عندما يشتد الصراع على “الممرات” الإقتصادية العالمية لفتح الطرق التجارية أمام القوى الكبرى، تبرز أهمية القوقاز الذي يضم أيضاً جمهورية جورجيا السوفياتية السابقة، كمنطقة استراتيجية غنية بالمواد الأولية والتي تشكل همزة وصل بين آسيا الوسطى وأوروبا.
لم ينزل خبر المناورات المشتركة “إيغل بارتنر 2023” بين 175 جندياً أرمينياً و85 جندياً أميركياً بين 11 أيلول/سبتمبر و20 منه قرب يريفان، برداً وسلاماً على الكرملين. وهذا الحجم المتواضع للمناورات لا يُقلل من مغزاها الإستراتيجي. فهل أرمينيا في طريقها إلى الخروج من تحت العباءة الروسية في زمن إنشغال موسكو بالحرب الأوكرانية؟
تتهم أرمينيا الجار الروسي بالإخفاق في الوفاء بتعهداته الواردة في اتفاق وقف النار مع أذربيجان عقب حرب 2020. ومن المفروض أن يكون “ممر لاتشين” بين أرمينيا وكراباخ تحت إشراف “قوة حفظ السلام الروسية” التي انتشرت هناك لرعاية الهدنة. في الأشهر الأخيرة، قدّمت مجموعات “بيئية” مدنية أذرية إلى لاتشين وأقفلت الطريق بحجة أن أعمال التنقيب عن المعادن التي يقوم بها سكان كراباخ تُلحق أضراراً بالبيئة في أذربيجان. ولم يطل الأمر حتى حضر الجيش الأذري وأقام نقطة تفتيش على الطريق.
وأدى إقفال “ممر لاتشين” إلى أزمة إنسانية داخل إقليم كراباخ البالغ عدد سكانه 120 ألفاً. ولم تفلح الوساطات التي بذلتها موسكو وواشنطن والإتحاد الأوروبي في إقناع باكو بإعادة فتح الممر. في هذا الوقت، كانت تندلع اشتباكات متقطعة على الحدود الأرمينية-الأذرية في انتهاك لوقف النار.
منذ قرنين كانت روسيا هي الحامي الفعلي لأرمينيا. وأي تغيير في هذه المعادلة يُعدُ مقامرة خطيرة يقدم عليها باشينيان الذي يتعرض لضغوط داخلية قوية، وخصوصاً من جيل الشباب، للإنفكاك عن موسكو، والتوجه غرباً. وفي الخلاصة، ما يُقدم عليه باشينيان اليوم يُعد مقامرة خطيرة، يمكن أن تشعل جبهة صراع جديدة في العالم
بالتزامن مع هذه الأحداث، بدأت الانتقادات الأرمينية لروسيا تخرج إلى العلن. وقال رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان لصحيفة “لا ريببليكا” الإيطالية في وقت سابق من هذا الشهر “إن حرب روسيا في أوكرانيا تعني أنها غير قادرة على الوفاء باحتياجات أرمينيا الأمنية”. وذهب أكثر في لغة استفزازية بقوله “إن الاعتماد التاريخي لأرمينيا على روسيا كان بمثابة خطأ استراتيجي”. كلامٌ كان من الصعب على موسكو تقبله، فردّ عليه الناطق باسم الكرملين ديميتري بيسكوف جازماً “أن روسيا جزء أساسي لا يتجزأ من المنطقة وبأنها ستواصل الإضطلاع بدورها هناك”.
ثم جاء الإعلان عن المناورات الأرمينية-الأميركية المشتركة، ليُسعّر نيران الخلاف بين أرمينيا وروسيا. وأبدى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف “أسفه” لهذا التطور الذي اعتبره بمثابة محاولة من “دولة تابعة لحلف شمال الأطلسي (يقصد الولايات المتحدة) لتأسيس نفوذ في جنوب القوقاز”. وفي اليوم نفسه، استدعت وزارة الخارجية الروسية السفير الأرميني في موسكو لكي تعرب له عن الاحتجاج على ما وصفته بموجة “العداء” التي تغلب على مواقف المسؤولين في الحكومة الأرمينية حيال موسكو.
