الفرضيّة السّاندة لتوجّه كهذا تقوم على الاعتقاد بإمكانيّة “إخراج” أو “إعدام” (من عَدَم): الألم (La douleur) بمختلف أشكاله الجسديّة والنّفسيّة، من حياتنا في هذه الدّنيا.
وهذا ما نودّ أن نبيّن زيفه ونحذّر منه – أو نحاول – في هذا المقال. فالفرضيّة التي نرجّحها عقلاً، ونتبنّاها تجربةً وقلباً وحدساً، هي أنّ الألم جزء لا يتجزّأ من هذه الحياة. بل إنّه: لَصِفة متعلّقة بها – أي صفةٌ لا يمكن أن تنفصلَ عن هذه الحياة الدّنيا كما نعرفها (حتّى لا نقولَ: إنّها صفةٌ ذاتيّة Substancielle لها).
إنّ الألم عندنا، وببساطة: هو من صفات هذه الحياة الدّنيا، ولا يمكن تصوّر حياةٍ “دنيا” – كحياتنا – بغير أَلَم. علينا أن نعيَ هذه الحقيقة أوّلاً، ثمّ أنْ نتقبَّلَها ثانياً، وأن نتدرّبَ – ثالثاً – على التّعايش معها إلى حين انتقالنا من هذه الدّنيا.
في الخلطِ بين “الألم”.. و”المعاناة”
ما يمكن العمل على تجنّبه[1]، قدر الإمكان، هو: المعاناة (La souffrance). المعاناة شعورٌ ينتجُ، برأينا، عن فهمٍ خاطئ للمعنى من تواجد الألم. وبشكل أعم: المعاناة تنتجُ عن الوعيِ بتواجد الألم معنا، وتتأثّر بالتّالي بالزّاوية المعتمدة من قبل هذا الوعي.
فأنْ تُؤلمَكَ يدُك مسألةٌ، لكنّ وعيَك بأنّها تؤلمُك مسألةٌ أخرى. ثمّ، إنّ فهمكَ للمعنى والمقصد من وراء تواجد هذا الألم، مسألةٌ أخرى أيضاً. هناك إذن:
(١) الألم بما هو إحساسٌ و/أو شعورٌ بحت؛
(٢) الوعيُ بهذا الألم (Prise de conscience): فكم من ألمٍ متواجدٍ معنا ولكنّنا لسنا واعين به أو أنّنا ننساه؛
(٣) الفهمُ الشّخصيّ لمعنى هذا الألم والمقصد منه؛
من الواضح عندنا أنّ المعاناة تبدأ فقط مع (٢) وتستمرّ – وتسوء ربّما – مع (٣).
يمكنك إذن أن تتجنّب تركيزَ وعيِك على بعض الآلام (وهي طريقة المذاهب الرّوحيّة الآسيويّة-الشّرقيّة بشكل مبسّط وعام). أو يمكنك أن تعملَ على إصلاح فهمك الشّخصيّ للمعنى الكامن وراء تواجد هذا الألم (وهي طريقة بعض الفلاسفة الغربيّين العقلانيّين الكبار، ومذهب أغلب المتديّنين من أهل أدياننا السّماويّة – مع التّبسيط أيضاً).
إنّ الألم عندنا، وببساطة: هو من صفات هذه الحياة الدّنيا، ولا يمكن تصوّر حياةٍ “دنيا” – كحياتنا – بغير أَلَم. علينا أن نعيَ هذه الحقيقة أوّلاً، ثمّ أنْ نتقبَّلَها ثانياً، وأن نتدرّبَ ثالثاً على التّعايش معها إلى حين انتقالنا من هذه الدّنيا
لكنْ تأكَّدْ، برأيي، أنّك: تقعُ في وهمٍ عظيم الخطورة إذا ما اعتقدت بأنّه يُمكن لكَ أن تُعدمَ “الألمَ” ذاته من حياتك. وجودُ الألم (أو “تواجدُه” كما نفضّل أن نقول انطلاقاً من نظرتنا الأنطولوجيّة المذكورة في كتاباتٍ سابقة): سيستمرّ بلا شكّ إلى حين خروجك من هذه الدّنيا، وسيتجلّى في حياتك من خلال مظاهر مختلفة ومتغيّرة. إنّها قاعدة عامّة على ما يبدو: لا مفرّ من الألم في هذه الحياة.
