صحافي يعزف موسيقى موته.. بالكتابة

"الكتابة قد تجعل ذرّتي ألمع بين باقي الذّرات على الأقلّ.. أكتب دفاعًا عن شرفي". يصحبنا محمد أبو الغيط في كتابه "أنا قادمٌ أيّها الضّوء" الصّادر عن "دار الشّروق" في جولة إلى إحدى أكثر أروقة البشريّة عتمةً ورعبًا، رواق الألم!

نجول معه حيث لا يودّ أحد أن يجول. نمشي في حقول وجعه. يُعرّج بنا على قضايا السّياسة والفلسفة والعلم والإيمان الدّيني وقوّة اليقين والمصطحات الطّبية بينما يسير على درب الجلجلة. يُسطّر ملحمة آلامه بالتّزامن مع معايشتها، في سيرته الذّاتيّة المدوّنة ضمن مقالات تجمع بين المذكّرات واليوميّات والاعترافات، لتشكّل ما يشبه السّجلّ التّوثيقي لرحلته مع سرطان المعدة الذّي باغته بضراوة برغم ريعان شبابه.

يتحدّث الكاتب محمد أبو الغيط عن مشقّة تدوين آلامه في كثير من الأحيان، برغم ثبوت التّأثير الإيجابي للكتابة على نوعيّة حياة المصابين بمرض السّرطان.

يبدأ الكاتب بتدوين الأيّام الأوائل لاكتشاف إصابته بالمرض، وتحديداً من محاولته في البداية الإنكار عبر استخدام الحيل الذّهنيّة، ومن ثم تقبّله بصدمة مهولة في نهاية المطاف خبر إصابته بأحد أكثر أنواع سرطانات المعدة شراسة (أدينوكارسينوما)، وصعوبة نقله الخبر لرفاقه وعائلته.

يطرح محمد أبو الغيط في فصول لاحقة من الكتاب إشكاليّة تسمية مرضى السّرطان بالمحاربين وتفاوت ذلك بين تشجيع المرضى وزيادة عزيمتهم من جهة، وتحميلهم أعباء إضافيّة وحروباً قد لا يكونون على استعداد لخوضها من جهة أخرى.

حياة محاصرة بالوجع

في رحلة آلامه، يسجّل عمليّة استئصال المعدة بكلّ ما يصاحبها من ألم مميت صار معه شرب الماء فعلًا مليئًا بالمعاناة، ورفضه تركيب أنبوب تغذية عبر الأنف بعد خسارته ربع وزنه، في إطار سعيه للاحتفاظ بشيء من حياته الطّبيعيّة، ومحاولة التّفتيش عن الجمال الجانبي للأشياء كزوال عبء إزالة ذقنه بعد تعرّضه لهرّ الشّعر النّاتج عن العلاج الكيميائي.

يُخبرنا عن حساسيّة الضّوء والتًغبيش، ومشاكل الأذن، وفرط الحساسيّة للبرودة، والعطش المزمن وجفاف الحلق والمرورة الدّائمة التّي تجعل الطّعام علقمًا، ودوار البرد والحازوقة التّي تستمرّ لساعات طوال. وعن لجوئه لصلاة الإستخارة للثّبات على نوع العلاج الذّي سيستخدمه بعد إخبار الطّبيب له أنّ حالته تكاد تكون من النوع الميؤوس منه برغم استخدام شتى العلاجات.

يُشبّه الكاتب السّرطان بالسّجن، وفي محاولته لتخطّي هول المأساة، يروي كيف استخدم النّسيان العمدي لتخطّي إحباطه، وكيف شغل نفسه بالقراءة والكتابة والتّفاهة للاستغراق في أفكار غير أفكاره الآنيّة المحيطة، وكيف لجأ للزّراعة في حديقة منزله الخلفيّة لإيجاد معنى لحياته وكيف حال دخوله الطّويل إلى المستشفى بينه وبين عنايته بها.