فضلاً عن ذلك، بدأت روسيا تلمس موقفاً أرمينياً متعاطفاً مع أوكرانيا. ومنها الزيارة التي قامت بها زوجة باشينيان، آنا هاغوبيان، إلى كييف في 7 أيلول/سبتمبر الجاري ولقائها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والإعلان عن مساعدة أرمينية إنسانية لأوكرانيا. بعد ذلك، أتى الانضمام المفاجىء ليريفان إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي أصدرت مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وفي أيار/مايو الماضي عندما سئل باشينيان عن موقفه من الحرب الروسية-الأوكرانية، أجاب قائلاً:”نحن في أرمينيا لسنا حلفاء لروسيا في هذه الحرب”.
هذا الإقتراب الأرميني من واشنطن وأوروبا كان مترافقاً مع ابتعاد تدريجي عن موسكو. ولا يزال المسؤولون الروس لا يجدون تفسيراً لرفض أرمينيا المشاركة منذ عامين في مناورات منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تضم دولاً سوفياتية سابقة وأراد الكرملين أن يجعل منها نداً لحلف شمال الأطلسي. وفي الأول من أيلول/سبتمبر الحالي، رفضت يريفان رسمياً استضافة مناورات معاهدة الأمن الجماعي، مما حمل الكرملين على نقلها إلى بيلاروسيا. وانسحبت أرمينيا من المناورات بذريعة فشل دول “المعاهدة” في حماية أرمينيا مما تعتبره توغلاً أذرياً داخل أراضيها، علماً أن أرمينيا هي من قلائل الدول التي ما تزال تحتضن قاعدة عسكرية روسية على أراضيها.
وفي حال استمرار التباعد بين يريفان وموسكو، فهذا يعني التأسيس لوضعية جيوسياسية جديدة في جنوب القوقاز تتسبب بقلق ليس لروسيا فقط وإنما أيضاً لإيران، التي أعربت عن قلقها من مناورات “إيغل بارتنر 2023” ومن الوجود العسكري الأميركي في المنطقة. والقلق الإيراني مضاعف نتيجة سوء العلاقات مع أذربيجان.
تحصل هذه التحولات على وقع الحرب الروسية-الأوكرانية. وواشنطن تراقب عن كثب ارتخاء قبضة موسكو في مناطق النفوذ الروسي التقليدي، ولن تُفوّت فرصة لإستمالة دول في القوقاز أو في آسيا الوسطى.
ووقت تسعى روسيا إلى تعزيز نفوذها في إفريقيا على حساب النفوذين الأميركي والأوروبي، عبر دعم الانقلابات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، تبحث الولايات المتحدة عن ثغرات في “الفضاء الروسي” كي تتمدد فيها وتنشىء مواطىء قدم، منتهزة انهماك روسيا في الحرب الأوكرانية. والاحتكاكات الجوية الأميركية -الروسية في الأجواء السورية في الأشهر الأخيرة، كانت أيضاً بمثابة اختبار من قبل واشنطن لمدى قدرة موسكو على الوفاء بالتزاماتها على الجبهة السورية.
إن الواقع السياسي الجديد في القوقاز لا يعني بالضرورة أن أرمينيا ستكون من الرابحين. ذلك أن واشنطن لن تخاطر بإلحاق الضرر بعلاقاتها الوثيقة مع أذربيجان (الدولة النفطية والغازية)، على حساب تعزيز علاقاتها مع يريفان. وبقدر ما تستخدم الولايات المتحدة أذربيجان ورقة ضغط على إيران، فإنها تحتاج إلى تدفق نفطها إلى السوق الأوروبية تعويضاً عن الحظر المفروض على موارد الطاقة الروسية.
هل تستطيع أميركا التوسط في اتفاق سلام بين أرمينيا وأذربيجان؟ أمر يبقى مدار شكوك في ظل المحاولات السابقة التي بذلتها واشنطن في هذا السياق، ومنها جمع وزيري خارجية البلدين في اجتماعات ماراتونية قبل أشهر من دون التوصل إلى نتائج إيجابية.
رئيس أذربيجان إلهام علييف يرى أن الحرب الروسية-الأوكرانية، وفّرت له شروطاً تاريخية لإبرام تسوية تعيد له كامل كراباخ، وتُصحّح غلطة جوزف ستالين.
منذ قرنين كانت روسيا هي الحامي الفعلي لأرمينيا. وأي تغيير في هذه المعادلة يُعدُ مقامرة خطيرة يقدم عليها باشينيان الذي يتعرض لضغوط داخلية قوية، وخصوصاً من جيل الشباب، للإنفكاك عن موسكو، والتوجه غرباً. وفي الخلاصة، ما يُقدم عليه باشينيان اليوم يُعد مقامرة خطيرة، يمكن أن تشعل جبهة صراع جديدة في العالم.