أيضاً برأيي الشّخصي، وبعد تجارب شخصيّة متكرّرة: لا بدّ من العمل على (٢) و(٣) معاً في حياتنا العمليّة اليوميّة. لكن، قد يكون (٣) من باب الذّكاء الذّهني فقط أو من باب “بداية الحكمة”. أمّا (٢)، وهو العمل على عدم تركيز الوعي على الألم، بل على الوجود بما “هوَ هوَ” أو على الموجودات والأفكار المتعالية: فقد يكون من باب “الحكمة المحض” أو من باب “حكمة الحكمة”.
العملُ على توجيه الوعي (Conscience): هو أعلى درجةً عندي من العمل على اصلاح الفهم (Compréhension) بسبب طبيعة هذه الدّنيا وتعلّق الألم بها أصلاً.. فكم من ألمٍ ستحاول تأويلَه كلّ يوم، وكم من الزّمن ستصرفُ على عملٍ ذهنّيّ مضنٍ لن ينقطع؟ الأفضلُ أن تظلّ مركِّزاً وعيكَ وذهنكَ على ما هو أعلى: لكن هذا بحثٌ آخر طبعاً[2].
سنناقش، في الجزء التّالي، العوامل المرجَّحة (بفتح الجيم) والتي تجعل الإنسان – مع ذلك كلّه – ذا وقوعٍ متكرّرٍ في فخّ الاعتقاد – الواعي أو اللّا-واعي – بأنّه: يمكنُ بلوغ مرحلة من الحياة تكون خاليةً.. من الألم! وسنحاول، بعدها، نقاش السّؤال الأخطر، منذ قديم الزّمان، ومهما اختلفت الأممُ وتنوّعَ المكان: لماذا نتألّم؟ أو: لماذا فُرض علينا الألم في هذه الحياة؟
لكن، قبل الانتقال إلى الجزء الثّاني هذا وسؤال “الـ – لماذا”، فلنحاولْ التقاطَ بعض المفاتيح مع أحد أعظم شعراء العرب والعجم، أقصد أبا الطّيّب المتنبّي (فيما يُنسب إليه عادةً):
رَماني الدَّهرُ بِالأَرزاءِ حَتّى:
فُؤادي في غِشاءٍ مِن نِبالِ
فَصِرتُ إِذا أَصابَتني سِهامٌ:
تَكَسَّرَتِ النِّصالُ عَلى النِّصالِ
وَهانَ فَما أُبالي بِالرَّزايا
لأَنّي ما انتَفَعتُ بِأَنْ أُبالي
[1] لا مصارعته ومقاومته بالقوّة، إذا أمكن ذلك أو قدر الإمكان.
[2] أكاديميّاً، أعتمد في تأويلي للفارق المفاهيمي بين “الألم” و”المعاناة”، بحسب مقاربة عالم النّفس والطّبيب النّفساني الفرنسي المعاصر المشهور: كريستوف أندريه. André, Christophe, 2011, Méditer Jour Après Jour, Paris: L’Iconoclaste.
يقومُ جلّ عمله المذكور على هذا الفارق طبعاً: فهنالك اختلافٌ وفارقٌ ما بين تواجد الألم وبين الوعي بتواجده، والزّاوية التي نعطيها لهذا الوعي طبعاً.
أمّا بالنّسبة إلى التّعالي عن تركيز الوعي على الألم، فلا شكّ بأنّه مذهب أهل التّصوّف والعرفان عموماً، وأحيلُ المهتمّين – طبعاً – إلى أبواب “الصّبر” و”الابتلاء” في كتب المسلمين منهم. والمثال الذي أذكره دائماً هو كتاب “الأربعون حديثاً” للإمام الخميني (بيروت: دار التّعارف للمطبوعات، 2003)، وقد ذكرته مراراً في كتاباتٍ سابقة وهو غنيّ عن التّعريف.