الفريقان المضادان في لبنان، يتشابهان في تنفية الطائفية من شبهة الوطن. وصلت بهم الأحقاد الى حد غير مسبوق. كل فريق دعا “عدوه” الى ان يكون مثله، على صورته ومثاله، وإن لا، فليرحل. أي، إما ان يكون لبنان على صورة المارونية السياسية “الأصيلة”، لأنها أصل الكيان، وإما على صورة الشيعية السياسية، لأنها حرّرت لبنان من الاحتلال الاسرائيلي.
هكذا. نعم هكذا. هذا ليس استنتاجاً ابداً. وليس تلفيقاً. قبل ذلك، على مسمع اللبنانيين جميعاً: “كونوا مثلنا أو.. فلوا”. نعم إلى هذه الدرجة، وهذا الدرك، وصلت “السياسة” في لبنان.
الشيخ نعيم قاسم، قالها بالفم الملآن. وهبي قاطيشا القواتي، سار على منوال الشيخ: “كونوا مثلنا أو فلوا”. هذا امر مريع. ينبئ بمستقبل انحطاطي، ونهايات سود. ولا تهويل في هذا التوقع ابداً، ولا تبديل في التموضع. لن يصبح الشيعة سياسياً، موارنة. ولن تنتقل المارونية السياسية إلى الشيعية السياسية. ضدان لا يلتقيان ابداً. ولا حل لهذين الضدين إلا بتسليم الطرفين، العيش معاً، في حالة عداء سلمي، لفظي، كلامي، بلا أي مردود سياسي بالمرة. الموارنة سياسياً، ظهرهم لإيران، ووجههم إلى الغرب المسيحي، ومن معه في القوافل السنية العربية، من المحيط إلى الخليج. والشيعة سياسياً، ظهرهم للغرب المسيحي، وقبلتهم إيران، الآن وفي كل زمان.. جبلان لا يلتقيان. خطان متوازيان، إلى ابعد مدى جغرافي وزمني وسياسي.
هذا هو لبنان راهناً.. وهكذا كان. الكارثة أن اللبنانيين يطلقون النار على ذاكرتهم، ويتعمدون النسيان، ثم يستيقظون ويستسلمون لمنطق الفتنة.
لبنان ملتقى الفتن والصراعات. ولا مرة شفي من أن ينفلش. ليس مكتفياً بحدوده. الطوائف تختنق اذا لم تتنفس، مسيحياً مع الغرب، سنياً مع العرب، شيعياً مع ايران، إلى آخر ما يشتم، من أن لبنان إما راكب او مركوب. بالمعنى السياسي فقط
جدير الانتباه، إلى الانفصام التام، بين الوقائع اليومية الراهنة، في بؤسها وزوغانها وخرابها، وبين افتعال منهجي لقضايا ذات طابع استراتيجي، دولي واقليمي، ولا تقوى على حله، دول عظمى، ودول اقليمية مستنفرة عسكريا وسنياً وشيعياً ونووياً. لبنان الراكع على جبهته، الزاحف على بطونه الخاوية، الباحث عن خبز ليومه، ودواء لعلله، وغدٍ أقل بؤساً. لبنان المنهوب، وناهبوه، احياء يرزقون، يصرحون ويصرخون ويرفعون “هامة” السيادة والخوف عليها، وهو كذب ودجل ونفاق وعهد غير مسبوق. لبنان الراكع يستعطي ماءً وغذاءً ونوراً وهواء. لبنان هذا، لا تتعرف عليه الطوائف ابداً. والطوائف كلها دسمة و”مليانة” مالاً وعقاراً وخوَّة (تحت عنوان التآخي الكاذب). لبنان هذا الذي يعاني سكرات الموت، لا يهز شعرة من رؤوس السياسيين الطوائفيين، ما أكثرهم.
لبنان هذا اليوم يتسوَّل كل شيء، فيما الطوائفيات متخمة، وتهرب من شبح مجاعة الناس، إلى خوض معركة كلامية ضروس لتغطية وتناسي مأساة الناس، بل مآسي الناس الغلابى. وبعضهم عميان، يصدقون أن المعركة في لبنان، هي حول السيادة. متى كان لبنان سيداً مستقلاً؟ طول عمره، كان ساحة. ساحة لكل الاضداد. ساحة وسيعة، تلتقي فيه التناقضات، بسرعة. هذا أمر معروف. ليس في لبنان، لبنانيين أبداً.
