سميح صعب19/12/2022
في عالم يعج بالتحولات الإستراتيجية، لم تبقَ اليابان بعيدة عن مواكبتها بتغيير في عقيدتها الدفاعية والتحلل من قيود الحرب العالمية الثانية شأنها شأن ألمانيا. والمفارقة أن هذا التطور تدفع إليه الولايات المتحدة التي تحتاج إلى طوكيو وبرلين، كحليفين أساسيين لإحتواء الصعود الصيني ومنع روسيا من إستعادة نفوذها.
إن عسكرة اليابان العضو في حلف “كواد”، الذي يضم الهند وأوستراليا والولايات المتحدة، من شأنه خلق توازن جيوسياسي في مقابل الصين، ويرسي أولى اللبنات نحو بروز هيكل أمني جديد في آسيا مماثل لحلف شمال الأطلسي في أوروبا.
أوردت اليابان في الأسباب الموجبة للتغييرات الجذرية في عقيدتها الدفاعية ما سمّته “التحدي الإستراتيجي غير المسبوق” الذي باتت تشكله الصين لأمن الأرخبيل الياباني. ولم تنسَ الإشارة ـ ولو من باب ثانوي ـ إلى التهديدات التي تمثلها كوريا الشمالية وروسيا، وإن عدّتها في مرتبة ثانية.
اليابان، وبتشجيع من الولايات المتحدة، قررت رفع الإنفاق الدفاعي للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية إلى 2 في المئة من إجمالي دخلها القومي. وبذلك، تتساوى مع موازنات دول حلف شمال الأطلسي. وفي مرحلة مبكرة من الحرب الروسية-الأوكرانية، قرّرت ألمانيا أيضاً رفع موازنتها الدفاعية إلى 2 في المئة من إجمالي دخلها القومي، وتخصيص مئة مليار يورو لتحديث جيشها، وشراء مقاتلات أميركية من طراز الجيل الخامس “إف-35” فضلاً عن صواريخ “باتريوت” وغيرها من الأسلحة.
واليابان، التي ستكون موازنتها الدفاعية هي الثالثة في العالم بعد الولايات المتحدة والصين (320 مليار دولار بحلول العام 2027)، قررت أيضاً التوجه نحو الولايات المتحدة لشراء عدد قد يصل إلى 500 من صواريخ “توماهوك” الأميركية العابرة للقارات، إلى جانب صواريخ “اس ام-6” بعيدة المدى، حسب وسائل الإعلام اليابانية. كما أن شركة “ميتسوبيشي” اليابانية للصناعات الثقيلة تعمل على تطوير صواريخ أرض-بحر. ومن باب التذكير فقط، فإن المقاتلات اليابانية التي أغارت على ميناء بيرل هاربور الأميركي في كانون الأول/ديسمبر 1941، كانت من تصنيع شركة “ميتسوبيشي”. هذه الشركة ما كانت لتولد لو لم ينهِ الجنرال الأميركي ماثيو كاليبرايث بيري عام 1854، تحت تهديد فوهات مدافع الأسطول الأميركي، العزلة التي فرضتها أسرة توكوغاوا على اليابان لمدة 220 سنة.
كما أن اليابان بموجب العقيدة الدفاعية الجديدة ستنشر وحدات صاروخية في مناطق لم تكشف عنها تكون جاهزة لرد سريع على أي هجمات.
وبعد رفع مستوى التعاون مع أوستراليا إلى مستوى نصف-حليف في الأعوام الأخيرة، تأمل اليابان في التدرب على قدراتها الجديدة، في مناورات مشتركة تستضيفها أوستراليا وتشارك فيها الولايات المتحدة أيضاً.
وبات في صلب العقيدة الدفاعية اليابانية حيازة “القدرة على شن هجوم مضاد”، وأوضحت طوكيو أن النظام الدفاعي الحالي، الذي يهدف إلى إسقاط صواريخ محتملة قبل سقوطها على الأراضي اليابانية، “ليس فعالاً بدرجة كافية”، لكن أي ضربة استباقية “لا يمكن السماح بها” بموجب الدستور الحالي.
هذه العقيدة الدفاعية الجديدة لليابان، لا يمكن فصلها عن مجمل السياسة الأميركية القائمة على حشد الحلفاء في مواجهة تنامي النفوذ الصيني في منطقة المحيطين الهادىء والهندي. وبالمناسبة، كان رئيس الوزراء الياباني الراحل شينزو آبي، أول من إستخدم هذا التعبير الجيوسياسي، في معرض إشارته إلى التحديات التي تواجهها اليابان وأميركا وبقية الحلفاء، من جراء الصعود الصاروخي للعملاق الصيني. ومن بعده تبنى المسؤولون الأميركيون صيغة المحيطين الهادىء والهندي، عند تشديدهم على ضرورة حشد الإمكانات في مواجهة الصين.
