، يمكن أن نقول إنّ الأسوأ لم يأتِ بعد، وأنّ هناك الكثير من الفظائع تنتظرنا في ما يخصّ تقهقر حضارة الطعام في الآتي من أيام وسنوات. قلّ: اللهمّ إنّي قد بلّغت.

يتبع لكن في المرة المقبلة عن الإيجابيات.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الرأسمالية تُغيّر أشكالها.. والثورة لا تكون إفتراضية