لبنان ملتقى الفتن والصراعات. ولا مرة شفي من أن ينفلش. ليس مكتفياً بحدوده. الطوائف تختنق اذا لم تتنفس، مسيحياً مع الغرب، سنياً مع العرب، شيعياً مع ايران، إلى آخر ما يشتم، من أن لبنان إما راكب او مركوب. بالمعنى السياسي فقط.
خطير جداً ما بلغته معركة الأحقاد المتبادلة. والخطر، صدف أن عرفناه وعايشناه ودفعنا ثمنه دماءً وجراحاً. الكلام الطائفي، الغل المذهبي، فتك باللبنانيين، فتغيرت الجغرافيا السكانية. كان اللبنانيون منتشرين ومتقوقعين معاً. كل منطقة في لبنان، تضم اكثرية من طائفة او مذهب. وكانت المناطق مختلطة، مع ارجحية لطائفة على أخرى. أي أن المناطق، ليست نقية وصافية، بل يشوبها اناس، وهم قلة، مغلوبة على امرها.
حدث أن تغيرت جغرافية لبنان، في “حوادث” 1958.
ثم انقلبت الجغرافيا، فتم إفراغ مناطق من اقلياتها. هذا ما ترويه مذكرات المجازر: النبعة خلصت. الشيعة هجروها. الضاحية خلصت. المسيحيون هجروها. والهجرة هنا، ليست اختيارية. كانت عمليات دامية في جبل الشوف، فرُحّل منه الموارنة، الدروز انتقموا من فتنة “الستين”. كسروا تمثال فخر الدين “الماروني”. بيروت الغربية فرغت من مسيحييها. بيروت الشرقية “شرحو”. السنة، اقلية فيها. ماذا نقول عن قرى الجنوب؟ عن قرى البقاع؟ لقد باتت اكثرية المناطق صافية طائفياً. و”العترة” على من ظل أقلية، في ظل طائفة متنمرة. والطوائف في لبنان، تحوز على الكأس الذهبي، في مباريات التنمر.
ذاكرة اللبنانيين مثقوبة، بل مشروخة. العمى الطائفي، يكبر ويعظم من مساوئ الخصم أو العدو، ويبرئ معسكره ويضعه في حضن التحريم. وغداً، إذا وقعت الواقعة الانتخابية، فالكثرة على يقين بأن المتطرفين في الطوائف، سيفوزون في سباق الفرز
يا قادة الطوائف. أنتم تعرفون لبنان جيداً. تعرفون مآثره الدموية كثيراً. ماذا أنتم فاعلون يا لبنانيين. لقد نجحتم في حرف الحقائق المرة. ساندكم إعلام يؤجج الاحقاد والفتن. الاعلام المرئي لا يقصّر ابداً. هو وفي لطائفته ومحفظة نقوده. المعارك الاقليمية الناطقة تحتل نشرات الاخبار والحوارات المتقنة والمدروسة، والتي تصيب الطائفي بالهياج، دفاعاً عن ترسانته. انه لا يسأل عن الرغيف، بل عن موقع الزعيم.
ذاكرة اللبنانيين مثقوبة، بل مشروخة. العمى الطائفي، يكبر ويعظم من مساوئ الخصم، او العدو، ويبرئ معسكره ويضعه في حضن التحريم. وغداً، إذا وقعت الواقعة الانتخابية، فالكثرة على يقين بأن المتطرفين في الطوائف، سيفوزون في سباق الفرز. الثنائي الشيعي مضمون. تحشيده يومي. شعار: “شيعة.. شيعة”، جاهز. وهو شعار شعبي متين ومُعبّر، مع الأسف. الأحادية الدرزية مطمئنة على ما ستحصده. تخاف على خسارة الأتباع من الطوائف الأخرى. الموارنة، سيخوضون حرباً مارونية – مارونية، مع حمولة ثقيلة من التشويه المتبادل. القوات اللبنانية “تسعودت”. التيار الوطني “تشيع”. اثارة الغرائز أهم بكثير من المال الانتخابي. لا مبادئ ابداً. لا برامج ابداً. السنة في حيرة انتخابية. رأس المعركة غائب والآخرون في غيبوبة. حصة الآخرين، مما تبقى من الحراك، ستكون ضئيلة جداً. والحق عليها كثيراً.
ماذا بعد؟
لا شيء غير الأسوأ.
لقد بلغ السوء محطة خطيرة: اللبنانيون الغلابى “فلوا”.. والباقون يرجون ذلك.
إذاً؛ هذا ليس وطناً. هذا مسخ. هذه مطحنة طائفية تسحل كل القضايا.
لذا، تجوز الرحمة على الأحياء، الذين سمعوا نداء “فلوا” وأصَّروا على البقاء، حتى النفس الأخير.