إن ألمانيا واليابان، كانتا تعتمدان بشكل كلي تقريباً على أميركا للدفاع عنهما. لكن المفارقة الآن، أن أميركا نفسها في حاجة إلى قوتين مثل ألمانيا واليابان لتقفا إلى جانبها في معركة إستراتيجية كبرى عنوانها كسب معركة البقاء قوة مهيمنة على القرن الحادي والعشرين، وعدم الإضطرار إلى القبول بعالم متعدد القطب تسعى إليه روسيا والصين
بعد الحرب العالمية الثانية، صبّت اليابان وألمانيا جهودهما على الوضع الإقتصادي وإحتلتا المركزين الثاني والثالث بعد الولايات المتحدة إقتصادياً على المستوى العالمي قبل أن تنتزع الصين منهما هذه المكانة. وكان محظوراً على الدولتين بعد الهزيمة العسكرية أمام الحلفاء الذهاب بعيداً في العسكرة. اليابان ليس لديها جيش مثلاً، وإنما “قوات للدفاع الذاتي” بموجب الدستور الذي فرضه المحتل الأميركي. والولايات المتحدة تقيم فيها قواعد عسكرية واسعة حتى اليوم. وجزيرة أوكيناوا بقيت تابعة لفترة أطول للسيطرة الأميركية. وفي ألمانيا، تقيم أميركا فيها إلى اليوم، أكثر من 70 قاعدة عسكرية، وهي محتواة من قبل حلف شمال الأطلسي.
وعندما بدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا، ألحّ الحلفاء على ألمانيا لأرسال الأسلحة إلى كييف، لكن برلين وجدت أن ثمة القليل في ترسانتها لترسله، ولم يكن أمام المستشار أولاف شولتس سوى إتخاذ قرار بتحديث الجيش الألماني وتجهيزه بأحدث الأسلحة، كي يتمكن من مواجهة التحديات الجديدة التي فُرضت على القارة الأوروبية.
وطوكيو، هي الأخرى تعتبر نفسها معرضة للإستفزاز من قبل كوريا الشمالية التي أجرت منذ مطلع العام الحالي 30 تجربة صاروخية مرّ الكثير منها فوق اليابان. وعندما أجرت الصين مناورات عسكرية واسعة النطاق قرب تايوان في آب/أغسطس الماضي على أثر زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي، مرّت خمسة صواريخ باليستية صينية فوق اليابان. وتتنازع الصين واليابان ملكية جزر غير مأهولة في بحر الصين الشرقي وتعرف باسم “سينكاكو” في اليابان و”دياوبو” في الصين. وتدير اليابان هذه الجزر منذ عام 1972.
إن المشاعر القومية في آسيا وذكريات الحرب العالمية الثانية لا تزال طرية في الذاكرة، ليس ذاكرة الصينيين فحسب، بل خذ مثلاً تعليق وزارة الخارجية الكورية الجنوبية على قرار تعديل إستراتيجية الأمن القومي الياباني، الذي أكد على أن اليابان يجب أن تحصل على موافقة سيول قبل إتخاذ أي قرار يمكن أن تكون له آثار مدمرة على المصالح القومية لكوريا الجنوبية، مثل ممارسة حقها في توجيه ضربة مضادة تستهدف شبه الجزيرة الكورية. الكوريون جنوباً وشمالاً لم ينسوا بعد ما فعله الإحتلال الياباني ببلادهم.
ويقول خبراء إن تعاظم النفوذ الصيني والغزو الروسي لأوكرانيا والخوف من تعرض أمن تايوان للخطر، قد حفّز الكثير من اليابانيين على دعم إقتراح زيادة الإنفاق العسكري وتعزيز القدرات الدفاعية. وبحسب الخبير الدفاعي في جامعة كيو اليابانية كين جيمبو “فإن أمن تايوان وأمن اليابان لا ينفصلان”، مشيراً إلى أن أقصى جزيرة يوناغوني في أقصى الأرخبيل الياباني هي على مسافة 110 كيلومترات فقط من تايوان.
ومن يقرأ تفاصيل العقيدة الدفاعية الجديدة لليابان يحسب أن اليابان توشك على إيقاظ رئيس وزراء الحرب هيديكي توجو.
كل الحيثيات التي تحدثت عنها ديباجة العقيدة الدفاعية الجديدة لليابان، لا تنفي السؤال هل الباعث إلى تعديلات بهذا الحجم تمليه الحاجة الدفاعية، أم الميل إلى نزعة عسكرية عُرفت بها كلٌ من برلين وطوكيو تاريخياً؟
إن ألمانيا واليابان، كانتا تعتمدان بشكل كلي تقريباً على أميركا للدفاع عنهما. لكن المفارقة الآن، أن أميركا نفسها في حاجة إلى قوتين مثل ألمانيا واليابان لتقفا إلى جانبها في معركة إستراتيجية كبرى عنوانها كسب معركة البقاء قوة مهيمنة على القرن الحادي والعشرين، وعدم الإضطرار إلى القبول بعالم متعدد القطب تسعى إليه روسيا والصين.
إن عودة ألمانيا واليابان إلى بناء جيشيهما ولو بمباركة أميركية، سيثير الكثير من التساؤلات في أوروبا وآسيا. ولن يخفف من حدة إنبعاث المشاعر القومية وتأججها تغليف أميركا المعركة بغطاء أخلاقي وتصويرها على أنها معركة بين الخير والشر أو بين الدول الديموقراطية والدول ذات الأنظمة الإستبدادية.