وبكثير من الألم نمشي معه في رحلته من حياة طبيعيّة إلى حياة محاصرة بالوجع، حيث كان يقيس مدى طبيعيّة حياته بقدرته على فرز نفايات منزله وإيصال ابنه للمدرسة يوميًّا، وتَحوُّل الوضع لاحقًا إلى قبوله باعتبار استعمال المرحاض من دون مساعدة مؤشّرًا على أدنى حدّ من الحياة الطّبيعيّة.

الصّحافي الاستقصائي المصري محمد أبو الغيط الذّي درس الطّبّ وعمل في وزارة الصّحّة المصريّة، وقرّر عن سابق عزم وتصميم الانتقال إلى الصّحافة كمهنة، المشارك في مظاهرات إسقاط نّظام حسني مبارك في مصر، والفائز بالعديد من الجوائز العربيّة والدّوليّة عن تحقيقاته الإستقصائية، تحدّث عن ضرورة التّوقف عن القتال والمقاومة وحمل العالم على الأكف في مرحلة من المراحل، وعن ضرورة النّظر إلى تفاصيل الحياة اليوميّة وعيشها وحبّها بطبيعيّتها، مشيرًا إلى أنّ بعض الدّراسات تحدّثت عن تأثير انخفاض هورمون السّعادة في المعدة على ظهور المرض، واحتمال كون الحياة الضّاغطة سببًا مساعدًا في تسريع التّمثيل الجيني للسّرطان وظهوره في سنّ مبكّرة.

أرشفة الألم

في حكايته عن الألم، يتساءل الكاتب عن الشّر الذّي فعله ليحظى بكلّ ذلك الألم، ويخبرنا عن خوفه الطّفولي من الوجع، وعن انزعاجه من تطبيع المصرييّن مع العنف، ولا سيما ضرب الأطفال كوسيلة تربويّة، أو تعذيب السّجناء، والقدرة على التّنكيل بالمجرمين أيضًا، يخبرنا عن بشاعة الألم وعبثيّته، وكيف غيّرت أوجاعه نظرته إلى الأمّهات اللّاتي يمررن بتجربة الولادة، وكيف عزّزت آلامه قدرته على التّعاطف مع آلام البشر كافّة على اختلاف مشاربهم.

يُسجّل الكاتب مسيرة آلامه الحادة في نهاية مراحل المرض، ويحكي عن حقنه نفسه بالأبر وعن الأشواك التي تخترق كرات عينه، وعدم قدرته على الجلوس أو النّوم بسبب آلام العصعص واحتكاك عظامه النّاتج عن خسارة الوزن، وتلمّسه للكتلات في رقبته بعد استفحال الورم، وعن آخر مراحل المرض حين بدء دور العناية التّلطيفيّة بعد استحالة الحلول.

يدمج الكاتب الوضع الصّحّي بالسّياسي والشخّصي بالعام عندما يستنتج أنّ لا سبيل لإيقاف الألم، لكنّ الحبّ هو سلاح البشريّة الأوحد لتخفيف وطأته، ويؤكّد أنّه لا يريد أوطانًا أكثر قوّة، بل يحلم بأوطان أكثر رقّةً وحبًّا وعطفًا.

ومع اشتداد مراحل المرض، ودخول شلل الأمعاء إلى قائمة الأعراض التّي يُسبّبها السّرطان، ووصول أهله إليه ورؤيتهم له في أسوأ حالاته، يتحسّر محمد بالكثير من النّدم على ابتعاده عن أهله في آخر فترات حياته، ويرى أن ملازمته المستشفى عرّفته على إخوته من جديد. يقول إنّ أكثر ما آلمه وقتها هو عدم قدرته على التّرحيب بهم كما يجب، ويحكي عن دعاء أمّه ويقينها واقترابه من قوانين الجذب الرّائجة اليوم، وتمنّيه لو تنجح دعوات أمّه هذه المّرة فتهبه حياة جديدة.

إقرأ على موقع 180  وديعة هيكل

ينهي محمد أبو الغيط رحلته بشكر زوجته ورفيقة دربه “إسراء”، التّي حوّل مرضه رقّتها إلى شراسة وقوّة. يروي بكثير من الشّاعريّة قصّة التّعارف والحبّ، ويودّع ابنه بأكثر الكلمات استدعاءً للبكاء، ويبرّر عدم وضع اسمه في الإهداء كي لا يُشكّل الكتاب حِملًا ثقيلًا عليه، ويؤكّد إيمانه أنّه في أي وقتٍ رحل سيبقى روحًا تطوف قربه لتطمئن عليه.

الكتابة كمحاولة لمغالبة الموت

لم يستطع الكاتب محمد أبو الغيط العودة إلى مصر، ونشر كتابه بين أحبابه وعائلته كما كان مقرّرًا. فقد داهمه الموت في الخامس من كانون الأوّل/ديسمبر، في حين تعود آخر كتاباته لما قبل ذلك بأقلّ من عشرين يومًا، ولم يدفن في بلاده بل بجوار من ينطقون بلسان غريب عنه في بريطانيا. لم أزل أستغرب قدرته على تجسيد لحظات دنوّه من الموت حين كان يحتضر، وهو الذّي يقول إنّه في آخر أيّامه كان يُملي على زوجته وهي التّي تكتب له.

أظنّ أنّ قدرة الكاتب على الكتابة حتى اللحظات الأخيرة ولّدتها رغبته في مغالبة الزّمن الذّي لم يسمح له بالعيش لينجز مشاريع الرّوايات التّي أراد كتابتها. شبّه محمّد نفسه بالفرقة التّي استمرّت بعزف موسيقى الموت في سفينة “التّايتانيك” بعد استحالة النّجاة أحيانًا، وبمحارب قرّر أن يهزم المرض في الكثير من الجولات أحيانًا أخرى. تُحيلنا رحلة مرضه إلى تداخل المتضادات في النّفس البشريّة، فالحزن قد يكون قرين السّعادة، والأمل سيُصَاحَب في الكثير من الأحيان باليأس.

“أنا قادم أيّها الضّوء” ملحمة شاعريّة حزينة، لن تستطيع تركها إلّا بعد الفراغ منها، ولن تكون نفس الشّخص بعد الانتهاء من قراءتها، وحتماً ستُفكّر بغياب العدالة التّي تجعل من تجربة الكاتب البالغة الأسى رفاهيّة لا يحلم بها مرضى الأمراض المستعصية في الدّول ذات الأنظمة الصّحيّة البائدة أو الفاسدة ولبنان صار واحداً منها، بدليل معاناة مرضى السرطان والأمراض المستعصية ووفاة الكثيرين منهم في السنوات الأخيرة لعجزهم عن الطبابة أو الحصول على دواء.

تستغرق في محاولتك لفهم وجع محمد؛ فهل نستطيع فعلًا تحسّس آلام الآخرين؟ من يُحدّد اللّحظة التّي تنخفض فيها جودة الحياة إلى درجة يصبح معها الموت أفضل؟ هل العلاج الكيميائي الذّي يتعرّض له مرضى السّرطان يُحقّق الجدوى منه؟ وهل المقاومة هي الخيار الأصحّ دائمًا؟ متى تفقد مقارعة الحياة مغزاها؟ وهل يكمن المعنى في السّلام وعيش التّفاصيل أم في بذل الجهود المضنية وقدرتنا على المقاومة؟

كتاب “أنا قادم أيها الضوء” يستحق أكثر من القراءة. يستحق أن نشارك محمد أبو الغيط وجعه وأوجاع الكثير من المُعذبين في هذه الأرض.

Print Friendly, PDF & Email
حوراء دهيني

كاتبة لبنانية

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  "أحرار الشرقية" من رأس العين إلى الباب .. فوضى برعاية تركية